(العبقرية تُولَد ولا تُصنَع) هو اعتقاد خالد وواسع النطاق، ويشمل كل العباقرة المزعومين، أصحاب الإنجازات الكبيرة في الفنون والعلوم، أولئك المنتمين لمجموعة واسعة متنوعة من المجالات التجارية والسياسية والاجتماعية، بالإضافة إلى أولئك الذين يبدو أنَّ قدَرهم هو تحقيق الإنجازات الكبيرة، والآخرين الذين لديهم مهارة وإنجاز ولكنَّهم هادئون ومثابرون ولم يُقدِّرهم أحد بعد.
ولكن العبقرية، كما تُعرَّف في المعاجم بوضوح؛ هي التمتُّع بقدرة كبيرة وإنجاز عقلي عالي المستوى. ومن ثم، فاستخدام مصطلح (العبقرية) فيما يتعلَّق بالإبداع مُربك قليلًا، إذ ليست كل نواتج العبقرية،مثل الأداء البارز الثابت في إجراء عملية جراحية نموذجية، أو مهارة جيِّدة في حل المشاكل باستمرار؛بالضرورة مبدعة، أي منتجة لشيء جديد وقيِّم. والعكس، ليست كل النواتج الإبداعية مثل، برنامج حاسوبي قيِّم وجديد؛ بالضرورة من صنع العبقرية.
ومع ذلك، ربما تتداخل العبقرية والإبداع كثيرًا بصورةٍ مُتكرِّرة. هناك إجماع واسع على إمكانية تداخل الإبداع والعبقرية اللذين يقومان على القدرة والمهارة العالية في العلوم وفي المجالات الأدبية والموسيقية والفنية. يتضمن كلاهما حافزًا ودافعًا قويًّا للعمل على مشروعٍ واحد ليل نهار وعلى مدار شهورٍ وسنوات. ومن ثم، من المفترض أنَّنا سنكشف عن بعض خصائص العبقرية الحقيقية في التقييمات التالية التي تركِّز على المبدعين الفائزين بالجوائز في العلم والفن.
إنَّ الأدلة العلمية على أنَّ العبقرية تولَد لا تُصنَع، أو أنَّ الإبداع موروث؛ فقيرة جدًا، فهي حاليًا غير موجودة تقريبًا في الحقيقة. فقد أعابت دراسةَ (العبقرية المتوارثة) الكلاسيكية، التي أجراها فرانسيس جالتون في القرن التاسع عشر عن توريث العبقرية من الأب للابن، إحصائيًّا ممارسةُ (البكورية) الإنجليزية، أي توريث التجارة والفرص والوظائف من الأب إلى الابن الأكبر. وقد وصلت الدراسات الأخرى التي أجريت منذ ذلك الحين، والتي قامت على الإرث الوظيفي والتوزيع المحلي والمؤقت، إلى نتائج متنوَّعة وسلبية أساسًا (الإشارة هنا إلى دارسات جالتون وآخرين، وإلى دراستي عن المبدعين الأدبيين).
ثبت بصورةٍ غير مباشرة أنَّ هناك عاملًا واحدًا، هو الذكاء؛ ينتقل جينيًّا، وقد كان هذا العامل من أبعاد كثيرة متنوعة هامًا للإنجازات البارزة، الإبداعية وغير الإبداعية، وخاصةً في العلوم.
لكي أقيِّم التوريث والنقل الوظيفي عند الأشخاص المبدعين البارزين، صنعتُ مخططًا بأنماط الوظائف المرصودة لـ435 من بين 488 فائزًا بجائزة نوبل للعلوم (الفيزياء، والكيمياء، والفسيولوجيا أو الطب) منذ سنة بدء جائزة نوبل، عام 1901، وحتى عام 2003. كما صنعتُ مخططًا بخلفيات 216 شخصيةً أدبيةً بارزةً: 50 فائزًا بجائزة نوبل للأدب، و135 حاصلًا على جائزة بوليتزر الأدبية، و31 فائزًا بجائزة مان بوكر الإنجليزية.
