يشتغل المغرب بمنطق «اللوبيات» في كثير من الميادين، فلكل مجال قوى ضغط متنفذة، تعمل بشكل دائم على تضخيم مصالحها، وعرقلة أي تحركات قد تمس امتيازاتها، كما تملك نفوذًا كالعادة يخول لها التأثير على أجهزة الدولة، مثل القضاء والشرطة ومراقبي الدولة، من أجل تمرير مصالحها.

فلوبيات المال والأعمال تحاول زيادة تسهيلات الدولة المقدمة لها، وتقليل ضرائبها، وتعرقل مشاريع القوانين التي تعطي بعض الحقوق للعمال، ولوبيات الأدوية الصيدلية، تسعى جاهدة إلى الحفاظ على ثمن الأدوية بالمغرب، بالرغم من تبين مضاعفة سعرها الحقيقي مقارنة مع الأسواق العالمية للدواء، أما لوبيات الفلاحين الكبار، فلديهم دراية كبيرة في استصدار القوانين التي تجعل الدولة خادمة لهم. وعلى نفس النهج تسير العديد من المجالات الاقتصادية.

و تعد لوبيات البحار في المغرب المثال الواضح لطريقة عمل هذه القوى المتنفذة في السعي  نحو حماية مصالحها، دون الاكتراث بحقوق المجتمع، حيث جعلت من المواطن المغربي محرومًا من ثروة بلاده السمكية الهائلة.

بلاد المحيطات

ينفتح المغرب على واجهتين بحريتين، بحيث يقدر طول سواحله إجماليا بـ3500 كيلومتر، منها 2900 كيلومتر على المحيط الأطلسي، و600 كيلومتر على ضفاف البحر المتوسط، وتبلغ مساحته البحرية 115 ألف كيلومتر مربع.

تسمح هذه المساحة الوافرة للمغرب، بإنتاج مئات آلاف الأطنان من الأسماك، عبر 17 ميناء خاص بذلك، وتدر عليه حوالي 247 مليون دولار من الأرباح سنويًا، ناهيك عن كرائه لجزء من مساحته البحرية لبلدان أوروبية مثل إسبانيا.

بفضل هذه الإمكانيات البحرية التي يتوفر عليها المغرب، صنفت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) البلد في المرتبة 17 من أصل 25 دولة من أكبر منتجي السمك عبر العالم، مبرزة أن الناتج الإجمالي للسمك بالمملكة يصل إلى 1.35 مليون طن، يتم تصدير معظمه خارج البلاد.

تذكر منظمة الفاو الأممية أيضًا في تقريرها الحديث، أن المغرب يعد واحدًا من ضمن أكبر ثلاث دول مصدرة للأخطبوط، إلى جانب كل من موريتانيا والصين.

مثلما تزخر بحار المغرب بتنوع كبير في الثروة السمكية، ويتوفر البلد على مصايد وافرة للأنواع القيمة من الأسماك، مثل التونا وسرطان البحر والروبيان والرخويات.

المواطن محروم من ثروته السمكية

لكن رغم أن المغرب يحظى بثروة سمكية هائلة، إلا أن المواطن المغربي البسيط آخر من يستفيد من أسماك محيطات بلاده، بسبب الغلاء، حيث يتراوح ثمن سمك السردين، وهو أرخص الأسماك، في الأسواق المغربية حاليًا بين دولارين ودولارين ونصف للكيلوجرام الواحد، في حين سعره في إسبانيا لا يتجاوز دولار ونصف، وإن كانت الأخيرة تكتري مياه البحرية الخاصة بالمغرب للصيد، علاوة على الهوة الواسعة في الدخل الفردي بين المواطن المغربي والمواطن الإسباني.

وبالنسبة للأنواع البحرية القيمة، فلا يستطيع معظم المغاربة اقتناءها، بالنظر إلى سعرها المرتفع، والذي قد يصل لدى بعضها إلى 30 دولار للكيلوجرام الواحد، مما يحرم الموائد المغربية من فواكه البحر عمومًا.

من جانب آخر، يصل متوسط الاستهلاك العالمي من الأسماك إلى 17 كيلوجرام في السنة، بينما المواطن المغربي لا يستهلكُ سوى ما بين 10 و 12 كيلوجرام من الأسماك سنويا، معظمها يقتصر على الأنواع الرخيصة، وهو الذي تتوفر بلاده على 115 آلاف كيلومتر مربع من المساحة البحرية، مما يدل على أن الاستهلاك المغربي للأسماك يبقى ضعيفًا، مقارنة مع المعدل العالمي، بالرغم من أن البلد يصنف من بين الدول الأكثر إنتاجًا للثروة السمكية، بفضل المساحة البحرية الواسعة التي يملكها.

