في 23 أكتوبر (تشرين الأول) 2017، انطلقت فعاليات النسخة الأولى من مؤتمر «مبادرة مستقبل الاستثمار» في العاصمة السعودية الرياض، وهو المؤتمر الأول من نوعه على مستوى العالم، إذ وصف بأنه «دافوس الصحراء»، وعقد برئاسة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وبمشاركة وحضور أبرز القيادات الدولية والاستثمارية على مستوى العالم، الذين وصل عددهم إلى نحو الألفي مشارك، يديرون أصول حول العالم تصل قيمتها لأكثر من 22 تريليون دولار.
لا حدود لطموحنا.. مبادرة مستقبل الاستثمار هي منصة دولية لبناء الشراكات وليست مؤتمرًا فقط.. هذه مناسبة سنوية للاجتماع ومناقشة الفرص والحلول العالمية
كانت هذه كلمات الأمير الشاب في افتتاح المؤتمر الذي اعتبر فريدًا من نوعه؛ إذ إنه يناقش التحول في مراكز القوى، والنماذج الجديدة في عالم الاستثمار، والابتكار لعالم أفضل، وبدا على الأمير الحماس الشديد خلال فعاليات المؤتمر الذي أصر على إعطائه الصبغة العالمية، فيما اعتبر أنه مجرد بداية لانطلاقة قوية؛ فالرجل كشف عن أكبر أحلامه خلال هذه المؤتمر وهو مشروع «نيوم».
ولي العهد كشف لأول مرة عن خطط بلاده لبناء هذه المدينة العملاقة على مساحة 26500 كيلومتر مربع، باستثمارات تبلغ 500 مليار دولار، تتكون من منحدرات مذهلة وشواطئ رملية ومشروعات تقنية تعمل بطاقة الرياح والطاقة الشمسية، يفوق فيها أعداد الروبوت على أعداد البشر، في إشارة إلى أن هذه المدينة ستكون الوجه الحديث للمملكة التي تعتمد حاليًا بشكل شبه كامل على النفط لتمويل ميزانيتها.
كان الأمير محمد بن سلمان يوضح مستقبل مشروع «نيوم»، إذ كشف أن الفرق بين الوضع الحالي في المملكة والذي يأمل أن يحدث في «نيوم» كالفرق بين هاتف ذكي «آي فون 8» وهاتف «نوكيا» قديم، وشدد حينها على أن هذه المدينة ليست «للمستثمر التقليدي، بل للحالمين الذين يريدون إنجاز شيء في هذا العالم»، لكن بعد مرور عام على هذه الكلمات بات الحالمون هم أول المنسحبين من الاستثمار في هذه المدينة، فيما لم تتحرك المملكة كثيرًا عن مستوى هاتف «نوكيا»، بل ربما تراجعت؛ إذ أن النسخة الأولى من المؤتمر ربما تكون البداية والنهاية أيضًا لأحلام محمد بن سلمان، فكيف حدث هذا؟
هكذا حطم ابن سلمان أحلامه الاقتصادية في عام
بعد 12 يومًا من المؤتمر العالمي وتحديدًا في 4 نوفمبر (تشرين الثاني) 2017، كان ولي العهد على موعد مع تحطيم جزء كبير من الصورة التي ظهر بها للعالم خلال المؤتمر؛ إذ صدر أمرًا ملكيًا بتشكيل لجنة عليا لمكافحة الفساد برئاسة ولي العهد، وتم اعتقال عشرات الأشخاص من مسؤولي الدولة والعائلة الحاكمة وشخصيات اقتصادية شهيرة بتهم الفساد وتم إيداعهم في فندق «ريتز كارلتون» بالعاصمة الرياض، وذلك في واقعة وصفت بأنها «حرب داخل العائلة المالكة».
وكان لهذه الحملة صدى عالمي صارخ، فبالرغم من أن نص الأوامر الملكية تحدثت عن أن هذه الخطوة لحماية النزاهة ومكافحة الفساد والقضاء عليه، ومراعاة مصالح المواطنين، لكن لم تؤثر هذه العبارات كثيرًا على نظرة المستثمرين العامة للسوق السعودي، في الوقت الذي كانت الرواية السياسية هي الأقرب للواقع بحسب المحللين، في ظل تجميد البنوك السعودية لمئات الحسابات المصرفية بناء على توجيهات من البنك المركزي.
