سحبت مجلتا «Human Genetics» و«International Journal of Legal Medicine» المرموقتان في سابقة نادرًا ما تحدث، ورقتين بحثيتين جرى تحكيمها ونشرهما عام 2019، عن استخدام النمط الظاهري للحمض النووي (DNA) من أجل إعادة إنشاء ملامح الأشخاص، أو ما يُعرف بـ«الرسم الجزيئي للملامح»، كان قد تقدم بها باحثون صينيون، من بينهم كبير علماء الطب الشرعي في وزارة الأمن العام الصينية.

وذلك بعد «حرب أخلاقية» شنها علماء الوراثة، أثاروا فيها الكثير من التساؤلات عن الكيفية التي حصل بها العلماء الصينيون القائمون على الدراستين، على الموافقة الكاملة والمستنيرة من قبل أفراد أقليتي الإيغور والتبت المضطهدتين في الصين، الذين كانوا ضمن المبحوثين، للحصول علي عيناتهم من الحمض النووي، والتي تقدر بالآلاف ضمن 38 ألف عينة حمض نووي، كانت محل الدراسة.

ويعرف مجموع كل المادة الوراثية في الكائن الحي بـ«الجينوم»، فكل المعلومات موجودة في الحمض النووي؛ بدءًا من الصفات الجسدية، ولون العينين، وشكل الشعر، نعومته أو تجعده، وكذلك سمات سلوكية معينة، وتحدد المادة الوراثية أيضًا أمراضًا جينية قد يصاب بها الفرد، وينقلها لأولاده.

وتقنية تعيين الأنماط الظاهرية بواسطة الحمض النووي هو عملية التنبؤ بالنمط الظاهري (الشكل الخارجي) للشخص أو الكائن الحي، باستخدام المعلومات الجينية التي حُصل عليها من عينة حمض نووي خاصة به، وتُستخدم هذه التقنية البيولوجية بشكل أساسي من أجل التنبؤ بشكل الشخص وأصوله الوراثية أو الجغرافية لأغراض جنائية، فعلى سبيل المثال، نُشرت في يناير (كانون الثاني) 2015، أول صورة مركبة في التاريخ الجنائي مُخلَّقة بالكامل على أساس عينة حمض نووي مأخوذة من مسرح جريمة، راح ضحيتها أم وابنتها، وبالفعل جرى اتهام الشخص صاحب الصورة المخلقة بالاعتماد على التقنية البيولوجية في عام 2017.

تعيين الأنماط الظاهرية بواسطة الحمض النووي

صورة مخلقة في عام 2017، اعتمادًا على عينة حمض نووي مأخوذة من مسرح جريمة قتل الطالبة شيري بلاك في عام 2010 – مصدر الصورة: deseret

المعايير الأخلاقية العلمية vs الأغراض والمعايير السياسية

بالعودة إلى الورقتين البحثيتين اللتين أشرنا إليهما في بداية التقرير؛ نشرت مجلة «Human Genetics» بيانها بخصوص الورقة البحثية في 30 أغسطس (آب) 2021، فيما أصدرت «International Journal of Legal Medicine» بيانها في السابع من ديسمبر (كانون الأول) 2021، موضحتين أنه بالبحث والتحقق حول موافقة المبحوثين على منح العينات، تبين لهما أن الحكومة الصينية تجمع عينات الدم تحت مظلة برنامج فحص طبي ذي طابع إلزامي ولا يمكن للمواطنين رفضه، وذلك حسب ما ورد في تصريحات أفراد من أقلية الإيغور فروا من البلاد، وهو ما يتنافى مع المعايير الأخلاقية للبحث العلمي، والتي تقتضي موافقة المبحوثين على التبرع بعينات الجينوم البشري، وتوقيعهم على موافقة مستنيرة، تشرح تفصيليًّا، ما الذي يعنيه ذلك.

وكانت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، قد أثارت في تقرير لها قبل عامين، لجوء الصين إلى تقنية النمط الظاهري للحمض النووي (DNA phenotyping)، من أجل إعادة إنشاء ملامح الشخص، بما في ذلك شكل الوجه وقياسات الطول، من خلال الاعتماد فقط على عينات الحمض النووي، وذلك عبر جمع عينات ضخمة من الدم لآلاف من أقلية الإيغور في مقاطعة سنجان ذات الأغلبية المسلمة، ومن الأقلية التبتية، الأمر الذي يسمح للصين بتشديد قبضتها وقمعها للأقليات العرقية المختلفة لديها.

وبعيدًا عن الصين، واضطهادها الممنهج للأقليات العرقية المختلفة، فإن استخدام علم الوراثة وخريطة الجينوم البشري وتطويعه لأغراض سياسية من قبل الحكومات، أمر ليس بجديد، وتستخدمه أمريكا بالفعل مع المهاجرين وطالبي اللجوء على حدودها، وتطوعه الأحزاب اليمينية في العالم أيضًا.

أمريكا تتبع عينات الحمض النووي للمهاجرين

في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، وإبان فترة حكم الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، ذكرت وكالة «أسوشيتد برس» نقلًا عن اثنين من كبار المسؤولين في وزارة الأمن، نية الولايات المتحدة التوسع في جمع عينات حمض نووي ممن يعبرون الحدود الأمريكية المكسيكية، وتضمين بيانات الحمض النووي هذه في قاعدة بيانات إجرامية ضخمة يديرها مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، ليكون هذا الإجراء تعديلًا على قانون جمع بصمة الحمض النووي للمهاجرين والمحتجزين الذين سبق اتهامهم بارتكاب جرائم فيدرالية، والذي صدر عام 2005.