لوبيات البحار واحتكار الثروة السمكية

يدفع الجشع أباطرة البحار إلى فعل كل ما يمكن فعله، للحفاظ على امتيازاتهم كاملة، فتارة يعملون على إبطال القوانين غير المناسبة لمصالحهم، وتارة أخرى يتحايلون على القوانين، وتارة ثالثة يتحكمون في سوق السمك والبحارة.

وتحتكر لوبيات صغيرة، الصيدَ في أعالي البحار، حيث الأنواع البحرية القيمة والوافرة، عبر الأساطيل البحرية والمراكب الصغيرة، ليتم جني أرباح خيالية من خلال تصدير كميات هائلة من الأسماك والأنواع البحرية نحو الخارج مباشرة، أما الاستهلاك المحلي فلا يتجه إليه سوى القليل من الثروة السمكية، مما يسبب ارتفاع الأسعار.

بالإضافة إلى عامل الندرة، يتسبب الوسطاء في تضاعف سعر السمك مرات مضاعفة، فقط بين فترة خروجه من الميناء إلى وصوله إلى المستهلك المحلي، في هذا السياق يقول سعيد زرهون، عضو المكتب الوطني للجامعة الوطنية لضباط الصيد في أعالي البحار، إنّ «ارتفاع أسعار السمك ببلادنا يعود إلى غياب الشفافية في عملية بيْع الأسماك داخل الموانئ قبْل خروجها إلى السوق، ومرورها على أيْدي الوسطاء قبْل الزبون، والنتيجة أنّ الرابح الأكبر هم الوسطاء، والمتضرّر هو المستهلك».

ويلخص عبد النبي أبو العرب، خبير الاقتصاد، أسباب ارتفاع ثمن السمك في وجه المستهلك المغربي بهذه الطريقة المستفزة، ولا سيما أن البلد يملك 3500 كيلومتر من السواحل البحرية، قائلًا إن «السبب وراء هذه الزيادة هو احتكار لوبيات معروفة في المغرب لتجارة السمك، بالإضافة إلى سوء التدبير والحكمة وضعف البنية التحتية التي يعيشها قطاع الصيد البحري بالمغرب، وضعف سلسلة الصيد والإنتاج والتوزيع التي تعرف كثرة المتدخلين والوسطاء».

الثروة السمكية قيد الاستنزاف

لا يقتصر ضرر هذه اللوبيات على المستهلك المغربي فقط، وإنما يهدد الثروة البحرية للمغرب نفسها، حيث لا يؤلون أدنى اعتبار للقواعد الإيكولوجية، التي تمنع استنزاف الحياة البحرية.

وتتعدد هذه الانتهاكات البيئية، التي يقترفها «أباطرة البحار» في المغرب، فتتوزع بين استعمال أساليب تقليدية غير مستدامة في الصيد، وإلقاء الكميات الفاسدة من الأسماك في البحر، وصيد الأنواع البحرية المهددة بالانقراض.

لكن أسوأ ما يهدد الحياة البحرية بمحيطات المغرب، هو إصرار أساطيل لوبيات البحار، على صيد أقصى ما يمكن صيده، بشكل مستمر وغير محدد الكمية، دون احترام فترة الراحة البيولوجية للأسماك، التي تسمح بتكاثر الأنواع البحرية.

قاد الصيد المكثف إلى تعريض عدد من الأحياء البحرية إلى خطر الانقراض بالمحيطات المغربية، كالشأن مع الأخطبوط، الذي أصبح في الآونة الأخيرة نادرا، علاوة على التسبب في تقليص وجود بعض الأنواع بشكل لافت، خصوصا المنتمية منها إلى صنف الرخويات.

يؤدي أيضا هذا الاستغلال غير العقلاني للثروة السمكية بالمغرب إلى الإخلال بالمنظومة البيئية البحرية بالمحيطات المغربية، في سبيل جني مزيد من الأموال بتصدير كميات هائلة من الأسماك نحو الخارج، في حين يتبقى للمواطن المغربي قليل من سمك «السردين»، ليباع له بسعر أعلى مما يباع في إسبانيا، التي تكتري مساحات بحرية تابعة للمغرب، تصطاد فيها!

عرض التعليقات
تحميل المزيد