سألني المحقق الإسرائيلي أثناء إحدى جولات التحقيق القاسية: من محاميك؟ كنت حينها لا أعلم من هو حتى اللحظة، لكني أجبته متحديًا وأنا على كرسي المسلخ: «فيليتسيا لانجر»، تغيرت ملامح وجهه سريعًا، واكتسى امتعاضًا مريبًا، ثم تدارك قائلًا: «ستعترف وحينها لن تنفعك فيليتسيا الشيوعية ولا غيرها».
اسم «الحاجة فولا» – كما يلقبها الأسرى الفلسطينيون – الذي تفوه به نائب الأمين العام لـ«حزب الشعب الفلسطيني»، نافذ غنيم، إبان التحقيق معه، هو ما أربك المحقق الإسرائيلي، فالمحامية اليهودية، والمناضلة الشيوعية، فيليتسيا لانجر، كانت قد وهبت نفسها لمناصرة آلاف القضايا المتعلقة بحقوق الفلسطينيين، والدفاع عن آلاف الأسرى في سجون الاحتلال، وكانت شوكة في حلق الاحتلال.
«الحاجة فولا».. نصيرة الأسرى الفلسطينيين
هاجرت فيليتسيا لانجر، المولودة في بولندا عام 1930، إلى إسرائيل عام 1950، وما أن أنهت دراسة الحقوق في الجامعة العبرية بالقدس عام 1965، حتى وقعت حرب يونيو (حزيران) عام 1967؛ لتصبح بعدها فيليستا محامية فلسطينية بجنسية إسرائيلية؛ إذ فتحت أول مكتب محاماة للدفاع عن الضحايا الفلسطينيين، إضافة إلى توثيقها لانتهاكات الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، مثل محاولات تهويد الأراضي والانتهاكات العقارية، وكذلك وحشية الاحتلال في التعامل مع الأسرى الفلسطينيين التي لطالما وصفها بغير الإنسانية.
لمع نجم الناشطة اليسارية لانجر، في الستينات والسبعينات وحتى منتصف الثمانينات؛ إذ تحولت إلى كابوس قانوني يؤرق حكومة الاحتلال الإسرائيلية التي شحذت كل قوتها التحريضية للتخلص من مطرقة فيليتسيا القانونية.
صارت المحامية الإسرائيلية بعد ذلك أيقونة نضال إنسانية في أذهان الفلسطينيين، وترسخت أفعالها في ذاكرتهم جميعًا، وعلى وجه الخصوص الأسرى الذين لم تدر لهم أبدًا ظهرها، بل اندفعت بكل مُقدراتها للوقوف بجانبهم، حتى أُجبرت على إغلاق مكتبها عام 1990، وهاجرت إلى ألمانيا خوفًا من اغتيالها بعد تكاثر رسائل التهديد والتحريض ضدها.

خروج لانغر من إحدى المحاكم الإسرائيلية في مدينة القدس – مصدر الصورة: 927mag
«لن أكون ورقة التين لدولة احتلال»
في أوائل التسعينات، وبعد سنين قضتها المحامية في البحث عن إنسانية القانون الإسرائيلي، وجدت لانجر نفسها أمام جهاز قضائي عسكري يضرب بالقوانين الحقوقية والإنسانية عرض الحائط؛ فهاجرت إلى ألمانيا، إلى بلد ليس وطنها، تشعر فيه بضيق اللجوء، تمامًا كما يعيش الفلسطينيون الذين قاتلت لأجلهم؛ إذ علقت على ذلك بالقول: «هاجرت لأكون لاجئة من الأقلية المحرومة في بلد ليس لي، وأتذوق مرارة الفقر».
وفي مقابلة أجراها المخرج السينمائي الوثائقي عران أورفينا مع لانجر عام 2012 بحسب صحيفة «رأي اليوم»، قالت: «تركتُ إسرائيل لأنني لم أعدْ أستطيع مساعدة الضحايا الفلسطينيين من خلال الإطار القضائي الموجود، وفي ظلّ تجاهل القضاء الدولي، مع أنه من المفروض أن يدافع القضاء العالمي عمّن أُدافع عنهم، لم أعد أستطيع؛ لأنني أواجه أمرًا مستحيلًا»، وفي لقاء آخر قالت لجريدة «الواشنطن بوست»: «لن أكون ورقة التين التي تداري عورة الاحتلال».
