أنبلُ الأسيافِ… حرفٌ من فمكْ
عن أناشيد الغجرْ
أجملُ البلدانِ إسبانيا، ولوركا يا صبايا
أجملُ الفتيانِ فيها
*محمود درويش
تحتفل إسبانيا بالذكرى الثمانين لشاعرها «فيديريكو جارثيا لوركا» الذي جاء مقتله مبكرًا بعد حياة قصيرة لم تتجاوز 38 عامًا، لتضع نهاية شهرةٍ في أوجها تخطت موطنه إسبانيا لتصل إلى العالم، ولتصدم الإسبان في بداية الحرب الأهلية الإسبانية التي راح ضحيتها آلاف من مواطنيها بين قتلى ومشردين، وانتهت بحكم الديكتاتور فرانكو.
ولأكثر من ثلاثين عامًا حكم فيها فرانكو البلاد، خبأت إسبانيا جراحها ولم تحدث محاولة لإثارة مقتل لوركا، وبقيت القضية طي الكتمان، وظل الحادث رمزًا مؤلمًا للقتلى الذين أودت بحياتهم الحرب الأهلية الإسبانية. لكن صاحب «عرس الدم» لا يزال وبعد ثمانين عاما من مقتله حيًا في بقاع من الأرض لم يزرها أبدًا، حاملا صوت وطنه إلى العالم بأسره، وهنا جولة في حياة لوركا وأعماله التي تابعها الجمهور العربي وتأثر بها كتابه أيضا.
أخ للجميع
في غرناطة عام 1889 وُلد فيدريكو جارثيا لوركا والتحق بعد ذلك بجامعة غرناطة ليدرس الأدب والقانون، ثم غادر إلى مدريد عام 1919 حيث التقى بالكثير من شعراء وفناني جيله، وتفاعل معهم وتأثر بهم وكان أولهم الفنان سلفادور دالي. التقى بعد ذلك بالموسيقار مانويل دي فايا وتعلم الموسيقى على يديه، وشكّلت مقولته «الوصول إلى العالمية عبر المحلية» أيام لوركا التالية.
التقى لوركا في مدريد أيضا بمجموعة من الشعراء منهم بيدرو ساليناس،و رافائيل ألبرتي وداماسو ألونسو و خيراردو دييغو الذين كوّنوا ما أُطلق عليه «جيل 27»، وهو الجيل الذي أثّر في الحياة الأدبية في إسبانيا وأمريكا اللاتينية عقب الحرب العالمية الأولى.
«فيدريكو أنت عبقري!»
جمع لوركا أشعاره في عام 1927 في كتاب بعنوان « الأغاني الغجرية»، امتلأت بشوق للحياة والحب والأرض، وبصراعات الغجر مع الشرطة، وكتب له سلفادور دالي تعليقا عليها «فيدريكو أنت عبقري، ما تكتبه حاليا هو الشعر السريالي، لا تضيع موهبتك». أثارت القصائد دهشة وإعجاب القراء الإسبان وغيرهم، وكانت بداية شهرة لوركا، وترجمت إلى عشرين لغة. واعتبرها البعض بمثابة تكملة للأزجال المغربية التي تغنت بجمال غرناطة أيام الأندلس.
زار لوركا الولايات المتحدة عام 1929، وعاش هناك أزمة هي أحد أعمق أزمات حياته إذ صدمته الحضارة الأمريكية، حين اكتشف أن «عددا قليلا من المصرفيين عديمي الضمير هم من يملكون العالم»، وكان نتاج زيارته مجموعة «شاعر في نيويورك«، توجه بعدها لجولة في دول أمريكا الجنوبية؛ كوبا، والأرجنتين، والبرازيل، وأورغواي، وتشيلي. في زيارات أثّرت كثيرا في شعره ورسومه وأفكاره.
أنا أخ للجميع وأمقت الإنسان الذي يضحي بنفسه لأجل فكرة قومية مجردة لمجرد أنه يحب وطنه، معصوب العينين. فالصيني الطيب أقرب إليَّ من الإسباني الخبيث. أنا أتغنى بإسبانيا وأحس بها في نخاعي الشوكي؛ ولكنني قبل كل شيء مواطن للعالم وأخ الجميع – لوركا
لم يكن لوركا شاعرًا فقط، كان موسيقيًّا أيضا وقد جمع الألحان الشعبية الفولكلورية التي كانت متداولة في الأندلس، وقام بتدوين نحو ثلاثمئة لحن منها، وأعاد توزيعها توزيعًا جديدًا، باستخدام آلات جديدة. كانت الموسيقى معشوقة لوركا الكبرى وهي التي حملت شعره، وشكلت لونًا خاصًا في التراث الموسيقي الإسباني أغرى العديد من الفنانين باتباعه.
