«لا أعتقد أن ألد أعدائه سينكر أبدًا شخصيته القوية والمتعاطفة، إنه رجل ممتلئ الجسم، يرحب بك ويده ممدودة. بعيونه الزرقاء الضاحكة، ووجه المستدير، وصوته الجهوري، مع شارب أحمر صغير مقطوع، يبدو متشابها مع مظهر زعيم نقابة العمال الغربيين»، هكذا وصف الصحافي والمؤرخ، جان لاكوتور، النقابي العمالي والسياسي التونسي فرحات حشاد قبل اغتياله بأشهر قليلة عام 1952.

جريمة اغتياله التي لا تزال إلى اليوم غير محلولة اللغز بشكل كامل، في ظل عم وجود حكم قضائي ضد المتهم بقتله، فيما يستمر الناشطون الحقوقيون التونسيون بمطالبة فرنسا بكشف أسرار جريمة اغتيال فرحات حشاد، وتحمل مسؤوليتها في ذلك.

بداية مبكرة في النشاط النقابي

وُلد فرحات حشاد عام 1914 في قرية العباسية في قرقنة بتونس، وهو ابن بحار محمد حشاد وهناء بن رمضان، أمضى ثماني سنوات في مدرسة القرية الابتدائية، التي كان يديرها مدير مدرسة فرنسية، بعد حصوله على شهادة التعليم الابتدائي، توفي والده، فترك المدرسة ليلتحق بالعمل بـ«شركة نقل الساحل» في سوسة عام 1930، ومن هناك سيبدأ أول نشاطاته النقابية؛ إذ أسس اتحادًا شعبيًا ينُتسب إلى «اتحاد العام الفرنسي للشغل» داخل الشركة، وفي نفس الوقت بدأ ينشط مع الحركة النقابية التونسية، الممثلة في النقابة العامة للعمال.

في 1942 كانت تونس مسرحًا للحرب العالمية الثانية؛ إذ كانت خاضعة لحكومة نظام فيشي الفرنسية الموالية للنازيين بقيادة أدولف هتلر، وحين ذاك تطوع فرحات حشاد للعمل مع الصليب الأحمر من أجل رعاية الجرحى، وبعد زوال حكومة فيشي، انتقل إلى الصفاقس، وتزوج، واستأنف أنشطته النقابية عام 1943.

خلال فترة الحرب العصيبة عاين حشاد عن قرب سوء الأوضاع الاقتصادية المزرية للتونسيين والعمال، وعايش أهوال الحرب، وفي نفس الوقت غدت الحركات التحررية تزداد زخمًا يومًا بعد يوم بمباركة من الولايات الأمريكية، بينما تراجعت قوة المصالح الاستعمارية الفرنسية، والبريطانية، والأوروبية عامة جراء كوارث الحرب العالمية الثانية.

كل ذلك جعل فرحات حشاد يرفع سقف طموحه، ولم تعد النقابة التونسية تلبي طموحه في الدفاع عن الشغيلة، ولذا قرر بنفسه تأسيس منظمة تونسية عمالية جديدة، فأنشأ اتحادًا مشتركًا يضم نقابات الشمال، والجنوب، والاتحاد العام التونسي للشغل عام 1946، وانتخب بالإجماع كأول أمين عام للهيكل النقابي الجديد وهو في سن الثانية والثلاثين.

Embed from Getty Images

مسيرة للقوات الألمانية عبر تونس عام 1943

غير أن ذلك لم يكن كافيًا بالنسبة إلى فرحات حشاد، الذي شرع في توسيع نطاق نضاله العمالي إلى خارج تونس، خصوصًا مع دخول الاتحاد العام التونسي للشغل في عضوية الاتحاد العالمي لنقابات العمال في عام 1949، وحينذاك أصبح إنشاء اتحاد شمال أفريقيا للعمال أولوية بالنسبة إليه، من أجل دعم النقابيين المغاربة، والجزائريين، والليبيين على تأسيس هياكل نقابية مستقلة.

وبحلول 1952 فشلت المفاوضات المباشرة بين الحكومتين الفرنسية والتونسية من أجل الاستقلال، وتلا ذلك قمع المحتجين واعتقال القادة الوطنيين، بما في ذلك الحبيب بورقيبة، وهكذا وجد الاتحاد العام التونسي للشغل نفسه على خط المواجهة، ليتولى مسؤولية قيادة المقاومة السياسية والمسلحة ضد سلطات الحماية.

وفي خضم هذه المواجهة تكفل فرحات حشاد بالعمل السياسي في الخارج، وأصبح ينشط في التواصل مع الكيانات النقابية والسياسية الدولية، مسافرًا إلى بروكسيل، وواشنطن، ونيويورك، لحمل صوت تونس في وقت كانت فيه القضايا التونسية والمغربية قيد المناقشة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.

حين أصبح فرحات حشاد خطرًا على فرنسا 

مع بروز نشاط فرحات حشاد في حشد الدعم الدولي لأجل القضية التونسية، أصبح واحدًا من أبرز قيادات الحركة الوطنية التونسية المؤيدة للاستقلال إلى جانب الحبيب بورقيبة وصلاح بن يوسف، فبات الرجل يشكل خطرًا على المصالح الاستعمارية ليس في تونس فقط، بل في شمال أفريقيا عامة.