في عام 1990 حصلت الناشطة اليسارية على جائزة «رايت ليفيل هوود» التي تعرف بـ«جائزة نوبل البديلة»، وهي جائزة تقدم سنويًا، في مجالات حقوق الإنسان والتنمية المستدامة والصحة والتعليم، وفي عام 2009 منحها الرئيس الألماني، هورست كوهلر، جائزة الاستحقاق الفيدرالية؛ الأمر الذي أثار غضب المجلس المركزي لليهود في ألمانيا، واتهمه بتكريم شخص عمل على شيطنة إسرائيل في كتاباته، هذا بالإضافة إلى العديد من الجوائز الإنسانية والحقوقية الأخرى التي حصلت عليها فيليتسيا.
«سيدفعون ثمن المطرقة والمنجل والصلاة إلى لينين الصغير»
يحكي نافذ غنيم، نائب الأمين العام لحزب الشعب الفلسطيني، عن وقوف فيليتسيا إلى جواره ويقول: «نجحت المحامية لانجر بزيارتي في سجن غزة بعد 65 يومًا من بداية اعتقالي، حضر يومها السجان لاصطحابي إلى مقابلة المحامي كما أخبروني، وأنا لم أكن أعرف من هو حقيقةً، حتى تفاجأت بها تصافحني بحرارة، وعرفتني بنفسها؛ لأبادرها القول بأنني أعرفها، وأكن لها احترامًا كبيرًا، ضحكت آنذاك وقالت: «أنا مبسوطة لأنك لم تعترف، وهم لن يستطيعوا مواصلة اعتقالك»، وطلبت مني أن أحدثها عن أساليب تعذيبهم لي.. حدثتها عن مواقف كثيرة، وأنا أرى قلمها لم يتوقف عن الكتابة موثقًا كافة التفاصيل».
في أثناء عرضي لأحداث جولات التحقيق التي عشتها، يضيف غنيم: «توقفت لانجر غاضبة، عندما أخبرتها بأن رجال المخابرات، قاموا برسم المطرقة والمنجل باللون الأحمر على جبيني رمزًا للشيوعية، وأجبروني على الجلوس على مسند كرسي خشبي، وطلبوا بسخرية من مجموعة من الرفاق الذين اعتقلوا معي وكنت مسؤولهم، واعترفوا بالتهم الموجهة لهم أن يصلوا إلى لينين الصغير، استفزها الأمر، واستشاطت غضبًا، وقالت بالحرف الواحد: سيدفعون ثمن ذلك، حينها لم أعرف ما الذي كانت تنوي فعله».
وكان لفيليستا وضغطها دورًا حاسمًا في الإفراج عن غنيم؛ إذ علم لاحقًا أنها قد رفعت قضية أمام محكمة العدل العليا الإسرائيلية ضد المحققين الإسرائيليين وأساليبهم الوحشية في التعامل مع الأسرى، وازدرائهم لأفكارهم والحط من قيمتهم بشكل عنصري لا إنساني، قاصدة بذلك حادثة المطرقة والمنجل.