التربة الإسبانية
ومن عام 1933 وحتى عام 1936، كتب لوركا عددًا من المسرحيات، بينها « يرما»، و«بيت برناردا ألبا» ورائعته «عرس الدم» التي سجلته كاتبا مسرحيًّا عالميًّا، حيث صور فيها الحياة في الريف الأندلسي والدم الذي يُراق فيه دون ثمن في سبيل الثأر والعرض، وبدا فيها تأثرًا بالبيئة العربية والأندسية وهو أثر تتبعته كتابات الباحثين العرب في أعمال لوركا.
عبر هذه المسرحيات الثلاث التي سميت بثلاثية «التربة الإسبانية» عبّر لوركا عن الحياة الاجتماعية للمجتمع الإسباني، وللمرأة خاصة، مصورًا مأساتها في ظل القيد والاستبداد بوجهيه السياسي والعائلي.
كانت «بيت برناردا ألبا» آخر مسرحية كتبها لوركا مصورا حياة أرملة تعيش مع بناتها حدادًا طويلا، تمسكا بالتقاليد، يلغي كل رغباتهن، فتنشأ الصراعات بين نساء «بيت ألبا» الذي بدا بقيوده استعارة للمجتمع الإسباني في عهد كان يقترب؛ عهد فرانكو الذي سرعان ما استقر حكمه .
موت لوركا
إذا متُّ
فدعوا الشرفةَ مفتوحةً
الطّفل يأكلُ البرتقالة
من شرفتي أراه
والفلاح يحصدُ القمح
من شرفتي أسمعه،
إذا متُّ
فدعوا الشرفةَ مفتوحةً – لوركا
اللافت في أعمال لوركا هو تكرر ذكر الموت كثيرا في قصائده وفي شعره الغنائي، وقد كان بالفعل على موعدٍ مبكرٍ معه.
مع بداية نشوب الحرب أهلية الإسبانية، غادر لوركا مدريد ليلحق بأسرته في مدينته غرناطة، وفي طريقه إلى هناك أُلقي القبض عليه، وتم إعدامه يوم في 19 اغسطس 1936 رميًا بالرصاص.
وعرفت أنني قتلت
وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس
فتحوا البراميل والخزائن
سرقوا ثلاث جثثٍ
ونزعوا أسنانها الذهبية
ولكنهم لم يجدوني قط
– لوركا
وحدث ما توقعه فقد أحاط الغموض بمقتل لوركا، إذ لم تُعرف تحديدا الجهة التي أعدمته، ولم يعثر على رفاته، حتى الآن، وإن تبين أن الغجر هم من دفنوه، وظل اسمه مدويا، بحثا عن حقيقة ما حدث.
لوركا في القصائد العربية:
الموضوعات التي طرقها لوركا في أعماله المختلفة كانت ولا تزال في عمق هموم الإنسان العربي، المدن العربية حاليا هي المُقيدة بعد بالعادات التي تناولها في مسرحياته، وهي المليئة بالدم والقمع الذي تحدث عنه لوركا دائما في قصائده، وهي الباحثة عن الحرية كما بحثت اعماله، وهذا جعله رمزًا في قصائد الشعراء العرب أيضا، الشاعر محمود درويش كتب قصيدة باسمه، «لوركا» أشار فيها لمسرحيته «عرس الدم» مؤكدا على أنه أصبح قدوة للمناضلين:
عفو زَهر الدمِ يا لوركا، وشمسي في يديك
وصَليب يرتدي نار قصيدة
أجمل الفرسان في الليل يحجون إليك
بشهيد، وشهيدة
وكتب عنه أيضا الشاعر الراحل سميح القاسم في قصيدة «ليلًا على باب فيديريكو»، والشاعر الفلسطيني إبراهيم نصر الله في «أربع قصائد إلى لوركا» وكتب عن مقتله أيضا الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي، والشاعر العراقي أيضا سعدي يوسف، فضلا عن الباحثين الذين تتبعوا البيئة الأندلسية والعربية في أعمال لوركا.
عن رفاته :
في النهاية فقد دفن لوركا في مكان ما في غرناطة، التي شهدت نظم أولى قصائده، ممثلا – أكثر من أي شيء آخر- مأساة الشعب الإسباني.
ومؤخرا وافقت بلدية مدينة ألفاكار بغرناطة، على البحث في الموقع الذي توقع خبراء -نتيجة أبحاث قاموا بها خلال العامين الماضيين – وجود رفات لوركا مع قتلى آخرين فيه، والمنتظر أن تظهر نتائج هذا البحث في أكتوبر القادم.