وسط زخم الأحداث التي تعيشها الجمهورية الإيرانية، من الانتخابات البرلمانية المثيرة للجدل، ونسبة المشاركة الأكثر تدنيًّا منذ عام 1979، إلى الانتشار السريع لفيروس كورونا الجديد القادم من الصين، والذي طال حتى المسؤولين في الحكومة الإيرانية؛ هناك خبر سيئ آخر يضاف إلى قائمة الأخبار المؤسفة التى تتكالب على إيران منذ بداية العام الحالي. ففي 21 فبراير (شباط) الماضي، أي اليوم نفسه الذي أُجريت فيه الانتخابات البرلمانية الإيرانية؛ أعلنت «فرقة العمل المالي»، إدراج إيران على قائمتها السوداء، بعد سنوات من الصبر، على أمل إقناع طهران بالامتثال للتدابير الخاصة بفرقة العمل المالي.
و«فرقة العمل المالي» التي يشار إليها اختصارًا بـ«فاتف» أو «FATF»، هي منظمة حكومية دولية، تأسست عام 1989، مقرُّها باريس، للعمل على مكافحة تمويل الإرهاب وغسيل الأموال. وتنشر كل أربعة أشهر، قائمة للإعلان الدول التي لا يوجد بها قوانين لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، وتعرف هذه القائمة باسم «القائمة السوداء».
في السنوات القليلة الماضية، خاضت إيران معركة حول تشريع قوانين مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، لكي تتمكن من الخروج من القائمة السوداء لفرقة العمل المالي، لكن تلك المعركة التي بدأها الرئيس المعتدل حسن روحاني وإدارته، انتهت إلى العودة مرة أخرى إلى القائمة السوداء.
في البدء.. كان الاتفاق النووي
كانت إيران مدرجة على قائمة «فرقة العمل المالي» السوداء، لسنوات عديدة، ولكن بعد إبرام الاتفاق النووي بين إيران والقوى العالمية عام 2015، تغيرت الأوضاع، وبدأ الغرب في التعامل مع إيران وإخراجها من عزلتها.
عندما دخل الاتفاق النووي الإيراني، أو ما يسمى خطة العمل الشاملة المشتركة حيز التنفيذ عام 2016، أقدمت «فرقة العمل المالي» على خطوة عدها بعض الخبراء غير دقيقة، ولكنها ضمنيًّا كانت تحمل تشجيعًا لإيران، كي تمد جسور علاقتها بالنظام المصرفي الدولي.
جانب من احتفال الإيرانيين بالاتفاق النووي عام 2015
أزالت «فرقة العمل المالي»، إيران مؤقتًا من القائمة السوداء، حتى تتمكن من تشريع القوانين اللازمة، لإزالتها من تلك القائمة نهائيًّا، وحينها تكون لديها القدرة على إقامة معاملات مصرفية مع مختلف الدول الأوروبية بأمان.
بعدها، قدمت إدارة الرئيس حسن روحاني مشروعات أربعة قوانين للبرلمان، من أجل التصويت عليها. وفي عام 2018 وافق البرلمان الذي كان حينها يتمتع بأغلبية إصلاحية، على دراسة مشروعات القوانين، بغرض الانضمام إلى اتفاقيات «فرقة العمل المالي» والأمم المتحدة، لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، ومن هنا بدأت المعركة بين المؤيدين والمعارضين لتلك القوانين!
ترى إدارة الرئيس حسن روحاني المعتدلة وأنصاره من الإصلاحيين، أن إقرار تشريع تلك القوانين الأربعة، من شأنه أن يساعد الاقتصاد الإيراني على التحسن، وخروج النظام المصرفي الإيراني من عزلته، بجانب توفير الأمان للتجارة الخارجية مع البلدان الغربية.
أما المنتقدون لتلك القوانين؛ فيرون أن الأمر ما هو إلا مزيد من التنازلات الإيرانية إلى الغرب، والسماح لهم (الغرب) بالاطلاع على معلومات شديدة الحساسية كما وصفوها. بجانب عدم تمكين إيران من مساعدة «حزب الله» اللبناني أو أي كيان آخر تعده الولايات المتحدة منظمة إرهابية.
العودة للمربع صفر.. ترامب ينسحب من الاتفاق النووي
بعد أن قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، سحب بلاده من الاتفاق النووي في مايو (أيار) 2018، وإعادة فرض العقوبات الاقتصادية على طهران، أصبح أي حديث عن الموافقة على مشروعات القوانين والانضمام إلى اتفاقيات مكافحة غسيل الأموال، وتمويل الإرهاب، يعد خيانة من وجهة نظر المحافظين.
يرى النائب البرلماني المحافظ، وعضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية بالبرلمان السابق، محمود نبويان، أن مشروعات القوانين المقدمة من إدارة روحاني، ورغبة المعتدلين والإصلاحيين في الامتثال لتعليمات «فرقة العمل المالي»، إهانة للشعب الإيراني، خاصة بعد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي.