فيليتسيا لانغر مع بعض الفلسطينيين – مصدر الصورة: samidoun
الرفيقة الشيوعية التي كانت شوكة في حلق المحققين
عرفت لانغر عندما اعتقلت في مارس (آذار) 1969، كان الطّقس حينها ماطرًا، وبعد عدّة أيام من اعتقالي قال لي أحد المحققين في معتقل المسكوبية بالقدس مهدّدًا بأنّهم سيتسامحون معي إذا أوكلت محاميًا عربيًّا – ذكر اسمه لي – ليدافع عني، وإنّني سأندم إذا وكلت المحامية الشيوعيّة لانجر
هذا ما قاله الكاتب المقدسي، جميل السلحوت، وهو يسترجع ذكريات غرفة التحقيق التي عرف بسببها المحامية فيليتسيا. إذ يقول: «بعد وقت قصير دخل محام عربيّ، وبعد أن ذكر اسمه، مدّ ورقة لأوقع على وكالة ليدافع عني، فأجبته بأنّه لا توجد عندي قضيّة تستحق توكيل محام، ورفضت التوقيع؛ فعاد المحقق يهدّدني، وبعد حوالي نصف ساعة دخلت امرأة حسناء ترتدي بدلة زرقاء، حسبتها شرطيّة، حتى قالت لي إنّها المحامية لانجر، وطلبت منّي أن أوقّع لها على وكالة، فقلت لها: وما يدريني أنّك لانجر؟ وذكرت لها تهديدات المحقق، فأخرجت بطاقة هويّتها وهي تقول مبتسمة: هذه هويّتي تأكّد منها».
يضيف السلحوت: «عندما عُرضت على قاضي الصلح لتمديد توقيفي، كانت لانجر قد شاهدت بعض آثار التّعذيب على جسدي، طلبت من القاضي أن ينظر إلى وحشيّة التّعذيب، وطلبت منّي أن أخلع قميصي، وعندما شاهدت الجزء العلوي من جسدي، بكت بمرارة وهي تحتضنني بأمومة بائنة، وتصرخ بالقاضي وبالمدّعي العام».
الأسير المحرر والكاتب عطا قيمري من القدس، يقول عنها: «هذه أمي الثانية، الرحمة على فيليتسيا، الإنسانة الرقيقة والرفيقة الفاضلة، أول من دافع عن الأسرى الفلسطينيين، وكانت أمًا وأختا ورفيقة لهم. في كتابها «بأم عيني» سجلت فيه أول القصص عن البطولة الفلسطينية في سجون الاحتلال، وفي مواجهة محاكم البطش والظلم، فكانت أول السائرين على درب كشف اللثام عن وجه الاحتلال البغيض».
ويضيف: «كانت تحبني كابن لم تلده، تعانقني وتقبلني كلما رأتني، كتبت عني فصلًا كاملًا في كتابها، الذي شهرها وجعلها صوت الحق والحرية على المستويين المحلي والعالمي، لم تنس أبدًا أنها إنسانة قبل أن تكون شيوعية أو يهودية».
وفي حديث خاص لـ«ساسة بوست»، يروي مصطفى القاسم، شقيق الأسير الشهيد عمر القاسم، الموقف الذي جمعه مع فيليتسيا لانجر: «كانت لانجر وكيلة أخي وشقيقي عمر القاسم، طوال فترة اعتقاله على مدى 22 عامًا، وحتى قبل استشهاده في الأسر، وقد كانت تساعدها أيضًا المحامية ليئا تسيمل، التي لا تقل شأنًا عنها في محاولة الإفراج عن شقيقي وتمكينه من العلاج بالخارج، لكن الأمور لم تجر على ما يرام، ورحل شقيقي، وقد تأثرت فيليستيا كثيرًا بموته، طوبى للمدافعين عن الكرامة الفلسطينية والإنسانية».
«أنا لكم ومنكم ولست منهم»
مُنحت فيليتسيا وسام الاستحقاق والتميز من الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، عام 2012، تقديرًا لدورها في الدفاع عن الأسرى الفلسطينيين ومساندة حقوقهم، وكذا من أجل الجهود التي بذلتها في سبيل تحقيق السلام.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس يسلم لانغر جائزة الاستحقاق
وقد تأثرت فيليستيا، أيما تأثر بهذا التكريم، حتى أنها قالت من بين دموعها للمحامية الفلسطينية نائلة عطية، التي هاتفتها لتهنئتها بالوسام: «لقد حصلت خلال حياتي على كثير من جوائز التكريم والتقدير لقاء عملي في مجال الدفاع عن حقوق الفلسطينيين، لكن أكثر أوسمة التقدير التي لها تأثير في نفسي، بل أبكاني، كان وسام التقدير الذي منحني إياه الفلسطينيون مؤخرًا، أنا أبكي لأن التقدير أتاني من الفلسطينيين وهو يختلف عن كل تكريم سابق لي».