عززت هذه الحادثة مخاوف رجال الأعمال والمستثمرين حول العالم من الدخول للاستثمار في المملكة التي تلعب فيها العلاقات الشخصية دورًا رئيسيًا في الصفقات بين الشركات، بينما تعتبر الهدايا ضرورية لإنجاز الأعمال في أغلب الأحيان، وهو المناخ الذي لا يفضله المستثمرون حول العالم، وهذه المخاوف ترجمت خلال العام إلى وقائع وأرقام لا يمكن إنكارها؛ إذ إن المملكة باتت تعاني من عزوف كبير للمستثمرين.
ففي يونيو (حزيران) 2018 كشفت بيانات صادرة عن «مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية»، تراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة الجديدة في السعودية إلى أدنى مستوياتها في 14 عامًا؛ إذ انكمشت تدفّقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى 1.4 مليار دولار في 2017 مقارنة بـ7.5 مليار دولار في 2016. هذا الأمر جاء على عكس دول الخليج، فقد زاد الاستثمار الأجنبي المباشر في الإمارات، وقطر، وسلطنة عمان، التي لا يزيد حجم اقتصادها على عُشر حجم الاقتصاد السعودي.
بعد هذه الحملة كتب الصحافي البريطاني ديفيد هيرست كلمات ربما لخصت الوضع إذ قال إن «الاقتصاد في حالة ركود، ويجري الآن استنزاف الاحتياطات، وتم إنشاء لجنةً بإمكانها مصادرة الأصول وفقًا لإرادتها في الداخل أو الخارج، فما الذي يمنع السعودية من فعل الشيء نفسه مع أصول المستثمرين الأجانب الذين يختلفون معها؟» كان هذا التساؤل الأهم حتى الآن، والإجابة جاءت بالفعل بعزوف المستثمرين عن المملكة.
عمومًا كانت الحملة على الفساد هي الحادثة الأولى التي تضررت منها كثيرًا مساعي ولي العهد لتحقيق أحلامه الاقتصادية المتمثلة في «نيوم» ورؤية 2030 عمومًا، وأما فيما يخص الحادث الثاني والأبرز حاليًا والذي يشغل العالم كله تقريبًا فهو اختفاء الصحافي السعودي جمال خاشقجي، والذي قتل داخل قنصلية بلاده في إسطنبول تحت التعذيب على الأرجح، إذ أن ولي العهد بات – إعلاميًا على الأقل – المسؤول الأول عن هذا الحادث، إلا أنه حتى الآن تصرّ السعودية على نفي أيّ دور لها في مقتل خاشقجي.
قتلوه بدمٍ بارد.. ملف «ساسة بوست» عن مقتل جمال خاشقجي الذي هزّ العالم
هذان الحدثان شكلا موقفًا سلبيًا مسبقًا لدى المستثمرين حول العالم من الاستثمار في المملكة، وهي معطيات جعلت النتيجة أن النسخة الثانية من «مبادرة مستقبل الاستثمار»، أو ما يطلق عليه مؤتمر «دافوس الصحراء»، فشلت قبل أن تبدأ.
«دافوس الصحراء» النسخة الثانية.. لن يحضر أحد
منذ الأيام الأولى من انفجار أزمة خاشقجي تعددت تصريحات المؤسسات الإعلامية والشركات ورجال الأعمال بمقاطعة مبادرة مستقبل الاستثمار والتي وصفت بـ«دافوس الصحراء»؛ بسبب أهميتها وحجم المشاركة الدولية فيها؛ إذ كان من المقرر أن يحضر هذا الحدث الاقتصادي نحو 180 متحدثًا يمثلون 140 منظمة، ومشاركة أكثر من 3800 مشارك، يمثلون 90 بلدًا، يمثلون نحو 25 تريليون دولار، أي أكثر من 25% من الاقتصاد العالمي، وذلك بحسب الموقع الرسمي للمبادرة.
لكن الآن تغير الوضع كثيرًا، إذ أن أبرز المشاركين أعلنوا عدم الحضور، وعلى رأسهم رئيس البنك ومديرة النقد الدوليين، بالإضافة إلى وزير الخزانة الأمريكي ستيف منوشين.
ومنذ الإعلان عن اختفاء خاشقجي انسحب عشرات المشاركين وعلقوا مشاركاتهم في استثمارات سعودية، سواء كانوا رعاه للمؤتمر أو متحدثين فيه، وخاصة أن «منظمة العفو الدولية» دعت الشركات إلى «إعادة النظر» في الحضور، ومن أبرز المنسحبين منظمات مثل «إتش إس بي سي»، و«أوبر»، و«جوجل»، و«جولدمان ساكس»، بينما أوقف السير ريتشارد برانسون المحادثات حول استثمار سعودي بقيمة مليار دولار في شركات الفضاء «فيرجين».
