مشروبات لها طعم نافذة, وخبز قديم له طعم صندوق خشبي, وأشربة مغلية لها طعم قداس. من الصعب نظريا فهم هذه المتع الذاتية إلا من عاشوها سيفهمونها فورًا, أو تكون ممن وصلتهم أخبارٌ عن قرية “ماكوندو”, أو الكولونيل ماركيز, فيرمينا داثا وأورسولا, واطلعت على نمط الواقعية السحرية في الأدب اللاتيني وآمنت بأنه لا وجود لامرأة تدخن والطرف المشتعل بفمها, وأن كل هذا خيال كثفه غابرييل غارسيا ماركيز في كتاباته, حتى يأتي بكتابه “عشت لأروي” ويقول لا. هذه حياتي, وهذا واقعي.
ستمائة وثمانون صفحة, عدد صفحات كتاب عن حياته خطه غارسيا ماركيز. ما كان ليكون لولا تلك الزيارة. تمر امرأة بين مناضد الكتب فتقف أمامه وتقول: أنا أمك. لويس سانتياغا ماركيز, أو كما عرفناها بفيرمينيا داثا في روايته “الحب في زمن الكوليرا” تطلب منه مرافقتها لبيع بيت الجدين القديم في آراكاتاكا, رحلة بريئة استمرت يومين وصفها بالحاسمة, حتى أنه لا يمكن لأطول حياة وأكثرها اجتهادًا, أن تكون كافية لروايتها.
“ولا يزال ينتابني حتى الآن في أحلامي ذلك الإحساس المنذر بالشر ليلا, الذي خيم على مجمل طفولتي حتى أرى الفجر يبزغ من خلال الباب المتصدع”.
هو غابرييل خوسيه دي لا كونكورديا. الابن الأول للويس سانتياغا الفولاذية وغابرييل أليخيو عامل التلغراف, ولد يوم الأحد السادس من آذار 1927, في الساعة التاسعة صباحًا, في آراكاتاكا, ونشأ ببيت الجدين وسط الخالات والعمات ورعاية – نيكولاس ماركيز – جده, الكولونيل الذي هاجر من قريته بعد أن قتل أحد أصدقائه, تلك الحادثة التي خلدها الحفيد في صنيعته “مائة عام من العزلة”.
الطريقة الوحيدة للوصول إلى آراكاتاكا للقادم من بارانكيا, هي في مركب مخلع عبر مستنقع فسيح ثم القطار العادي الذي تهب نسماته سوداء. رحلة قطعها حائز نوبل مع والدته عام 1950, إلى قريته ليجد كل شيء مطابقًا لذكرياته, ولكنه أكثر اقتضابًا وفقرًا.
“عانت جمهورية كولومبيا من حرب أهلية بين الليبراليين والمحافظين. فقد كانت السلطة بيد المحافظين بينما قاتل الليبراليون ليصبحوا جزءًا من النظام وهو ما أشعل حرب الألف يوم”.
قالت سانتياغا: انظر. هناك انتهى العالم. كانت أحداثًا لها أن تشكل تاريخ أمة, حرب الألف يوم التي خلَفت حوالي ثمانين ألف قتيل, من عدد سكان يقل عن أربعة ملايين, وقتل الجيش عددًا لم يتم تحديده من عمال الموز المضربين عن العمل, من ثلاثة إلى ثلاثة آلاف قتيل, كلٌ يزيد الرقم وفق ألمه, في بلدٍ لم يعرف السلام, وإنما هدنة عابرة بين ثماني حروب أهلية عامة, وأربع عشرة محلية, وثلاثة انقلابات عسكرية.
كان طفلًا وقت إعلان البيرو تحت النظام العسكري عام 1932, وكانت أسعد فترات حياته لما تخللها من فوضى, فكسر النظام المدرسي وحل محله الإبداع الشعبي لفترة صنعتْ منه موسيقيًا لأيام وشاعرًا ورسامًا لأخرى, غير انتشار الفقر, والذي شعر به فور وفاة جده وانتقاله لأسرته بعدد من الإخوة لا ينتهي, وبانتقال مستمر بين مدارس المنطقة لدراسة لم يكملها في كلية الحقوق.
“ميلاد كاتب جديد ومتميز: جابرييل جارسيا ماركيز”.
هجر بلدته وقضى بطالته بين بارانكيا وكارتخينا دي إندياس, ليعيش بحال أقل من القليل على بعض نقود يتقاضاها من جريدة “الهيرالدو” لزاويته اليومية أو إكمال فراغ متعجل قبل الطباعة تحت اسم “سيبتيموس”, شخصية فيرجينيا وولف المهووس في رواية السيدة دلووي, أما عنوان العمود – “الزرافة” – فكان لقبًا سريًا لرفيقته الوحيدة في الرقص. أدرك مع “كرونيكا” المجلة المنوعة الأدبية التي أصدرها مع جماعة المقهى أن الصحافة ليست مهنته, لكنها كانت محاكاة لكتَاب آخرين, ولكن أهميتها كانت جانبية في إجباره على ارتجال قصص مستعجلة لملْء فراغات طارئة, وعلى هذا النحو كتب, “عن كيف قامت ناتانال بزيارة”, وقصة “عينا كلب أزرق”. حتى عمل مع المعلم ثابالا بجريدة الأونيفرسال, والتي ضمنت له المال, واحتراف مهنة مهمة, لوقت صار هناك في كل صحيفة رقيب من الحكومة, يجلس وراء منضدة في قسم التحرير, كبيته, وله السلطة في عدم السماح بنشر أي حرف يمكن له أن يمس الأمن العام بعد أحداث شغب أنهت شهر عسل بين القوات المسلحة والصحافة الليبرالية حتى الآن.
