من عبد الحليم حافظ إلى محمد محيٍ في مصر على سبيل المثال، كثير من المغنيين يتميزون بأغانيهم ذات الطابع الحزين والهادئ، ونلاحظ انجذاب الناس بشكل ما إلى هذه النوعية من الأغاني، رغم أنه يبدو ظاهريًّا أنها تتعارض مع أبسط قواعد المنطق، وهو السعي إلى السرور من خلال سماع الأغاني، فكيف للإنسان الذي يكره الحزن أن يهرول إليه عبر هذه الأغاني؟

عادةً ما يكون الحزن شعورًا نحاول تجنبه، فلماذا إذًا نحب هذه النوعية من الأغاني الحزينة؟ ولماذا يمنحنا سماعها ذلك الشعور بالرضا أو الراحة رغم كلماتها وموسيقاها؟ نعدد في هذا التقرير الأسباب البيولوجية والنفسية وراء هذا.

الموسيقى الحزينة.. والتحرك بدافع الحب

أحد الأسباب الرئيسية التي تجعلنا نستمتع بالأغاني الحزينة هو أنها «تحركنا» بعمق، ربما تحتاج كلمة «تحركنا» هذه إلى توضيح، المقصود أنها تحرك المشاعر والعواطف داخلنا بما ينعكس بدنيًّا علينا، هذه الحركة النفسية يمكن أن تشمل القشعريرة، ووقوف شعر الجسد، وفيضًا من المشاعر من بينها الرومانسية، وذلك الإحساس بالدفء في صدورنا، وحالة من الابتهاج في النهاية.

والسبب وراء هذه الحركة النفسية البدنية يأتي من شعورنا فجأة بالاقتراب من الآخرين وآلامهم وتجاربهم الصعبة، وهذا الأمر يمكن أن يفسر لنا السبب في كون الأشخاص الذين من المرجح أن يتأثروا بالموسيقى الحزينة هم أولئك الأشخاص الذين يتعاطفون مع الناس؛ إذ يعزز الشعور بالمشاركة المجتمعية شعورنا بالتأثر ويثير مشاعر الراحة والانتماء لدينا.

تسمى هذه الحركة أو التجربة «كاما موتا»، وهو مصطلح سنسكريتي يعني «التحرك بالحب»، وإضافة إلى ما ذكرنا من القشعريرة والرومانسية، فإن هذه التجربة لها بعض السمات المميزة الأخرى مثل الإحساس بالحرارة في الصدر، والذي ينشأ عنه تعبير «دفء القلب» تعبيرًا عن قدرة الفرد على التعاطف مع الآخرين.

كذلك، قد تكون هناك سمات أخرى مثل الشعور بكتلة في الحلق، والبكاء بدموع الفرح، بل حتى ذلك الإحساس بالتوقف عن التنفس لفترة قصيرة. بعد زوال هذه المشاعر القوية، قد يستمتع الشخص بإحساس الرضا والطفو والارتقاء.

الموسيقى الحزينة.. الصديق الوهمي

أحد الأسباب في ارتباطنا بتلك الأغاني والموسيقى الحزينة هو أنها يمكن أن تكون صديقًا لنا، أي أن تكون ما يعد بديلًا اجتماعيًّا بكلمات أبسط، يمكن أن تمثل لنا تجربة الاستماع إلى الموسيقى الحزينة ما يشبه صديقًا وهميًّا يقدم لنا الدعم والتعاطف بعد إحساسنا بالخسارة. ويمكن أن يستخدم هذا النوع من الموسيقى وسيلة إلهاء، مثلما تقوم بالفضفضة مع صديق ما، وكلما كانت الموسيقى أجمل، كان من السهل على المستمعين التركيز عليها.

الموسيقى الحزينة.. النوستالجيا

يمكن أن ينتج شعورنا بالتأثر والحنين إلى تلك الموسيقى الحزينة من الذكريات التي مررنا بها في لحظات مهمة من حياتنا، فجزء لا بأس به من الأغاني الحزينة يرتبط بفكرة الحنين إلى الماضي (نوستالجيا)، ومن ثم، قد يكون الحنين إلى الماضي، وليس الحزن نفسه، هو ما نستمتع به عند سماع هذه الأغاني.

وجدت الدراسات أنه عندما يستمع الناس إلى الموسيقى الحزينة، فإن 25% فقط من الناس هم من يقولون إنهم يشعرون بالحزن فعلًا، أما الباقي، فإنهم يشعرون بعواطف أخرى، وغالبًا ما يكون الحنين الأكثر شيوعًا بينها، ويمكن أن يساعد هذا الشعور بالحنين على زيادة إحساسنا بالارتباط الاجتماعي، وتخفيف مشاعر الضياع، وتقليل القلق؛ لهذا كله يجعلنا الاستماع إلى الموسيقى الحزينة نشعر بمقدار من الراحة والرضا.

