لم تسلم فرنسا من شرور الديمقراطية؛ فعلى مدار 40 عامًا، ظهرت اللامبالاة في كل موعد انتخابي، وصارت الانتخابات مناسبة لملاحظة مراكز الاقتراع وهي فارغة، حتى أصبحت عادة في بلد يعتبر نفسه بسهولة نموذجًا للديمقراطية. فماذا يحدث عندما لا يشعر معظم مواطني دولة بأنهم ممثلون من قبل المسؤولين المنتخبين؟ أو عندما يرغبون في المشاركة المباشرة في سلطة صنع القرار؟ الجواب: إما أن يثوروا أو يصمتوا.
سلطت احتجاجات السترات الصفراء في فرنسا، قبل جائحة كورونا، الضوء على مستوى غير مسبوق من عدم الثقة الفرنسية في المؤسسات والمسؤولين، ودعت إلى إبطال الأصوات الانتخابية، ومع ذلك، وبعد أكثر من عامين على حركة السترات الصفراء، لم يظهر المسؤولون الفرنسيون أي إدراك لمدى إرهاق النظام السياسي الفرنسي، وعدم مبالاة الأغلبية الفرنسية بالانتخابات الرئاسية القادمة، وكأنهم محكومون بإعادة نموذج الفشل.
ويمكن القول، أن الفرنسيين سواء كانوا محبطين سياسيًا أو يرفضون النخبة السياسية، فإن الملايين منهم، وخاصة الشباب، زهدوا عادة التصويت؛ فلم تعد الأحزاب السياسية تثير اهتمامهم، فيما يتهمون وسائل الإعلام التقليدية بالمشاركة في نظام ديمقراطي فاشل، مع وصول معدل الامتناع عن التصويت إلى مستويات قياسية في الانتخابات الإقليمية الأخيرة.
«حزب الممتنعين» يقود الانتخابات الفرنسية
سجلت الانتخابات الرئاسية الفرنسية لعام 2017 نسبة امتناع تجاوزت ربع الناخبين، وامتنع 50% من الناخبين خلال الانتخابات التشريعية التي تبعتها، ثم فشل إيمانويل ماكرون في الوفاء بوعد حملته الانتخابية عام 2017، ببث الإيمان بالعملية السياسية في قلوب الفرنسيين. فخلال فترة ولايته، شهدت اثنتان من كل ثلاثة انتخابات معدلات امتناع قياسية عن التصويت، باستثناء الانتخابات البرلمانية الأوروبية في عام 2019، ما ولد قلقًا من أن تصبح الفئات التي تشكل «أغلبية اجتماعية»، «أقلية انتخابية» أو «أغلبية صامتة».
لوحظت ظاهرة «الامتناع عن التصويت» في فرنسا منذ الثمانينيات، وهي آخذة في الازدياد منذ ذلك الوقت، لا سيما في الطبقات العاملة وبين الشباب؛ تشير البيانات التي جمعتها شركة «ستاتيستا» إلى أن معدل الامتناع عن التصويت في فرنسا قد ازداد بشكل عام منذ عام 2004، وفي الجولة الثانية من الانتخابات الإقليمية في يونيو (حزيران) 2021، وصل الامتناع عن التصويت إلى مستوى قياسي، ولم يحضر ما يقرب من ثلثي الناخبين المسجلين (65.3%)، بفارق 16% عن نسبة الحاضرين في الانتخابات الإقليمية قبل ست سنوات، في امتناع تاريخي عن التصويت.
كانت نسبة المشاركة بين الناخبين الأصغر سنًا هي الأقل؛ فمن أولئك الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عامًا، شارك أقل من 2 من كل 10 ناخبين في تلك الانتخابات، وكانت الذروة بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عامًا بنسبة 87%.
قدمت مؤسسة جان جوريس لمسوح الرأي نتائج لجنة تقصي الحقائق – بأمر برلماني – لتحديد أسباب الامتناع عن التصويت وتدابير تعزيز المشاركة الانتخابية من خلال عدة مقاييس لرأي الممتنعين عن التصويت للوقوف على أسبابهم. فذكرت الأغلبية الساحقة من الممتنعين عن التصويت مدى شعورهم بالحزن والغضب كحالة عامة، وذكر 36% منهم أن فشل النظام الديمقراطي هو سببهم الأول، وقال 32% أنه لم توجد قائمة تتوافق مع أفكارهم، وانقسم البقية بين اللامبالاة واليأس.
لم تتجسد تلك اللامبالاة المتزايدة بالسياسة فقط في هجر صناديق الاقتراع، ولكن أيضًا في النقاش حولها؛ بينما قال 40% من الفرنسيين أنهم ناقشوا الانتخابات الإقليمية في مارس (آذار) 2004 مع أقاربهم، فإن ثلثهم فقط فعل ذلك خلال انتخابات يونيو 2021.