وقد ألغى كلٌّ من الرئيس التنفيذي لشركة «جيه بي مورجان تشيس»، جيمي ديمون، ورئيس «فورد موتور»، بيل فورد، حضورهما للمؤتمر لنفس الأسباب، بعد أيام من إعلان كلٍّ من صحيفة «نيويورك تايمز» – الراعي للمؤتمر – وصحيفة «إيكونومست» وصحيفة «فايننشال تايمز» الانسحاب من المشاركة في المؤتمر، كما لن يحضر بوب باكيش ، الرئيس التنفيذي لشركة فياكوم بعد أن كان أحد المتحدثين فيه سابقًا، والقائمة تطول.
ورغم هذه الانسحابات ما زالت المملكة متمسكة بقرار عقد المؤتمر في موعده دون تأجيل، وذلك في الفترة من 23-25 أكتوبر(تشرين الأول)؛ إذ أعلن صندوق الاستثمارات العامة السعودي على موقعه الإلكتروني أن المؤتمر سيعقد بـ40 جلسة ونقاشات مفتوحة ومنتديات جانبية تركز على ثلاث ركائز أساسية هي الاستثمار في التحوّل، والتقنية كمصدر للفرص، وتطوير القدرات البشرية، فهل ستغير المملكة موقفها خلال الساعات القليلة القادمة؟
إصلاحات كبيرة.. لكن لم تكفِ لإقناع المستثمرين
منذ صعود محمد بن سلمان ألغي وجود هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في محاولة لإبراز اتجاه البلاد للانفتاح، كما رفع حظرًا على قيادة النساء للسيارات، وسمح بإقامة حفلات موسيقية، وفتح دور السينما التي أغلقت قبل 40 عامًا، كما تغير بشكل ملحوظ الشكل العام في العاصمة منذ صعود نجم الأمير محمد؛ إذ بدأ اختلاط الشباب في الشوارع والمطاعم، وبدأت إذاعة الموسيقى في مكبرات الصوت، وبعض النساء يرتدين ثيابًا زاهية الألوان، ويحضرن مباريات كرة القدم، وكل هذه المظاهر لم تكن موجودة سابقًا بالمملكة.
وبالإضافة إلى هذا التغير الاجتماعي سعى الأمير كذلك إلى إصدار عدة قوانين، مثل قانوني الشركات والإفلاس الجديدين، وكذلك تبسيط الإجراءات الإدارية المعقدة، والتي قلصت الوقت اللازم لتسجيل الشركات الجديدة، لكن على الجانب الآخر لا زال الخوف هو المحرّك الرئيس للمال حول العالم، مع فقدان الثقة، والسمعة السيئة في ظل حادث مقتل خاشقجي، وهذا المناخ بالطبع سيكون طاردًا بشكل مباشر للاستثمارات، وبما أنّ المملكة تمرّ ربما بإحدى أسوأ فتراتها من حيث الاستثمارات الأجنبية.
عندما يتبدد الغموض.. ستستقر الأسواق
كان هذا تصريح لشاكيل ساروار رئيس إدارة الأصول لدى شركة «الأوراق المالية والاستثمار (سيكو)» في البحرين، تعليقًا على وضع الاستثمار في السعودية، في إشارة إلى أن زيادة الخوف وتوسع دائرة الغموض، يقود المستثمرون بطبيعية الحال إلى العزوف عن الاستثمار في البلاد.
وبالرغم من توافر فرص استثمارية مميزة في السعودية، إلا أن عدم وجود قانون يحمي حقوق المستثمر، يظل أكبر عائق حتى مع الإغراءات التي تعرضها الدولة على المستثمرين، كما أن لدى المملكة لجنة مكافحة الفساد، التي تملك استثناءً من الأنظمة والتنظيمات والتعليمات والأوامر والقرارات بحصر المخالفات والجرائم والأشخاص والكيانات ذات العلاقة في قضايا الفساد العام، وبالتحقيق وإصدار أوامر القبض والمنع من السفر ، واتخاذ ما يلزم مع المتورطين في قضايا الفساد العام.
إذًا لا تكفي هذه الإصلاحات لإقناع المستثمرين بدخول المملكة في الوقت الحالي، وهو ما يهدد تحقيق أحلام ابن سلمان بشكل مباشر، وكذلك يهدد مستقبل الاقتصاد السعودي الذي ما زال يحاول الخروج من آثار هبوط أسعار النفط منتصف 2014، وتنويع مصادر الدخل.