لعقود طويلة، كان الاعتقاد السائد بخصوص المساواة بين الجنسين هو أنها تؤدي إلى ذوبان الاختلافات بينهما في الرغبات والصفات الشخصية، لكن دراسات حديثة نسبيًّا تقترح علاقة طردية بين الاثنين؛ إذ وجد الباحثون أن التمايز في التخصصات الدراسية والوظائف بين الجنسين يزيد بصورة أكثر حدة في الدول المتقدمة والأكثر تحقيقًا لمبادئ المساواة، كالدول الإسكندنافية مثلًا (الدنمارك والسويد والنرويج وفنلندا)، فيما يعرف بمعضلة المساواة بين الجنسين.
في نهايات القرن الماضي، ظهرت بعض الدراسات التي تشير إلى وجود علاقة بين المساواة بين الجنسين وزيادة الاختلافات بينهما، لكنها لم تفحص عن قرب لمدة زمنية طويلة، ومع زيادة الاهتمام بتلك العلاقة في المجال العام وفي علم الاجتماع وعلم النفس، ظهرت مجموعة من الباحثين الذين أخذوا على عاتقهم تبيان طبيعة تلك العلاقة ومدى أثرها في المجتمع؛ إذ يمكِّننا ذلك من الحصول على فهم أعمق للاختلافات بين الجنسين وتطور شخصية كل منهما.
المساواة بين الجنسين: منظوران متناقضان
من تلك الدراسات دراسة أجراها باحثون من جامعة أوميو بالسويد تحت عنوان: «هل تسبب المساواة بين الجنسين اختلافًا في القيم؟ إعادة تقييم لمعضلة المساواة بين الجنسين»، أجرى الباحثون دراستهم عبر 32 دولة أوروبية يختلف تحقيقها لمبادئ المساواة بين الجنسين، وقارنوا في تلك الدراسة بين المنظور التطوري؛ أي ذلك الذي يقترح أن شخصياتنا والاختلافات بيننا (أي الرجال والنساء) قد تطورت عبر الزمن لأغراض البقاء والتكاثر، وهو الذي يتنبأ بتزايد الاختلافات بين الجنسين كلما زادت المساواة بينهما، وبين المنظور الأحيائي الاجتماعي؛ أي ذلك الذي يستخدم منهجيات أحيائية واجتماعية وطبية وسلوكية، لتفسير ما يحدث داخل جسم الإنسان بما يحدث له من الخارج والعكس، وهو الذي يتنبأ بذوبان الاختلافات بزيادة المساواة.
كانت نتائج الدراسة مثيرة للغاية وغير متوقعة؛ إذ وجد الباحثون أنه تبعًا للمنظور التطوري، فإن المساواة بين الجنسين مرتبطة بزيادة الاختلافات بينهما على المستوى المحلي في 25 دولة أوروبية، وذلك فيما يتعلق بست قيم من القيم الإنسانية الأساسية، وهي في العموم:
- الانسجام مع الآخرين.
- اتباع التقاليد.
- الشعور بالأمن، والقوة، والإنجاز، والمتعة، والتحفيز.
- التوجيه الذاتي.
- عالمية الفكر.
- الإحسان.
أما تبعًا للمنظور الأحيائي الاجتماعي، فكانت النتائج على النقيض؛ إذ وجد الباحثون تقاربًا في الشخصية والصفات بين الجنسين كلما زادت المساواة بينهما. وعند مقارنة المنظورين معًا، تبين أنه توجد علاقة ارتباط بين المساواة بين الجنسين وزيادة الاختلافات بينهما، لكن الغريب في الأمر أنها لم تكن علاقة سببية بأي حال، والفارق بين العلاقة الارتباطية والعلاقة السببية هو أن الأولى علاقة وجود بالأساس، أي إن الحدث (أ) يقع في الوقت ذاته مع الحدث (ب) دون أن يتسبب أحدهما في وجود الآخر، لذلك قالوا قديمًا بأن الارتباط لا يعني السببية.