كانت الملاحظة المثيرة للدهشة هي ارتفاع أعداد زائري حدائق الأحياء المائية، وحدائق الحيوان، والمتنزهات الترفيهية خلال الأسبوع الذي يسبق الجولة الأولى من الانتخابات الإقليمية، والتي وصلت في يوم الأحد، يوم التصويت، إلى مستويات أعلى بكثير من عام 2019، أي قبل وباء كورونا. يتفق ذلك مع التحليل الذي نشرته صحيفة «لوفيجارو» لنتائج استطلاع أجرته مؤسسة «آيفوب-Ifop»، واحتل فيه فيروس كورونا المرتبة العاشرة من بين الأسباب التي قدمها أولئك الذين امتنعوا عن التصويت، في المقابل، شهدت الانتخابات التي أجريت في الأشهر الإثني عشر الماضية في إيطاليا وهولندا وألمانيا إقبالًا شبه عادي.
ثقب أسود يبتلع الديمقراطية الفرنسية
على مدار السنوات الماضية، كانت الطبقات العليا الفرنسية أكثر عرضة للذهاب إلى صناديق الاقتراع من الأشخاص الذين ينتمون إلى الطبقات العاملة، كذلك امتنع 84% من الأشخاص الذين يعيشون في أسرة يقل دخلها عن ألف يورو شهريًا عن التصويت، مقارنة بـ 54% فقط من الأشخاص الذين يعيشون في أسرة بها دخل يزيد دخلها عن 3500 يورو شهريًا، كما كان المستأجرون أكثر امتناعًا عن أصحاب المنازل، ما يعني أن الممثلين المنتخبين عن الشعب يمثلون التفضيلات السياسية للمواطنين الأكثر ثراءً فقط.
بجانب فئة الفقراء، تجازف الانتخابات الرئاسية القادمة بإهمال إرادة الفئة الأصغر سنًا، الشباب، المقسمة بين ممتنع وغير مسجل؛ فتواجه فرنسا أزمة ديمقراطية أخرى ممثلة في التسجيل الخاطئ بالقوائم الانتخابية لبيانات حوالي 7.6 مليون فرنسي، و5 مليون غير مسجلين في القوائم الانتخابية باعتبارهم ناخبين، وفق تقدير المعهد الفرنسي الوطني للإحصاء (INSEE).
تمثل هاتان الفئتان نسبة 25% من الناخبين، لكن تطال مشكلة سوء التسجيل في القوائم الانتخابية الشباب بشكل خاص؛ فمن بين الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و29 عامًا، هناك شخص من كل اثنين غير مسجل في بلديته، ولم يحدث بياناته، ولا يعرف موقع مركز الاقتراع التابع له، ولا يعرف المرشحين عنه، وهذا يفسر جزئيًا وجود فارق يقترب من 40% في الإقبال بين فئة الناخبين في سن الثلاثين والسبعين، وهو السبب في أن الانتخابات الرئاسية لا تزال الأقل في التفاوت بين مشاركة الفئات.
يضاعف سوء التسجيل في القوائم الانتخابية من خطر الامتناع عن الانتخاب بمقدار ثلاثة أضعاف، وفق منظمة «صوت» غير الحكومية، والتي تدعو لإزالة العقبات أمام تصويت الشباب، ومكافحة الامتناع عن التصويت، وحاولت استخدام تطبيق «واتساب» لتسهيل عملية تصحيح بيانات القوائم الانتخابية، كما أقر البرلمان الفرنسي بتصحيح البيانات في عام 2016، ومد المواعيد النهائية للتسجيل في القوائم الانتخابية، وتنفيذ القرار اعتبارًا من عام 2019 فقط، ولم يتم بعد تقييم نتائج التصحيح.
لا يشكل الامتناع عن التصويت أو الأصوات الباطلة أو عدم التسجيل أي خطر على سير العملية الانتخابية في فرنسا؛ فلم يذكر الدستور الفرنسي أي تعارض بين الامتناع عن التصويت وانتخاب رئيس الجمهورية، أو أي انتخابات أخرى، ولم يضع حدًا أدني لعدد الأصوات، كما رفض المجلس الدستوري جميع الطلبات المقدمة له بعد عدم تجاوز المشاركة في الانتخابات المحلية نسبة 30%.
فوضى في استطلاعات الرأي
تعد استطلاعات الرأي إحدى الأدوات التي أصبحت حاسمة في كل من إدارة السياسات العامة من قبل الدول، وفي الحملات الانتخابية، ولا سيما الانتخابات الرئاسية، لكن صارت أخبار استطلاعات الرأي في الأشهر الأخيرة كأخبار سباقات الخيل بالصحف الفرنسية، ومستمرة في الزيادة والسيطرة على المشهد الانتخابي الفرنسي، ففي تقرير الهيئة المنظمة لمسوح الرأي لعام 2017، كان عدد استطلاعات الرأي عام 2002 نحو 193، ارتفع إلى 293 في 2007، ثم 409 في 2012، وأخيرًا 560 في 2017، ويرجع هذا التضخم إلى تعميم نتائج استطلاعات الإنترنت، ومع ذلك لا يزال الأثر محدود لتلك الطريقة المهيمنة في قياس نبض المستجيبين.
كتب لوك برونر، أحد كبار المراسلين في صحيفة «اللوموند» الفرنسية، قصته في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، عن «مراكز الاقتراع المبهمة» في إشارة إلى استطلاعات الرأي، وأكد مشاركته بهويات مزيفة في أكثر من 200 دراسة استقصائية لأكثر المعاهد المرموقة لدراسات الرأي في فرنسا.
بعيدًا عن مسألة الموثوقية في استطلاعات الرأي، تتميز العينات التي يتم تعبئتها على الإنترنت بالانحياز السياسي لصالح اليمين واليمين المتطرف، على عكس نتائج الاستطلاعات عبر الهاتف أو وجهًا لوجه، ما يؤكد أن استطلاعات الرأي لا تقيس نبض المستجيبين، ولا تتماشى إلى حد بعيد مع الواقع الاجتماعي.
يتأكد ذلك مع ما نشره مركز «ويذرهيد» للشؤون الدولية، التابع لجامعة هارفارد، من نقاش حول الأسباب الاقتصادية والثقافية لانتشار اليمينية، أكد خلاله أدريان أبيكاسيس، المستشار السياسي للرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، أن الفرنسيين لم يفقدوا اهتمامهم بالسياسة؛ فوفق مسوح الرأي التي أجرتها الرئاسة الفرنسية خلال فترة عمله، كان الفرنسيون يتعجبون من درجة عدم اهتمام السياسيين بهم، وشعروا كأن السياسيين عالقون في فقاعة، جنبًا إلى جنب مع النخبة ووسائل الإعلام، ولا يهتمون إلا بمصالحهم الخاصة، ولا يأبهون بمصير الشعب.
كشف أدريان أبيكاسيس أن 88% من الفرنسيين، في المسوح التي اعتمدوا عليها، يعتقدون أن السياسيين لا يهتمون برأي الناس، واعتقد 89% منهم أنهم يتصرفون وفقًا لأهوائهم، وكان ذلك السبب في امتناعهم عن التصويت.
يؤكد ذلك الافتراض بأن الأمل كان محركًا قويًا لإقبال الناخبين على التصويت في الانتخابات العامة في ألمانيا وبريطانيا، وكان أحد أسباب تراجع الناخبين في فرنسا، خلال الفترة نفسها بين 2012 و2017. تخيل أدريان أبيكاسيس أن صعود الجبهة اليمينية في فرنسا يمكن أن يكون له التأثير نفسه.
فلفترة طويلة كانت الجبهة الوطنية أبعد عن الفوز من الأحزاب اليسارية، حتى بدأت الأمور تتغير مع قيادة ماريان لوبان للجبهة الوطنية الجديدة عام 2011، واستمر اهتمام أنصار الجبهة الوطنية بالسياسة لدرجة أنه في منتصف عام 2015، كان هؤلاء المؤيدون لليمين المتطرف أكثر اهتمامًا بالسياسة من الناخب الفرنسي العادي لأول مرة، بسبب الأمل في الفوز، أو حتى الاقتراب منه، وربما كانت أقوى اللحظات التي بعثت الأمل في قلوب اليمينيين، هي وصول ماريان لوبان للوقوف أمام إيمانويل ماكرون في المرحلة الثانية من الانتخابات الرئاسية عام 2017.
يتماشى ذلك مع افتراض آخر قدمه فينسنت تيبرج، وهو عالم اجتماعي سياسي، وأستاذ جامعي وباحث في مركزي «إميل دوركهايم» و«ساينس بو» بأن نوايا التصويت التي تقيسها استطلاعات الرأي في الأشهر القليلة قبل انتخابات الرئاسة القادمة هي انعكاس لجزء من المجتمع الفرنسي، وهذا الجزء يميل إلى اليمين، وأولوياته ليست بالضرورة أولويات هؤلاء المواطنين الصامتين؛ وظهرت قوة عامل «الأمل في الفوز» في تحليل للروابط بين نية المنتخب للمشاركة ومن سينتخبه؛ فكانت نوايا اليمينيين للمشاركة أعلى من اليساريين؛ فمن بين المنتخبين الذين يخططون للتصويت لليساري المتطرف جان لوك ميلينشون، سيصوت 55% فقط، مقابل 70% من مؤيدي اليميني المتطرف إريك زيمور، و67% لإيمانويل ماكرون.