الموسيقى الحزينة.. مساحات آمنة للحزن

من بين الأسباب الأخرى حول تفسير الأمر، هو أن الأغاني الحزينة تعد صالات رياضية عاطفية، تمارس فيها الرياضة ولو كانت عنيفة دون التعرض لأذى، وبكلمات أخرى، فإن الأغاني الحزينة توفر لنا مساحة آمنة وخاضعة للرقابة يمكننا من خلالها استكشاف محاكاة الحزن، فتتيح لنا محاكاة تجربة هذه المشاعر والتعلم منها دون أن نتعرض لها بشكل حقيقي يسبب مشكلات نفسية.

من بين الأمور التي يمكننا تعلمها من خوض هذه التجربة، تعزيز التعاطف، وتعلم رؤية الأشياء بشكل أفضل من منظور الآخرين، وتجربة الاستجابات المختلفة للشعور بالحزن، وكل هذه الأمور تجعلنا أكثر استعدادًا عند حدوث خسارة حقيقية وحزن حقيقي في الحياة.

الاستماع إلى الأغاني الحزينة يساعدنا أيضًا في التعرف بشكل أفضل إلى مشاعرنا؛ إذ قد تعبر بعض كلمات هذه الأغاني عن حالة المستمع أو الشعور الذي يشعر به مثل الإحباط والمشاعر السلبية الأخرى، وهو ما يمكن أن يوفر لهم عملية إعادة تقييم لمشاعرهم بشكل أفضل.

الموسيقى الحزينة.. تجارب الحياة الصعبة

يمكننا أيضًا التفكير في متعة الأغاني الحزينة على المستوى الثقافي، وهنا يمكننا مشاهدة المتعة التي تقدمها لنا بعض الأغاني الحزينة الشهيرة والقوية من حيث المعنى الذي تقدمه وتحاول إبرازه، فبعض الأغاني الحزينة تأخذ تجارب الحياة الصعبة وتساعدنا على فهمها.

الفكرة نفسها هنا تنطبق على ألوان الفن المأساوي أو التراجيدي، الذي يأخذ ألم العالم ومعاناته وحزنه ويعطيه معنى ما في النهاية، سيختلف المعنى الذي يصل لكل شخص من الأغنية نفسها، لكن المؤكد هو أننا سنستمع إلى الموسيقى الحزينة عندما نريد التأمل أو الشعور بالانتماء أو الاسترخاء؛ كي نستمتع بتجربة الجمال الموجودة فيها.

الموسيقى الحزينة.. والهرمونات

نتحدث هنا من وجهة نظر بيولوجية وليست نفسية؛ إذ تشير إحدى النظريات إلى أنه عندما نتعرض لخسارة حقيقية في الحياة، أو نتعاطف مع آلام الآخرين، تفرز في أجسادنا هرمونات مثل البرولاكتين والأوكسيتوسين، وهذه الهرمونات تساعدنا على التأقلم مع الخسارة والألم عبر منحنا ذلك الشعور بالهدوء والعزاء والدعم.

هذا يعني أنه عندما نسمع أغنية حزينة يتحدث فيها المغني عن ألمه، تبدأ بعض التغيرات الكيميائية في الحدوث بأجسامنا، وتبدأ الهرمونات في التدفق مثلما يتدفق مخدر المورفين الذي يتناوله المرضى لتسكين الألم الجسدي.

لكن هذه النظرية لا تزال موضع شك، أو لنقل عدم تحقق، وإحدى الدراسات لم تجد دليلًا قاطعًا على أن الموسيقى الحزينة تزيد من مستويات هرمون البرولاكتين، ومع ذلك، أشارت دراسات أخرى إلى دور البرولاكتين والأوكسيتوسين في جعل الموسيقى الحزينة تشعرنا بالرضا.

في النهاية، يمكن أن يرى البعض أن أغنية مثل «قارئة الفنجان» الشهيرة للمطرب المصري عبد الحليم حافظ ممتعة بالفعل، لكن ليس لأنها حزينة أو تمنحنا ذلك الشعور بالحنين إلى الماضي، بل فقط لأنها أغنية جميلة، وقد يتزامن الحزن مع الجمال تمامًا كما يحدث في العديد من الأعمال الفنية الأخرى.

علوم

منذ سنتين
10 حقائق علمية تشرح لك كيف تؤثر الموسيقى في المخ

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد