إذا كنت من متابعي مسلسل «Stranger Things»، ربما تتذكر الطريقة التي كانت تحاول بها بطلة المسلسل والتي تمتلك قدرات خارقة، تحفيز عقلها للتخاطر، عندما كانت تطفو في كمية كبيرة من المياه المليئة بالملح، حتى تفقد الإحساس بجسدها، ليعمل عقلها بشكل أفضل.
تلك الطريقة ليس خيالية تمامًا، إنما هي وسيلة مبنية على حقائق علمية جرى توظيفها لتفيد قصة الخيال العلمي للمسلسل.
تخيل نفسك تطفو في الظلام على سطح الماء، بينما الكميات الكبيرة من الملح تمنح جسدك بعضًا من الخدر اللذيذ، فيبدأ الشعور بالخفة والاسترخاء، ويحوم عقلك في عوالم الخيال، هذه طريقة جديدة يستخدمها الأطباء للعلاج النفسي، يُطلق عليها الحرمان الحسي، فما هي؟
خزان الحرمان الحسي.. للأصحاء والرياضيون
«الحرمان الحسي» أو فقدان شعور الإنسان بجسده، أصبحت وسيلة حديثة لدى الغرب للعلاج من بعض الأمراض النفسية مثل الاكتئاب، ومتلازمة القلق المزمن، وغيرها من الأمراض التي يمكن علاجها دون تدخل دوائي، ولأن أمراض الاكتئاب والقلق هي الأكثر انتشارًا حاليًا في أنحاء العالم، فإن هذه الطريقة الحديثة، مُهمة في إنهاء الاستهلاك الدوائي لهذه الأمراض، والذي يترتب عليه العديد من الآثار الجانبية السلبية.
«خزان الحرمان الحسي» والذي يطلق عليه أيضًا خزان العزل أو خزان التعويم، والذي يستخدم «للتحفيز البيئي المُقيد» (REST)؛ هو عبارة عن خزان مظلم عازل للصوت مملوء بكمية قد تصل إلى قدم واحد من الماء المنقوع فيه الملح.
ظهر هذا الخزان للمرة الأولى في عام 1954 على يد جون سي ليلي وهو طبيب وعالم أعصاب أمريكي، وكان يهدف من تصميم هذا الخزان، دراسة أصول وهي الإنسان من خلال عزله عن أي محفزات خارجية حسية مثل السمع، والبصر، واللمس.
وفي الستينات اتخذ بحثه منعطفًا مثيرًا للجدل عندما أدخل عقار (LSD) لتجاربه، حين كان يخضع الشخص المشارك في التجربة للحرمان الحسي أثناء تعاطيه هذا المخدر والذي من شأنه تحفيز العقل على اختراق مراحل مختلفة من الوعي، ورؤية الهلاوس الذهنية أو البصرية كعرض جانبي للمخدر، ولكنه أيضًا – ولهذا استخدمه الطبيب في التجربة جنبًا إلى جنب مع عقار الكيتامين – سريع المفعول، وله قدرة على تهدئة الفرد ووضعه في حالة من النشوة.
نُفذت أول خزانات عائمة عازلة تجارية يمكن استخدامها في المراكز الصحية في سبعينات القرن الماضي، وبدأت الدراسات الأكثر جدية في محاول لكشف وتحديد فوائدها الصحية والنفسية المحتملة بشكل أكثر توسعًا.
والآن في معظم الدول الغربية، يمكن العثور على خزان حرمان حسي بسهولة في المنتجعات العلاجية، وهذا الانتشار الشعبي لتلك الخزانات كان سببه الدراسات التي مدت الناس بالأدلة العلمية على فائدة تلك الخزانات حتى للأشخاص الأصحاء من خلال توفير الاسترخاء للعضلات، وتحسين النوم، وتقليل آلام الجسد الناتجة عن الإجهاد، وتقليل التوتر والقلق.
يعمل خزان الطفو والحرمان الحسي من خلال تسخين المياه بالدرجة التي يتحملها الجلد، وتُشبّع جيدًا بالملح بهدف مساعدة الجسد على الطفو بسهولة، ويدخل الإنسان إلى الخزان عاريًا، وتقطع عنه جميع المحفزات الخارجية، مثل الصوت والبصر والجاذبية، ويغلق الخزان على الشخص ليشعر أنه بلا وزن ويطفو في الصمت والظلام؛ ما يدخل العقل في حالة عميقة جدًا من الاسترخاء.
بعض الحالات التي استخدمت تلك الخزانات سجلت مرور اصحابها ببعض الهلاوس التي كانت مخيفة لهم، أو نوبات ذهان مؤقتة، ولكن النسب الأكبر ووفقًا لمقال نشر في المجلة الأوروبية للطب التكاملي عام 2014 وضحت أن خزان الحرمان الحسي لديه القدرة على زيادة خيال من يستخدمه وتعزيز مواهبة إذا كان يمارس أي مهنة تعتمد على الإبداع، إلى جانب قدرته على تحسين قدرة البعض على التركيز في الحياة اليومية إذا استمروا على العزل داخل الخزان أكثر من مرة.
وأكدت دراسة أجريت عام 2016 بمشاركة 60 رياضي محترف، أن خزان الحرمان الحسي لديه القدرة على تحسين الأداء الرياضي للجسم، إلى جانب فعاليته في الشفاء بعد التدريب البدني الشاق عن طريق شفاء أسرع للكدمات، كما أكدت الدراسة قدرة تلك الخزانات على التعافي النفسي والجسدي لدى الرياضيين المحترفين بعد التدريب المكثف والمنافسة
للمرضى النفسيين أيضًا
مرضى التوتر والقلق المزمن ينتشرون في أنحاء العالم بنسب كبيرة جدًا، وهذا المرض له خطورة على حياة الشخص ومستقبله لأنه يمنعه من اتخاذ أي خطوة في طريق أحلامه نتيجة نوبات الخوف والفزع التي تجتاحه، والتي تكون أعراضها الجسدية أقرب إلى الأزمة القلبية أو الذبحة الصدرية؛ وفي المقابل فإن العقاقير المضادة للاكتئاب التي يعالج بها هذا المرض قد يكون لها تأثير سلبي على أعضائه الحيوية مع مرور الوقت، ولذلك عندما أثبت خزان الحرمان الحسي فوائده لعلاج هذا المرض، كانت جديرًا بإلقاء الضوء عليه في الأوساط الطبية.
في عام 2018 أجريت دراسة نفسية غرضها رصد مدى قدرة خزان الحرمان الحسي على تخفيف أعراض مرض القلق المزمن والتوتر، وأكدت الدراسة أن جلسة واحدة مدتها ساعة في هذا الخزان لها قدرة على الحد من أعراض هذا المرض وتحسين الحالة المزاجية في الحياة اليومية لـ50 مريضًا مشاركين في الدراسة.
كما أكدت دراسة أجريت في عام 2016 على 46 مصابًا بمرض القلق العام المزمن، أن استخدام خزان الحرمان الحسي يخفض أعراض هذا المرض بشكل ملحوظ، مثل قدرته على القضاء على الارق والاكتئاب وحالات الهياج، والإرهاق العام.
ومن خلال أكثر من دراسة أكد خزان الحرمان الحسي أنه له القدرة على تخليص الإنسان من الصداع المزمن، وآلام العضلات، وخاصة آلام الرقبة والتي أصبحت مصاحبة لشكل حياتنا اليومية بسبب استخدامنا للأجهزة الذكية والحواسب الآلية في وظائفنا.
والأهم أن هذا الخزان له القدرة على حماية الجسد وعلاجه من أمراض القلب والأوعية الدموية، من خلال حالات الاسترخاء العميق التي تقلل من مستويات التوتر في الجسم.
أماكن سياحية تحاكي إلى حد ما الحرمان الحسي
فكرة أن «يُنقع» جسدك في مياه مالحة بمكان هادئ، قدمتها لنا الطبيعة قبل أن يفكر فيها البشر، إذ تعتبر واحة سيوة المصرية، أحد أكثر الوجهات السياحة العلاجية لهذا السبب.
ففي قلب صحراء مصر الغربية حيث الهدوء والسكينة تقع واحة سيوة، على بعد 820 كيلومترًا جنوب غرب القاهرة، في تقرير نشرته شبكة «سي إن إن» عن واحة سيوة تحت عنوان «مشهد يحبس الأنفاس في مصر» تصف مجموعة من الصور التقطها مصور محترف من أعلى لبحيرات الملح، واصفًا إياها بأنها لوحات فنية، بالألوانها المختلفة بين الأزرق والأخضر والوردي والأبيض.
ربما لا تكون تلك البحيرات المالحة معزولة تمامًا حسيًا عن الكون، ولكنها مقارنة بصخب العواصم وازدحامها، هادئة وتمنح بعض الحرمان الحسي مع توفير خاصية الطفو، التي يوفرها الملح الغزير الموجود في كل بحيرة.
كيف تمارس الحرمان الحسي يوميًا وبأبسط الطرق
لا تتوفر تلك التقنية – خزان الحرمان الحسي – في البلدان العربية بعد، فكيف يمكن لنا أن نمارس هذا الحرمان الجسي ولو لدقائق يوميًا؟
يجب أن تعلم أولًا أن تلك التقنية يمكن أن تنفذها في منزلك بخطوات بسيطة إذا كنت تمتلك حوض استحمام، وتنفرد بنفسك في المنزل ولو لساعات قليلة.
سيكون عليك أولا شراء كميات كبيرة من الملح «الخشن» وملأ حوض الاستحمام بالماء، ومن ثم وضع كمية كافية من الملح، قد تصل إلى نصف حوض الاستحمام، ثم تغلق اضاءة الحمام فيما عدا ضوء شموع بسيط، وتضع في اذنك سدادات وعلى عينك غمامة، وتبدأ جلسة الحرمان الحسي بموسيقى تستمر لمدة نصف ساعة، واحرص أن تتوقف وحدها، ثم تغوص في الظلام والهدوء، ولا تنس بالتأكيد أن تفصل الهاتف وجرس الباب أيضًا.
تدريبات التأمل قد تكون فعالة للاسترخاء، ولكنها لن توفر الحرمان الحسي كما يوفره الطفو فوق الماء المالح، لكن يمكنك أن تلجأ اليها باعتبارها بديلًا حتى تتوفر لك طقوس تلك الجلسة.
لكن.. هل أجسادنا عبء علينا؟
كل تلك المميزات التي يقدمها خزان الحرمان الحسي، قد تساعد الإنسان على التعافي، ليس من الأمراض النفسية فقط، ولكن من الأمراض الجسدية أيضًا، وكل هذا يتم من خلال توفير عنصر واحد فقط وهو «عدم شعور الإنسان بجسده» لمدة ساعة؛ ما يجعلنا نتساءل: هل أجسادنا تشكل عبئًا على الروح والنفس؟
إذا أردنا الإجابة البسيطة ستكون نعم أجسادنا تسبب لنا العديد من المشاكل النفسية بسبب ما نتعرض له من خلل في الهرمونات، والذي يؤثر على صحتنا العقلية، إلى جانب الآلام الجسدية التي تصيبنا بالثقل، وعدم القدرة على الحركة، وبدورها تؤثر فينا نفسيًا بالسلب، ولكن السؤال الحقيقي الذي يجب طرحه لماذا أصبح جسدنا عبئًا علينا؟
والإجابة – وفقًا لعلم النفس – هي بسبب تعاملنا الخاطيء معه، بداية من الجلسة التي نجلسها أثناء تأدية وظائفنا، مرورًا بالعادات اليومية السلبية مثل قضاء ساعات طويلة على مواقع التواصل الاجتماعي، أو ممارسة أي عادة سيئة مضرة بالصحة مثل التدخين، أو تعاطي المخدرات، والكحول، وصولًا إلى الوقود – الطعام – الذي نمد به أجسادنا، والذي عادة ما يكون فاسدًا أو محملًا بالمعادن الثقيلة، والمبيدات الحشرية، والهرمونات.
وتكون النتيجة أن الجسد يتحول إلى وعاء غير قادرة على امدادنا بالراحة النفسية أو العقلية، فنتخيل أننا عبء عليه، مع أن الواقع أننا نحن من نشكل عبئًا عليه بالطريقة التي نعامله بها، لنصل إلى مرحلة أن ساعة واحدة نُحرم فيها من الشعور بأجسادنا؛ تكون قادرة على معالجة أمراضنا الجسدية والنفسية، وهذا علاج ضروري وفعال بشكل مؤقت، ولكن الأفضل منه هو تغيير نظام الحياة بشكل عام حتى نوفر لاجسادنا الراحة التي يبحث عنها.
بالطبع هذا الكلام ينطبق على الأصحاء الذين يستخدمون خزان الحرمان الحسي بحثًا عن الاسترخاء، وليس المرضى النفسيين، أو من يعانون من إصابات جسدية، ويحتاجونه باعتباره علاجًا طبيعيًا للتعافي.
علامات
LSD, الاكتئاب, الصحة النفسية, الطفو, بحيرات الملح, سيوة, متلازمة التعب المزمن, متلازمة القلق المزمن, هلاوس