وجدتُ ثلاث سمات هامة فيما يخص الخلفية الأسرية، أولًا: لم يرث أيٌ من الفائزين بجائزة نوبل للعلوم والفائزين بالجوائز الأدبية الوظائف من آبائهم من نفس الجنس (<2%، و<1% على التوالي)، وهو ما يتعارض بصورةٍ كبيرة مع آخر قياس سكاني أمريكي مُفصَّل للوظائف الأبوية، والذي يشير إلى أنَّ 21% من الأبناء يعملون بنفس الوظائف التي عمل بها آباؤهم من نفس الجنس. كما قستُ أيضًا مجموعة ضابطة مختارة من 548 شخصية بارزة دولية مُحدَّدة في كتاب Cradles of Eminence لجورتزل وجورتزل، ويعيشون جميعًا خلال نفس الفترة التي عاش فيها الفائزون بنوبل وبالجوائز الأدبية. كانت من بين المجموعة التي تتكوَّن من غير العلماء نسبة إحصائية عالية جدًا، 20%، من الأبناء الذين يعملون في نفس وظائف آبائهم من نفس الجنس، بينما كانت من بين المجموعة التي تتكوَّن من غير الأدباء نسبة أكبر، 61%، من الأبناء الذين يعملون في نفس وظائف آبائهم من نفس الجنس.
ثانيًا: كان بكُلٍّ من المجموعتين المبدعتين أعداد كبيرة جدًا ممَّن عمل آباؤهم في نفس الوظائف التي كانت إمَّا تكنولوجية أو ما يعادلها من وظيفةٍ أدائية في العلوم (النسبة بين علماء نوبل 53%) أو ما يعادلها من وظيفة أدائية لغوية في الأدب (النسبة بين الفائزين بالجوائز الأدبية 47%)، بينما في التقرير السكاني الأمريكي المُفصَّل الأخير كان 12% فقط يعملون في مثل هذه الوظائف.
ولتقييم هذا التوزيع القائم على الوظائف التطبيقية/الأدائية، قستُ نوعًا آخر من المجموعات الضابطة، كانت المجموعة تتكوَّن من 560 شخصية ذات معدل ذكاء عالٍ جدًّا لم تفُز بجوائز، درسها تيرمان وآخرون دراسةً منهجيةً في (Genetic Studies of Genius). كانت من بين هذه المجموعة نسبة منخفضة جدًا (26%) من الآباء من نفس الجنس الذين يعملون في العلوم، و(17%) من الذين يعملون في الوظائف الأدائية أو التطبيقية.
تشمل أمثلة الوظائف الأدائية التطبيقية التي يعمل بها بعض آباء الفائزين بجائزة نوبل للعلوم والد الفيزيائي والرياضي آينشتاين، والذي كان يعمل مهندسًا كهربائيًّا، وكان والد عالم الكيمياء الحيوية لينوس باولنج صيدليًّا، ووالد عالم الذرة الفيزيائي جلين سيبورج خبير ماكينات، وكان آباءُ فائزين آخرين بجائزة نوبل يعملون وظائف مثل اختصاصي الأشعة واختصاصي علم المناخ وهكذا. أمَّا بين المجموعة الحاصلة على جوائز أدبية فكانت الوظائف في المجموعة التي يعمل آباؤها من نفس الجنس في نفس الوظائف تشتمل على مهارات فنية أو لغوية أو مهارات الإقناع. فكان والد يوجين أونيل على سبيل المثال مُمثِّلًا، وكان كلٌ من والد جون هيرسي ووالدة بيرل باك مُبشِّرًا، وكان والد ثورتون وايلدر مُحرِّرًا وناشرًا.
ثالثًا: بالإضافة إلى وظائف الآباء، فوجئت عند اكتشافي إشارات إلى أنَّه كانت لدى الآباء من نفس الجنس للعلماء الفائزين بنوبل (بنسبة 24%) والفائزين بالجوائز الأدبية (بنسبة 36%) أمنيات لم تتحقَّق بالعمل في المجال العلمي أو طموحات لم تتحقَّق بكتابة الروايات والقصائد والمسرحيات. فقد تخلَّى والد الروائي والشاعر روبرت بن وارن على سبيل المثال عن طموح حياته بأن يُصبِح شاعرًا، لكي يُنفِق على أسرته، وقد اعترف لي وارن شخصيًّا بأنَّه كان راضيًا بتحقيق طموح والده وتجاوزه أيضًا.