“كان أحد أكثر تقاريره الصحفية تميزًا ذلك المتعلق بالناجي الوحيد من كارثة المدمرة كالداس والذي أعاد صياغة قصته على طريقته وبحسه الروائي وأسماها حكاية غريق فنالت نجاحا هائلا وبيع منها 10 ملايين نسخة”.
أخذ الريبورتاج الصحفي على أنه الجنس الكتابي الأبرز في أفضل مهنة في العالم, ووخزة تنفيس لتيار أدب العادات والتقاليد المسطح في ميدانه بالذات, وتأكيد – ليس لماركيز – فقد بدأ رأس سنة 1955 بخبر غرق ثمانية بحارة من المدمرة كالداس التابعة للأسطول الوطني إلا أحدهم, وصل منهكًا إلى الشاطئ, بعد أن أمضى عشرة أيام بلا طعام ولا شراب, ولكن بالإمكان إنقاذه, قابله غارسيا بأمر من رئيس التحرير وطلب الأول عدم نشر اسمه مع تفاصيل المقابلة والتي نشرت على فصول, وبعد خمس عشرة سنة من نشر القصة في الإسبيكتادور, قامت دار نشر توسكيتس في برشلونة بإصدارها في كتاب ذي غلاف مذهب, كتب في نهاية مقدمته “هناك كتب ليست لمن يكتبها, وإنما هي لمن يعانيها” وكانت حقوق المؤلف للمواطن المجهول الذي كان عليه أن يعاني, لكي يكون هذا الكتاب ممكنًا.
“أسمى روايته المنزل, وجعل أحداثها في منزل ضخم يسكنه جدان يقع في مدينة ساحلية حارة. كان جابو يسرد حكايته لتصبح بعد سنوات عديدة رواية, مائة عام من العزلة”.
ميل كاهن نازع الحب امتيازاته, جعل من ماركيز الطفل كاتبًا لا يزال في المدرسة الابتدائية, لا ينقصه إلا تعلم الكتابة, مرورًا بحياة مضطربة على الدوام يتملص فيها من الأحلام الكثيرة التي سعت إلى تحويله إلى أي شيء آخر, على ألا يكون كاتبًا. ومع أحد مؤسسي الواقعية السحرية مع “كارلوس فوينتس” و”ماريو بارغاس يوسا”, اعتبر غارسيا ماركيز نفسه ناقلًا للواقع, مع طرح خصائص الأسطورة خاصة في “مائة عام من العزلة” والتي تتناول قصة حياة أجيال متتابعة, بأسلوب الكتاب المقدس ذاته, فيبدأ القصة وينهيها, ويبدو هذا لتأثره بكتاب “ألف ليلة وليلة” وهو أول ما قرأه “غابيتو” الصغير.
“نشرة الأخبار: فاز جابرييل غارسيا ماركيز بجائزة نوبل في الأدب. أكرر. فاز جابرييل غارسيا ماركيز بجائزة نوبل في الأدب”.
يحكي أنه استمع لأسطوانتين اثنتين, الاستهلالات لديبوسي ويا لليلة ذلك اليوم لفرقة البيلتز, بينما كان يكتب “مائة عام من العزلة” في عامي 1965 و1966, لكنه لم يفكر قط في أنه يمكن لتلك الموسيقى أن تكون قد أثرت به لهذا الحد الذي يلمح في كتاباته, حتى إن أعضاء الأكاديمية السويدية وضعوا تلك الموسيقى نفسها كخلفية, عند تسلمه الجائزة 1982. وأدرك أن أسرته نموذج ملحمي, فهي لم تكن قط بطلة, أو ضحية شيء محدد, وإنما مجرد شاهدة بلا فائدة, مرر من خلالها الأحداث ممزوجة بكثير من الخيال والأساطير وأسماء أسرته الفريدة التي جعلت لشخصيات رواياته أقدامًا في الواقع لامتلاكهم اسمًا متطابقًا مع طريقتهم في العيش, ليسوا أناسًا ناجحين, ولم يحاولوا ذلك, حتى أرخ لفشله هو وأمه بعد هذه الرحلة في بيع بيت لا أثر له.
“سيكون لدي متسع للراحة عندما أموت, وحتى هذا الاحتمال, ليس ضمن مشاريعي في الوقت الراهن”.
لعل جملته مطمئنة بعض الشيء, فظل جمهوره طوال عامين يستمع للكثير من التلميح – والتصريح أحيانًا – بمرض ماركيز الذي عاشره سنوات وهم على استعداد لأكل المتبقي من عمره نيئا ليكمل مائة عام كما كان حلمه, ماركيز لم يُصَبْ بالخرف أبدًا؛ فقد نفت مؤسسة “الصحافة الجديدة” التي أسسها ماركيز في كولومبيا على لسان مديرها خايمي إبيو, تشخيص حالته على أنها إصابة بالخرف كما ادعى أخوه وكتب صحفي تحت عنوان “هل انطفأت ذاكرة غابو؟” لأنه لم يتعرف عليه من خلال صوته الذي لم يسمعه ماركيز من خمس سنوات, إلا أنه شخص مسن ينسى أشياء, وبعيدة عن تلك الرسائل التضمينية لكاتب تاريخ باليوم والساعة عانى منذ أن صارت له ذاكرة لكنه ترك قصصًا غير مكتملة وغيرها مما رفض الوارثون نشرها بعدما قرر الرحيل في 17 أبريل 2014 عن عمر يناهز 87 عامًا في مدينة نيومكسيكو.