يقول نبويان لـ«ساسة بوست»: «رفضنا تلك المشروعات في البرلمان السابق، وسنواصل رفضها في البرلمان الحالي، بأي حق نعطي لأمريكا والغرب فرصة الاطلاع على أدق المعلومات في الجمهورية الإسلامية، خاصة بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي».
المجلس الذي يتحكم في كل شيء يقف أمام تمرير القوانين
بالرغم من وجود معارضة داخل البرلمان من قبل التيار المحافظ على مشروعات هذه القوانين، فإن البرلمان السابق، والذي كان يرأسه علي لاريجاني، أبدى تأييده لتلك القوانين وخطوة الانضمام إلى اتفاقيات «فرقة العمل المالي»، واستطاع تمرير مشروعات القوانين الأربعة والتصويت عليها بموافقة الأغلبية.
وهنا يأتي دور «مجلس صيانة الدستور»، الذي يسيطر عليه المحافظون ويتحكم في كل شيء داخل إيران، والذي من ضمن صلاحياته الهائلة، مراجعة مشروعات القوانين بعد التصويت عليها في البرلمان، للتأكد من عدم مخالفتها للشريعة الإسلامية والقانون.
رفض «مجلس صيانة الدستور» الموافقة على مشروعي قانونين، وأصدر العديد من الملاحظات عليهما، وأعيدا مرة أخرى إلى البرلمان للتدقيق، والعمل على ملاحظات المجلس.
استمرت تلك العملية ذهابًا وإيابًا لعدة أشهر، وفي كل مرة تمدد «فرقة العمل المالي» الفترة المسموح بها لإيران من أجل تشريع القوانين، إلى أن وصلت الأمور إلى نقطة خلاف كبيرة.
جدير بالذكر أنه عندما يجري النزاع بين البرلمان و«مجلس صيانة الدستور» بشأن مشروع قانون جديد، يتدخل «مجلس تشخيص مصلحة النظام» الذي يكون الحكم الفصل بين البرلمان وصيانة الدستور، وإذا عجز عن القيام بهذا الدور يحول الأمر برمته إلى الزعيم الأعلى للبلاد آية الله علي خامنئي.
موقف خامنئي الغامض..
في 20 يونيو (حزيران) 2018، اجتمع القائد الأعلى آية الله علي خامنئي بأعضاء البرلمان السابق، وحذرهم ضمنيًّا من قبول أجزاء من مشروعات القوانين المقترحة للامتثال إلى تدابير «فرقة العمل المالي»، قائلًا: «ليس هناك حاجة لقبول الأشياء، بسبب بعض الجوانب الإيجابية بها، عندما لا نعرف إلى أين تقودنا، وعندما نعرف أن بها عيوبًا».
في أعقاب هذا الاجتماع، وموقف خامنئي الغامض الذي لم يستطع أحد الوصول إلى رأي نهائي منه بالموافقة من عدمها، كانت «فرقة العمل المالي» تعقد اجتماعها الدوري يوم 29 يونيو 2018، وقررت منح إيران ثلاثة أشهر أخرى لمعالجة الأمر.
بعد اجتماع خامنئي مع نواب البرلمان، صرح محمود صادقي النائب الإصلاحي السابق، بأنه قد عُقد اجتماع ثلاثي بين حسن روحاني، ورئيس البرلمان علي لاريجاني، والمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، لمناقشة أمر القوانين، وقد وافق المرشد عليهم ضمنيًّا، وأنه لا توجد لديه مشكلة في مشروعات القوانين.
في الوقت نفسه لم يعلق مكتب المرشد على تصريحات النائب البرلماني محمد صادقي، فأصبح هناك احتمالان، الأول بحسب تصريحات خامنئي في الاجتماع بأنه غير موافق على بعض الأمور في مشروعات القوانين، والاحتمال الثاني، أن روحاني استطاع إقناعه ووافق ضمنيًّا.
مال الكثيرون وقتها إلى الاحتمال الثاني، خاصة بعد أن خاطب الرئيس حسن روحاني في رسالة آية الله أحمد جنتي رئيس «مجلس صيانة الدستور»، يحثه فيها على تسريع عملية الموافقة على مشروعات القوانين الأربعة.
جواد ظريف «يزيد الطين بلة».. غسيل الأموال يحدث في إيران على نطاق واسع
في وسط كل هذا الجدل حول مشروعات القوانين والشد والجذب؛ خرج وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف ليزيد الأمور صعوبة، ويصرح خلال مقابلة صحافية معه، في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 2018، بأن «غسيل الأموال حقيقة في بلدنا، وتحدث على نطاق واسع بمليارات الدولارات». لكنه لم يُسمِّ أيًّا من الأفراد أو المؤسسات المتورطة في عمليات غسيل الأموال في إيران.
