في خطوة قد تمثل ثورة علمية في حد ذاتها، أنتج فريق من العلماء الصينيين توأمين متطابقين جينيًا من قردة المكاك باستخدام التقنية الشهيرة علميًا التي استنسخ العلماء بها النعجة دوللي. دوللي كانت الخطوة الناجحة الأولى للعلم في استنساخ الثدييات، والآن يقفز العلم خطوة هائلة باستنساخ أول رئيسيات غير بشرية بتقنية جديدة كليًا، لتصبح خطوة داعمة لأنواع مهمة ونادرة من أبحاث الجينات والطب الحيوي.
بدأت المعجزة في التحقق قبل قرابة الشهرين، عندما لاحظ فريق من الباحثين في الأكاديمية الصينية للعلوم بداية مرحلة وضع أنثى المكاك في المعمل، لتلد بدورها أول فرد مستنسخ من الرئيسيات عبر التقنية الجديدة، وبصحة جيدة. بعد 10 أيام، تلد الأنثى وليدها الثاني، وهو التوأم المتطابق جينيًا للأول، حي وبصحة جيدة أيضًا. أعطى الفريق للصغيرين أسماء، فسُمي الأول «جونج جونغ»، والثاني «خوا خوا».
استنساخ الحيوانات.. طفرة علمية مستمرة
لم يكن الطريق نحو استنساخ المكاك سهلًا على الإطلاق، يقول كيانج سون، المؤلف الرئيس في الدراسة: «لقد جربنا طرقًا مختلفة، لكن طريقة واحدة فقط نجحت. كان هناك الكثير من الفشل قبل أن نجد الطريقة الناجحة لاستنساخ قرد». اعتمد الفريق تقنية نقل نواة الخلية الجسدية في التجربة، وهي المرة الأولى التي تستخدم فيها هذه الطريقة لاستنساخ فرد من الرئيسيات.
وكانت المرة الأولى التي يُستنسخ فيها فرد من الرئيسيات في التاريخ قد ذهبت للقردة «تيترا» من نوع المكاك ريسوس، التي استُنسخت عام 1999 لكن عبر تقنية مختلفة هي «انقسام الجنين»، وهي من حيث التعريف تبدو واضحة من مجرد قراءة الاسم، وتعتمد الطريقة على عملية انقسام تحدث للجنين، وينتج عنها توائم متطابقة في الرحم. استخدمت هذه الطريقة بشكل معتاد في إنتاج الماشية في المزارع الحديثة، وأقصى عدد يمكن أن تنتجه هذه الطريقة هو أربعة توائم متطابقة جينيًا. وتعتبر هذه الطريقة محاكاة للعملية التي تحدث في الطبيعة بشكل كامل، وهي مختلفة عن الطريقة الأخرى التي نتناولها في حالة خوا خوا وجونج جونغ؛ من حيث كونها مبتكرة بكامل خطواتها، ويمكن أن ينتج عنها أعداد مستنسخة أكثر.
- شكل توضيحي لوصف التقنية الخاصة بالفريق الصيني. المصدر:theguardian
تعتمد طريقة نقل نواة الخلية الجسدية، وهي الطريقة التي اعتمدها الفريق الصيني، على استبدال نواة البويضة، بنواة خلية جسدية. هذه الخلية تحتوي على الحمض النووي (DNA) من فرد آخر هو الذي سيُستنسخ، غير الأنثى صاحبة البويضة. هذه الطريقة قد استخدمت في استنساخ النعجة دوللي، وكذلك استخدمها الفريق الصيني في استنساخ الخنازير في المعمل.
اقرأ أيضًا: من ذراع الفأر للمهبل الأنثوي.. 5 أشياء مذهلة لن تصدق أنه تم تخليقها في المعامل
خلال كل هذه النجاحات، أثبتت هذه الطريقة نجاحًا في إنتاج أعداد أكبر من الحيوانات المتطابقة جينيًا، أكثر من طريقة انقسام الجنين. في نفس الوقت، وجد الباحثون أن محاولات استنساخ الحيوانات بهذه الطريقة لا تنتج أفرادًا أحياء، ففي محاولات أسبق، كانت الأجنة المستنسخة لقردة المكاك ريسوس تتوقف عن النمو في مرحلة ما قبل مرحلة الكيسة الأريمية (blastocyst stage).