ومنذ ذلك الحين، حسب صحيفة «لوبوتي جورنال»، أصبح فرحات حشاد هدفًا لوكالات المخابرات الفرنسية، التي بدأت في أكتوبر (تشرين الأول) 1952 في وضع مقترحات لتحييد خطره على المصالح الاستعمارية، من قبيل نفيه من تونس، أو سجنه، أو وضعه قيد الإقامة الجبرية. كما صار محط تشهير وتهديد من الصحافة الموالية للاستعمار آنذاك.

تقرير مصور عن فرحات حشاد

وفي صباح الخامس من ديسمبر (كانون الأول) 1952، وبينما كان فرحات حشاد يغادر ضاحية تونس حيث كان يعيش، تبعته سيارة مجهولة، وأُطلق عليه النار من النافذة بواسطة رشاش، وانطلقت السيارة مسرعة، فأصيب فرحات حشاد في كتفه ويده غير أنه تمكن من الخروج من سيارته واقفًا، لكن بعد لحظات ظهرت سيارة ثانية تحمل ثلاثة رجال، فلاحظوا أنه لا يزال على قيد الحياة، ثم اقتربوا منه، وأطلقوا النار على رأسه، قبل أن يودع جسده على جانب الطريق الذي يبعد أقل من كيلومتر واحد.

لم تعلن أي جهة مسؤوليتها في القيام بالجريمة، لكن نُسب اغتيال فرحات حشاد إلى منظمة «اليد الحمراء»، وهي منظمة إرهابية فرنسية متعصبة للوجود الفرنسي في تونس، وكانت تجمع بين نشطاء شرطة ومستوطنين ومعادين ضد نشطاء الاستقلال التونسيين.

في 2010 جرت محاكمة شرطي فرنسي سابق، بمحكمة باريس الابتدائية، لدفاعه عن جريمة اغتيال فرحات في لقاء مع قناة الجزيرة القطرية، بعد أن صرح بأنه كان عضوًا في عصابة اليد الحمراء، وأن اغتيال فرحات حشاد آنذاك عام 1952 «أمر مشروع» حسب قوله.

ومع ذلك لم تسفر التحقيقات إلى اليوم عن أي نتائج حاسمة للجهة التي كانت وراء اغتيال الزعيم السياسي والنقابي العمالي فرحات حشاد؛ مما دفع البعض إلى التكهن بأن وكالات تابعة للمخابرات الفرنسية كانت ضالعة في الجريمة، وحركت من وراء ستار عصابة اليد الحمراء للقيام بالعملية.

وفاة فرحات حشاد.. ذكرى وطنية في تونس

في الخامس من ديسمبر 1952، أثار إعلان وفاة فرحات حشاد بالإذاعة، احتجاجات عارمة في جميع أنحاء البلاد، واندلعت مظاهرات في الدار البيضاء، والقاهرة، ودمشق، وبيروت، وكراتشي، وجاكارتا، وميلانو، وبروكسل، وستوكهولم.

فيما سارعت الصحف والهيئات الليبرالية الفرنسية إلى التنديد بجريمة الاغتيال وكان من أبرز الوجوه التي نددت علنًا، دانيال غيران، وروجر ستيفان، وكلود بورديت، وآلان سافاري، وتشارلز أندريه جوليان، وحينئذ ترك حشاد وراءه أرملة بالغة من العمر 22 عامًا ولديها أربعة أطفال: نور الدين (ثماني سنوات)، وناصر (خمس سنوات)، وجميلة (ثلاث سنوات)، وسميرة (ستة أشهر).

Embed from Getty Images

تونسي يحمل صورة فرحات حشاد خلال الاحتفال بالذكرى السابعة للثورة التونسية 

نور الدين حشاد الابن، هو اليوم في السبعينات من عمره، ولا يزال إلى الآن يبحث عن نهاية لمأساة عائلته، من خلال النضال لتسليط الضوء على جريمة اغتيال والده، ودفع السلطات الفرنسية إلى تحمل مسؤوليتها. فمنذ فترة شبابه وهو يبحث وينقب في الأرشيف الوطني ويتحدث مع المعاصرين لوالده، حتى راكم صناديق من الوثائق، مصنفة ومرتبة كاملة يقول عنها إنها «ذاكرة تونس وليست أبي فقط».

لم تذهب حياة فرحات حشاد عبثًا؛ فبعد اغتياله أصبح رمزًا للحركة الوطنية التونسية، والحركة العمالية في شمال أفريقيا، ومنذ الاستقلال أصبح يوم وفاته ذكرى وطنية لتونس، وتزين صورته واجهة مقر الاتحاد العام التونسي للشغل الذي أسسه، كما أُطلق اسمه على العديد من الشوارع، بل سمي أحد شوارع بالدائرة الثالثة عشرة في باريس باسم «فرحات حشاد» عام 2013.

المصادر

تحميل المزيد