https://youtu.be/eyPBqBfVHdg
و قد كان تأثر فيليتسيا بالوسام من الفلسطينيين، باديًا في الصور التي تناقلتها وكالات الأنباء لذلك اللقاء؛ إذ كانت تبدو هيئتها شعوريًا أقرب إلى البكاء، وهو ما أكدته المحامية نائلة، وكيف عبرت فيليتسيا عن أسفها لوصفها بالمحامية الإسرائيلية من قبل بعض وسائل الإعلام الفلسطينية التي نشرت نبأ منحها الوسام، إذ قالت: «أنا لكم ومنكم ولست منهم»، تقصد بذلك الاحتلال.
ولم يتوقف دعم فيليستيا للفلسطينيين عند الأسرى والمعتقلين، بل امتد أيضًا إلى السياسيين المناوئين لحكومة الاحتلال، ففي عام 2015، كتبت الحاجة فولا رسالة إلى نائبة المجلس التشريعي الفلسطيني خالدة جرار، المعتقلة إداريًا لدى الاحتلال، قالت فيها: «عزيزتي النائبة خالدة جرار.. أنت يا عزيزتي معتقلة سياسيًا؛ مما تسمي نفسها بالديمقراطية الوحيدة بالشرق الأوسط. أنت عضو في البرلمان الفلسطيني، واعتقالك فقط لأنك تتضامنين سياسيًا مع أخواتك وإخوانك المعتقلين في السجون الإسرائيلية بسبب نضالهم المشروع ضد الاحتلال».
وجاء في رسالة فيليستيا أيضًا: «لقد تم اعتقالك إداريًا، ودون محاكمة حتى يتم التمويه على اعتقالك دون ذنب وفقط لرأيك السياسي، وكما كتبت صحيفة «هآرتس» فلم يستطيعوا لحد الآن توجيه أي تهمة، ولا حتى إجراء. أي محكمة هزلية! إنني على معرفة تامة بقوانين الاحتلال يا عزيزتي، وأكاذيبهم معروفة حتى ولو لبسوا لباس القضاة، عزيزتي خالدة أنت كأخت مناضلة لي، وبالرغم من تقدمي بالسن فأنا أقف إلى جانبك، وأعلن التضامن معك ومع عائلتك من القلب».
وأضافت: «اعتقالك الظالم سينقلب عليهم، وستكون نتائجه عكسية على الاحتلال، ستتصاعد حملة التضامن معك، ويزداد الضغط عليهم، وستتشوه صورة هذا الاحتلال البغيض.. عزيزتي النائبة خالدة.. كل ذي ضمير حر يقف إلى جانب قضيتك، ومع الشعب الفلسطيني من أجل إحقاق الحق والحرية».
وفي 22 يونيو (حزيران) الماضي، رحلت المحامية فيليستيا لانجر عن الحياة من منفاها في ألمانيا بعد صراع مع مرض عضال، تاركة خلفها إرثًا إنسانيًا فريدًا سيظل أثرًا أزليًا للإنسانية عامة، وللفلسطينيين خاصة، وكانت الراحلة قد أصدرت كتابين عن المعتقلين، هما: «بأم عيني» عام (1974)، والذي تَحَدَّثَ بالوقائع والتفاصيل عما يجري داخل سجون ومعتقلات الاحتلال بحق الفلسطينيين، و«أولئك إخواني» (1979) الذي فضحت فيه ما يتعرض له الأسرى من عذابات، إضافة إلى العديد من المؤلفات الأخرى.
ولقد نعى نادي الأسير الفلسطيني في بيان له المحامية الإسرائيلية المدافعة عن حقوق الإنسان، ونظمت هيئة شؤون الأسرى، ونادي الأسير، والهيئة العليا لمتابعة شؤون الأسرى والمحررين، وقفة تضامنية مع الراحلة، بمدينة رام الله.