الكثير من الفشل ثم النجاح المدوي
عمل الفريق الصيني على دراسة تلك التجارب السابقة لمحاولة فهم أسباب توقف الأجنة عند هذه المرحلة، ومحاولة التغلب على الإعاقات التي تتسبب بها. كانت هناك تجارب توصلت إلى نتائج تفيد أن منع التغييرات الجينية للحمض النووي، وكذلك التعديلات الكيميائية، تؤثر بشكل كبير في زيادة فرص الأجنة المستنسخة في البقاء. رغم تركيز الفريق الكبير على هذه النتائج، وكيفية الاستفادة منها، ظهر لغز جديد كان يهدد نجاح التجربة بالكامل، فبينما كان الفريق قادرًا على تخليق الجنين بوضع خلايا فرد آخر حي في البويضات، كانت صغار القردة تستطيع البقاء لفترات قصيرة بعد ولادتها.
- التوأم المستنسخ من نوع قردة المكاك. المصدر:metro.co.uk
يحكي الفريق الخطوات التي توجب عليه القيام بها للوصول إلى البيئة المناسبة لتخليق أجنة تستطيع البقاء على قيد الحياة لفترات طويلة بعد الولادة، وشرح الفريق البيئة التي تعرضت لها البويضة الملقحة بالخلية الجديدة، والتي تتكون من خليط متنوع من المواد التي ساعدت في النهاية على إعادة برمجة البويضة، ومن ثم المساعدة على استمرار تطور الجنين كما في الحالة الطبيعية بشكل كبير. واستخدم الفريق مصدرين مختلفين للنواة، هما: جنين مكاك مجهض، وخلايا تحيط ببويضة مكاك بالغ.
استخدم الفريق خلايا مستخرجة من جنين لاستنساخ 79 جنينًا تمت زراعتهم في 21 رحمًا بديلًا، لتنتج هذه العملية صغيرين من القردة أحياء وبصحة جيدة بعد أن خرجوا من الرحم بجراحات قيصرية.
في المقابل، استخدمت خلايا مكاك بالغ باعتبارها مصدرًا للنواة في 181 جنينًا زُرعوا في 42 رحمًا بديلًا، ليتم كذلك إنتاج صغيرين من المكاك، لكن كليهما لم يستطيعا النجاة لفترات طويلة، ونفقا بعد الولادة مباشرة، ويرجح الفريق احتمالية أن يرجع سبب الوفاة إلى الصعوبات الأكبر في عملية إعادة برمجة الجينات.
بعد محاولات مضنية لحل هذه الإشكالية، توصل الفريق أخيرًا إلى الطريقة التي صنعت الفارق وجعلت الأجنة تنجو لفترات طويلة على قيد الحياة وصلت إلى الآن ستة أسابيع، وثمانية أسابيع لكلا الصغيرين. استخدم الفريق في التجربة التي أنتجت جونغ جونغ وخوا خوا، خلايا من أنسجة جنين المكاك، وهي الخلايا الليفية الجنينية التي استُخلصت من النسيج الضام لجنين مكاك.
لماذا استنسخوا جونغ جونغ وخوا خوا؟
يستخدم العلماء طيلة الوقت التجارب الخاصة بالتوائم من أجل دراسة آثار دواء معين على الإنسان. يستعين العلماء في هذه التجارب بالتوائم المتطابقة جينيًا للوصول لأكبر دقة ممكنة لأثر دواء معين. ترجع ضرورية هذا الشرط، التطابق الجيني، إلى حقيقة تفاعل جسد الإنسان للمتغيرات التي تحدث له بشكل مختلف ومتفرد من شخص لآخر، وفي حالة التوائم المتطابقة جينيًا يكون من السهل استبعاد العامل الجيني من قائمة المشتبه بهم في التسبب بردود الأفعال المختلفة، فتكون نتائج التجارب أكثر دقة من أي حالة أخرى. يقول الدكتور روبن لوفيل بيدج، المتخصص في علم الجينات في معهد فرانسيس كريك بلندن: «الحيوانات المستنسخة مفيدة في البحث، فهي تحل مشكلة التنوع الجيني، وتسمح بدراسة تأثير العقار أو الإجراء الطبي بشكل محدد. البديل الذي يجب عليك القيام به في العادة هو استخدام حيوانات أكثر».