زادت تلك التصريحات من حدة الهجوم على شخص جواد ظريف من جهة، وعلى مشروعات القوانين من جهة أخرى، فهاجم النائب المحافظ جواد قدوسي الوزير قائلًا «هو سبب كل المشكلات التي تمر بها البلاد، من جراء الصفقة الفاشلة التي أبرمها مع الغرب، والآن يريدون الموافقة على قوانين من شأنها جعل الغرب يتجسس ويتحكم في أموالنا».
موافقة ثلثي البرلمان.. خامنئي يتفنن في وضع العقبات
انتظر النواب المؤيدون لمشروعات القوانين، والحكومة الإيرانية كثيرًا أي إشارة واضحة من الزعيم الأعلى لتمرير القوانين، والفصل في الأمور بعد أن تعقدت برفض «مجلس صيانة الدستور» مشروعات القوانين، ومرور الوقت وانتظار «فرقة العمل المالي» لاستكمال البلاد الخطة المتفق عليها للانضمام إلى الاتفاقيات السابق ذكرها.
لكن آية الله علي خامنئي قرر وضع المزيد من العقبات، أمام تمرير تلك القوانين، التي لم تكتمل إلى الآن، فطلب خامنئي تصويت البرلمان مرة أخرى بعد ملاحظات «مجلس صيانة الدستور»، وأن يكون التصويت بأغلبية ثلثي البرلمان شرطًا لتشريع تلك القوانين.
يقول الصحافي البرلماني مصطفى جعفر زاده لـ«ساسة بوست»: «ليس هناك أي سند قانوني لطلب آية الله خامنئي، فتصويت ثلثي البرلمان يجري في حالة التصويت على عزل رئيس الجمهورية فقط».
«اللعبة انتهت».. أمريكا تعلن «الحرس الثوري» منظمة إرهابية
تماشيًا مع الخطة التي وضعتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع إيران، أعلنت الولايات المتحدة في 8 أبريل (نيسان) 2019 الحرس الثوري الإيراني، منظمة إرهابية.
كان من ضمن الآثار المترتبة على تلك الخطوة الأمريكية، القضاء على أمل لتمرير مشروعات قوانين مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، داخل إيران. إذ صرح أحمد توكلي، عضو «مجلس تشخيص مصلحة النظام» في 9 أبريل، بأنه «بعد تعيين الحرس الثوري منظمة إرهابية، لا يمكن الموافقة على تلك القوانين».
ظلت الأمور تجري على هذا المنوال، إلى أن وصلنا إلى إعلان «فرقة العمل المالي» إدراج إيران على قائمتها السوداء، في يوم الانتخابات البرلمانية نفسه، في ظل توقعات بمجيء برلمان يسيطر عليه المحافظون.
يقول الصحافي الإيراني مصطفى جعفر زاده، لـ«ساسة بوست»: «عندما كان البرلمان يتمتع بأغلبية إصلاحية، لم يتمكن من تمرير أي من تلك القوانين، فلا أمل في البرلمان القادم، ويبدو أن «فرقة العمل المالي» قد أدركت هذا الأمر، وأصدرت قرارها المشؤوم».
لكن.. ما تبعات قرار «فرقة العمل المالي» على الاقتصاد الإيراني؟
يرى أستاذ الاقتصاد مهدي بازوكي أن إدراج إيران على القائمة السوداء لفرقة العمل المالي سيجعل الاقتصاد الإيراني يتعرض للمزيد من الضغوطات. يقول بازوكي لـ«ساسة بوست»: «فشل إيران في الانضمام إلى اتفاقيات مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، يبعث رسالة سلبية إلى الدول الأوروبية، مفادها أننا لا نريد التعامل مع الغرب».
وبسبب العقوبات الأمريكية الثانوية، تخشى العديد من الشركات والبنوك الأوروبية التعامل مع إيران. وبوضع الولايات المتحدة المزيد من العقبات أمام وصول إيران إلى النظام المصرفي العالمي؛ تصبح التجارة الخارجية مع العالم في غاية الصعوبة.
وتجدر الإشارة إلى أن إيران كانت قد لجأت إلى روسيا والصين في التعاملات التجارية، لكن حتى هاتين الدولتين، قد نصحتا إيران بضرورة الامتثال لتدابير «فرقة العمل المالي»، وتجنب القائمة السوداء.
يقول بازوكي «بالرغم من أن روسيا تخضع لعقوبات أيضًا، وبالرغم من أن الصين وروسيا مستمران في التعاون التجاري مع إيران تحت العقوبات الأمريكية، فإنهما في الوقت نفسه، سيفكران ألف مرة قبل أي تعاملات مالية مع إيران، بعد قرار فرقة العمل المالي».
يرى بازوكي، أن النظام المصرفي الإيراني على حافة الانهيار بعد القرار الأخير لفرقة العمل المالي، وأن المستثمرين الإيرانيين الذين يتعاملون مع الخارج ستكون أمامهم مهمة شاقة، وستصبح التجارة الخارجية أكثر صعوبة من أي وقت مضى. يقول بازوكي «لا بد من أن يجد البرلمان الجديد حلًّا لتلك الأزمة، وإن كنت أشك في هذا الأمر».