الخواء السياسي الفرنسي تتبعه عادةً نتائج مفاجئة
سيعتقد أي شخص يتابع المراحل الأولى من الحملات الانتخابية الفرنسية أن فرنسا صارت يمينية إلى حد ما، بسبب تخلي السياسيين اليساريين الذين عادة ما يدافعون عن قضايا كالقوة الشرائية والحقوق المدنية عن مساحتهم في النقاش العام، ويرفضون التجمع تحت لواء الجبهة اليسارية في الانتخابات القادمة. تسببت استطلاعات الرأي في ظهور وجهات نظر أكثر صرامة حول الهجرة والأمن والهوية، ما جعل تلك القضايا المركزية في الحملات الرئاسية، حتى لو كان عامة الشعب الفرنسي مشغول بمخاوف أكثر إلحاحًا، كقدرته على شراء السلع الأساسية وسط أزمة اقتصادية طاحنة.
استفاد مرشحو الرئاسة الذين وعدوا بأقسى الإجراءات بشأن الهجرة والأمن من أكبر زخم في الأسابيع الأخيرة، حتى قال ثلث الناخبين إنهم يخططون للتصويت لمرشح يميني متطرف، وربما يكون صعود الإعلامي اليميني المتطرف، إريك زيمور، هو العلامة الأكثر وضوحًا للموجة اليمينية، بعد قوله إن الإسلام يمثل تهديدًا وجوديًا لفرنسا، وإدانته مرتين بالتحريض على الكراهية ضد النساء والمسلمين والعرب.
علامة أخرى على تطبيع التطرف كان وعد اليميني إريك سيوتي، الذي فاز في الجولة الأولى من الانتخابات التمهيدية لحزب «الجمهوريين»، بإقامة «جوانتانامو فرنسي»، واعتنق النظرية اليمينية المتطرفة القائلة بأن الشعب الفرنسي يُستبدل به المهاجرون العرب والسود والمسلمون؛ ثم جاء دفاع فاليري بيكريس المرشحة الفرنسية الأقوى للرئاسة، عن خطتها لإبقاء أولئك المسجونين بتهمة الجهاد في السجن إلى ما بعد فترة عقوبتهم، ودعت زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان وزيمور للانضمام إليها، وأكدت أن سيوتي سيلعب دورًا مركزيًا في حملتها الانتخابية إذا انضم إليها.
حتى لو كانت النتائج الحتمية قاتمة بالنسبة لـ «حزب الممتنعين عن التصويت»، فغالبًا ما تكون الانتخابات الرئاسية الفرنسية مليئة بالمفاجآت المذهلة. وفق تحليل موقع «فرانس 24» كان انتصار ماكرون، في عام 2017، هو الأخير في سلسلة من التقلبات العنيفة في بحر التوقعات، بصفته وسطيًا، ولم يترشح من قبل، شن ماكرون، الذي كان يبلغ من العمر 39 عامًا فقط، محاولة غير مضمونة للرئاسة بوصفه مستقلًا على رأس حركته الوليدة، لكنه أطاح الأحزاب الراسخة، ووصل إلى جولة الإعادة أمام اليمينية ماريان لوبان، في محاولتها الثانية للوصول إلى السلطة، وهزمها بنسبة 66% مقابل 33.9%، ليصبح أصغر رئيس منتخب في فرنسا على الإطلاق.
لا تحكم فوضى استطلاعات الرأي وأصوات الممتنعين عن التصويت وحدهما دفة المفاجآت في الانتخابات الرئاسية الفرنسية القادمة؛ فتأتي الانتخابات القادمة في أبريل (نيسان) 2022، بعد أربع سنوات اجتازت فيهم فرنسا عواصف من القلق والتهديد، بدأت بعدة هجمات مسلحة حصدت الأرواح، ثم احتجاجات السترات الصفراء، وإضراب النقابات وتظاهر أعضائها ضد نظام المعاشات التقاعدية الجديد، انتهاءً بأرقام قياسية تسجلها فرنسا يوميًا في حصيلة المصابين بفيروس كورونا، وتهديدات رئاسية بالتضييق على المناهضين للقاحات؛ وإذا كان اختيار الفرنسيين لماكرون احتجاجًا على المؤسسة السياسية، فقد يفيد الانقسام ومشاعر الاغتراب رئيسًا غير متوقعًا.