والاختلافات داخل الجنس الواحد أيضًا
وفي ورقة بحثية نشرتها مجلة «Science» العريقة لباحثين من المجلس البحثي الأوروبي «ERC»، تبين أيضًا وجود دليل قوي يشير إلى أن ارتفاع مستويات النمو الاقتصادي والمساواة في دولة ما يرتبط بزيادة الفروق والاختلافات بين الجنسين في السمات الشخصية الستة الأساسية، وهي الإيثار والثقة والمخاطرة والصبر والدور الإيجابي/السلبي في العلاقات من حيث الاستغلال؛ ما يؤثر في الاختيارات الدراسية والوظيفية، مقارنة بالدول التي تميل إلى التمييز بين الجنسين، والتي تتقلص فيها هذه الاختلافات.
وقال يوهان هرمله، وهو أحد الباحثين في الدراسة، إنه رغم أهمية نتائج الدراسة إحصائيًّا، فإنه واقعيًّا يتقيد تأثير تلك النتائج بعوامل كثيرة. وقال معقبًا على الاختلاف في التفضيلات بين الجنسين بالنسبة للاختيارات الدراسية والوظيفية: «هناك تمايزًا ضخمًا، ليس بين الجنسين، لكن داخل الجنس الواحد، إذا أخذْت شخصًا من الولايات المتحدة مثلًا أو أي دولة أخرى، لن يفيدك كثيرًا معرفة جنس ذلك الشخص في تحديد تفضيلاته واختياراته».
الطبيعة أم التنشئة الاجتماعية؟
تتفق دراسة أخرى نشرها باحثون من كلية باريس للاقتصاد العام الماضي في وقائع الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم «PNAS» مع نتائج الدراسة السابقة؛ إذ فحص الباحثون قاعدة بيانات البرنامج الدولي لتقييم الطلاب «PISA» لعام 2012، وهو تقييم يعقد كل ثلاث سنوات في 64 دولة تمثل 80% من الاقتصاد العالمي، ويشترك فيه أكثر من نصف المليون طالب وطالبة من سن الخامسة عشرة فما فوق، يقيمون فيه بمجالات القراءة والرياضيات والعلوم.
كانت نتيجة الدراسة هي وجود عجز ضخم في عدد النساء المهتمات بالعلوم الرياضية مقارنة بالرجال في الدول الأكثر تقدمًا، والتي تعير اهتمامًا خاصًّا للمساواة بين الجنسين، ولمحاولة تفسير تلك النتيجة، اقترح بعض العلماء وجود اختلافات جذرية بين الجنسين في ثقافات تلك الدول، يزداد ظهورها مع قلة القيود وإتاحة فرص الاختيار وزيادة المساواة، ويجد هذا التفسير أساسًا له في علم النفس التطوري الذي يقترح وجود اختلافات جوهرية في الشخصية والاهتمامات والقدرات بين الجنسين.
لكن هناك تفسيرًا آخر لتلك المعضلة يقترحه الباحثون في الدراسة، وهو أن الصور النمطية التي تربط الرياضيات وعلومها بالرجال تزداد حدة في تلك المجتمعات الأكثر تقدمًا عن تلك الأقل تقدمًا؛ لذلك، فإن الأمر غير مرتبط باختلافات جذرية بين الجنسين بالأساس، لكنه مرتبط بالتنشئة الاجتماعية وتصورات فكرية يمكن التقليل من حدتها، لكنه لا يمكن تغييرها بالكلية؛ إذ إن هذه التصورات التي نبعت منها تلك الاختلافات قد حلت محل الأيديولوجية القديمة القائلة بتفوق الرجال على النساء، لذلك فإنه سيكون من الصعب تغييرها بدون تقديم تصورات مغايرة تحل محلها هي الأخرى، وهذه عملية شاقة لا تتم في زمن قصير.
تتفق جميع الدراسات المذكورة تقريبًا في أن الاختلافات بين الجنسين لن تقل من تلقاء نفسها مع نمو المجتمع اقتصاديًّا وتحقيقه للمساواة بصورة أوسع، لكنه لفعل ذلك؛ على صناع القرار أن يطبقوا سياسات وقوانين تقلل من تلك الاختلافات مباشرة، أو تقلل على الأقل من اللامساواة التي تنتج من تلك الاختلافات بسوق العمل.