Embed from Getty Images
أحد أشهر النماذج على هذا النوع من التجارب هي تجربة رائد الفضاء الشهير، سكوت كيلي، الذي استعانوا بتوأمه لمعرفة التغييرات التي سوف تحدث لسكوت أثناء سفره لعام كامل في الفضاء بمحطة الفضاء الدولية. يقول أحد أعضاء الفريق الصيني: «هناك الكثير من الأسئلة حول بيولوجيا الرئيسيات، والتي يمكن دراستها من خلال هذا النموذج الإضافي. يمكنك استنساخ قردة بنفس الخلفية الجينية باستثناء الجين الذي تحاول التلاعب به. هذا الأمر سوف يخلق نماذج حقيقية ليس فقط لأمراض الدماغ ذات الأصول الجينية، لكن السرطان أيضًا، والمناعة أو اضطراب التمثيل الغذائي، وسوف يتيح لنا ذلك اختبار كفاءة الأدوية الخاصة بهذه الحالات قبل تجربتها سريريًا».
هل تستخدم هذه التقنية لاستنساخ البشر؟
بتطبيق هذه التقنية على الرئيسيات شديدة القرابة للإنسان مثل قردة المكاك، لن يكون من الصعب إجراء نفس العمل لاستنساخ أجنة بشرية حال اتجاه أي من الفرق المتخصصة لإجراء هذا النوع من التجارب. يقول أحد أعضاء الفريق: «الآن لا يوجد حد يمنعنا من استنساخ الرئيسيات، من هنا يكون استنساخ البشر أقرب للواقع. رغم ذلك، بحثنا مخصص بالكامل لاستنساخ الرئيسيات غير البشرية لتعمل كنماذج للأمراض البشرية، ونحن لا نملك أي نية على الإطلاق، ولن يتيح لنا المجتمع، تحويل هذا البحث ليشمل البشر».
Embed from Getty Images
يعتبر هذا النمط من استخدام الرئيسيات في المعامل من القضايا الخلافية الكبرى لدى المجتمع العلمي في كل أنحاء العالم، ويُنظم في كثير من الدول مثل الاتحاد الأوروبي، بحيث يستخدم هذا النمط في حالة عدم وجود أي طريقة أخرى للوصول إلى النتائج المطلوبة، بينما يعتبر ممنوعًا بشكل كامل في بعض الدول الأخرى. يأتي هذا الجدال من الفكرة البسيطة التي ترى في الرئيسيات الكائنات الأقرب للبشر من حيث التكوين الجيني، فيجعلها الأكثر طلبًا لإجراء التجارب عليها، وفاعلًا رئيسًا في الأبحاث الخاصة بالطب الحيوي.
الصين.. وجهة الأبحاث العلمية غير التقليدية
يرى موم ينج بو، مدير الأكاديمية الصينية للعلوم، أن هذا الإجراء الذي قام به الفريق مقبول بشكل ما في الصين مقارنة بالغرب، وفي رده على الانتقادات الأخلاقية التي قد توجه للفريق، أكد بو أن الفريق يعتمد بشكل كبير المعايير الدولية للعناية بالصغيرين وعلاجها بشكل مناسب، ويوافق كذلك على استخدام أقل عدد ممكن من الحيوانات في تلك التجارب. ويأمل بو في أن تتغير النظرة الحالية لدى الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي بسبب النجاحات التي من المرجح أن يحققها الفريق بسبب هذه التجربة.
لم تكن استضافة الصين لهذه التجربة حدثًا فريدًا على المجتمع العلمي، فالدور الذي تقدمه الصين للعلم في الوقت الحالي شهد تقدمًا ملحوظًا في العقود الثلاثة الأخيرة على الأقل بحسب ما توصلت إليه دراسة نشرت عام 2010.
ولعل العامل الأهم لسطوع نجم الجمهورية الصينية على المستوى العلمي هو قلة المعايير القيمية والأخلاقية التي تشترطها لإجراء التجارب على أرضها مقارنةً بالولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي. العديد من المهتمين يتذكرون جيدًا تجربة البروفيسور كانافيرو التي تهدف إلى زراعة رأس لإنسان حي، والتي قوبلت بانتقادات واسعة من المجتمع العلمي، بينما عرضت الصين استقبال الفريق الطبي لكانافيرو وفريقه لإجراء التجربة على أرضها.
اقرأ أيضًا: نبوءة فرانكشتاين تتحقق.. نجاح أول عملية زراعة رأس بشرية في التاريخ!
رصدت الدراسة أسبابًا أخرى لهذا التقدم الكبير الذي تحققه الصين في مجال الأبحاث العلمية والتكنولوجية، منها التوجه العام لدى الحكومة المركزية في بكين للاستثمار في الأبحاث العلمية، وكذلك دعم التوجهات العلمية في مراحل الدراسة المختلفة للنظام التعليمي الصيني.