درس والد الفيزيائي ريتشارد فينمان في كلية الطب، وتمنَّى لو كان عمل عالم أبحاث بدلًا من ذلك، ومن الواضح أنَّه قد علَّم ابنه لاحقًا كيفية التفكير بطريقةٍ علمية. الأطفال يتأثَّرون بسرعة بميول الآباء وأمنياتهم التي لم تتحقَّق، ويشير هذا الأثر الكبير نسبيًّا في هذه المجموعة الأبوية إلى تشابه إيجابي الآباء وتحقيق أمنياتهم وأحلامهم.
يشير العدد الكبير من الآباء من نفس الجنس الذين يعملون في مجالات معادلة متصلة، سواء كانت تطبيقية أو أدائية؛ إلى جانب جديد من التشابه الأبوي الإيجابي. وإلى جانب هذا التشابه الإيجابي، من المحتمل أن تكون المنافسة من أجل التفرُّد قد وقعت مع الأب من نفس الجنس. فالكاتب أو العالم الناشئ كان يتنافس من أجل التمادي من الناحية الكيفية، فمن المحتمل وجود كل من عنصر الاهتمام ومشاركة عمل الآباء التطبيقي الذي يُركِّز على العلم أو اللغة، بالإضافة إلى الأمنية الشرسة وهي حلّ محلّهم في مجال متصل مع الحصول على تمييز اجتماعي أكبر كثيرًا.
قد تُمثِّل العوامل المُحفِّزة الثلاثة؛ التشابه المرتبط بالمهنة، والتنافس، وتحقيق أمنيات الأب التي لم تتحقَّق؛ حوافز قوية للإنجاز، ومن المحتمل أن تكون مسؤولة بدرجةٍ كبيرة عن الدافع القوي للإنجاز الأدبي والعلمي في أعلى المستويات.
ومن ثم، يبدو أنَّ التأثيرات الأسرية تلعب دورًا في تطوُّر أنواع مختلفة من الأشخاص المبدعين، بمن فيهم العباقرة المبدعون. تنجح عملية القوة المزدوجة للتشابه والتنافس، خاصةً مع الأشخاص الذين يتمتَّعون بدرجةٍ ما من المهارة الجينية الموهوبة المرتبطة بوظائف الآباء المتصلة التطبيقية أو الأدائية، بالإضافة إلى أنواع خاصة من الذكاء، في إنتاج دافع قوي للإنجازات الإبداعية يدوم طوال الحياة. فالمثابرة الشديدة، والدافع الاستثنائي للعمل، والاستكشاف، والرغبة في المخاطرة -وهي كلها سمات يتمتَّع بها الأشخاص المبدعون في مجالات متنوعة -تدفعها على الأرجح التأثيرات الإنمائية.
إنَّ تحقيق الأمنيات الأبوية الخفية أو الظاهرة في أن يُصبِحوا علماء، أو ما يوازيها؛ كُتَّابًا مبدعين، قد يكون حافزًا قويًّا على نحوٍ خاص، سواء كان الابن على وعيٍ ظاهر به أم لا. وعندما يكون هذا المُتغيِّر خفيًّا قد يكون له، في الحقيقة؛ تأثير نفسي أقوى من التوجيهات الظاهرة على الخيارات والسلوك.
ربما تكون المهارات الخاصة، سواء كانت موروثة أم مكتسبة، نابعة من وظائف الآباء الأدائية أو التطبيقية. هناك ممارسات تربوية أخرى قد تزرع أنماط التفكير الإبداعية (التي وصفتها في موضع آخر في كتاب Flight from Wonder) والإخلاص في التعلُّم. كما اكتشفتُ أنَّ آباء الفائزين بنوبل وجوائز عديدة أخرى، كانوا يُشجِّعون أبناءهم ويوفِّرون لهم الكثير من التعليم والتدريب التمهيدي وكذلك المُتقدِّم، رغم كونهم فقراء إلى حدٍ ما في الكثير من الحالات، أو أمِّيين أو مُشرَّدين. وإجمالًا، يبدو أنَّ الحقيقة الأساسية هي أنَّ العباقرة والمُفكِّرين المبدعين يُصنَعون ولا يولَدون.