Embed from Getty Images

وبررت الإدارة الأمريكية هذا التعديل على القانون، بأنه يأتي بعد زيادة هائلة في عدد الأشخاص الذين يعبرون الحدود الأمريكية المكسيكية، ومعظمهم من عائلات أمريكا الوسطى. وبرغم إعلان المسؤولين أن أعداد المارين من الحدود قد انخفضت في أعقاب الحملات عليهم والتغييرات التي أُجريت على إجراءات اللجوء والاتفاقيات مع دول أمريكا الوسطى؛ فإن ضباط الحدود أعربوا عن قلقهم بشأن احتمال عبور «مجرمين» بينما مواردهم البشرية لا تفي بالتحقق من الهويات.

وكانت هذه الممارسة تسمح للحكومة الأمريكية بجمع العديد من البيانات البيولوجية عن المهاجرين، مما أثار مخاوف أخلاقية كبيرة بشأن الخصوصية، وتساؤلات حول ما إذا كانت هذه الإجراءات ستُنفذ في كل الأحوال على المهاجرين، حتى عندما لا يُشتبه في ارتكاب شخص ما جريمة بخلاف عبور الحدود بشكل غير قانوني.

وعلقت المحامية في الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية فيرا إيدلمان، على هذا الأمر آنذاك بالقول إن «هذه الممارسة من شأنها مراقبة المهاجرين». وجدير بالذكر أن الحمض النووي لأي شخص يحتوي أيضًا على معلومات تعريف عن عائلاته، فيما علق بريان هاستينجز، رئيس مديرية إنفاذ القانون في حرس الحدود الأمريكية، بأن جمع عينات الحمض النووي على الحدود «سيكون أداة جيدة لتحديد العائلات المهاجرة وينبغي توسيعه».

وكانت الطريقة الأصلية المتبعة قبل المضي قدمًا في جمع البيانات البيومترية، هي أخذ بصمات المهاجرين الذين يعبرون الحدود بشكل غير قانوني، وإرسالها إلى قواعد البيانات الفيدرالية التي يمكن أن تصل إليها وكالات إنفاذ القانون الحكومية والمحلية.

وتجدر الإشارة إلى أن جمع عينات الحمض النووي يحدث فقط في حال جرى القبض على شخص بتهمة فيدرالية، وأنه يمكن لوكالات إنفاذ القانون تقديم عينات حمض نووي إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي من المشتبه بهم الذين جرى القبض عليهم أو إدانتهم بجرائم حكومية أو فيدرالية، ومن المواطنين غير الأمريكيين الذين تحتجزهم الحكومة. وقد احتوى مؤشر عينات الحمض النووي الوطني لمكتب التحقيقات الفيدرالي على أكثر من 17 مليون ملف شخصي من معتقلين ومخالفين آخرين، منذ أغسطس 2019.

وفي السياق نفسه، وبالمخالفة للقانون الأمريكي؛ تجمع بعض أقسام الشرطة عينات من الأشخاص الذين لم يجر القبض عليهم أو إدانتهم بارتكاب جرائم دون أمر قضائي، على الرغم من أنه من المفترض أن يقدم الشخص العينة طواعية، وأن لا يجري إكراهه أو تهديده؛ إذ ينص القانون على وجود إدانة أو اعتقال قبل أخذ عينة من الحمض النووي.

وفي يناير (كانون الثاني) 2020، بدأت الحكومة الأمريكية بالفعل في تطبيق هذا الإجراء بشكل تجريبي على الحدود المكسيكية الأمريكية والحدود مع كندا، مشيرة إلى أن الامتناع عن منح عينة من الحمض النووي سيُعد جنحة فيدرالية، وذلك بالرغم من عدم تدريب حرس الحدود على جمع العينات بشكل سليم وإرسالها إلى الهيئات المختصة، مما قد يتسبب في حجز الكثيرين، إلا أن وزارة الأمن الداخلي الأمريكية أصدرت مذكرة بأن مكتب التحقيقات الفيدرالي سيقدم شريط فيديو تدريبيًّا لرجال حرس الحدود.

Embed from Getty Images

وندد كثيرون بهذا الإجراء، من بينهم دانيال موراليس أستاذ في مركز القانون بجامعة هيوستن، وناتالي رام أستاذة مشاركة في القانون في كلية الحقوق بجامعة ماريلاند، وجيسيكا روبرتس مديرة معهد القانون والسياسة الصحية في مركز القانون بجامعة هيوستن، مؤكدين أن القانون الأمريكي يسمح بعبور كل الأشخاص – غير مرتكبي الجرائم – إلى داخل الولايات المتحدة، بغرض طلب حق اللجوء؛ إذ إن قانون الهجرة الأمريكي يقوم في الأساس على «زيادة التنوع العرقي في أمريكا».

مشيرين في مقالهم المنشور في صحيفة «واشنطن بوست»، إلى أن مثل هذه الممارسة قد تحد بشكل كبير من هجرة الشعوب التي يُظن أنها أقل ذكاءً من غيرها، فعلى سبيل المثال مُنح الإيطاليون وغيرهم من المهاجرين من جنوب أوروبا تأشيرات «أقل» بناءً على هذا «العلم الزائف» في الماضي، مشددين على أن التعديل الرابع للدستور الأمريكي يحظر على الحكومة الانخراط في «عمليات تفتيش ومصادرة غير منطقية».

جمع عينات الحمض النووي للمهاجرين يدفع أمريكا في اتجاه «البانوبتيكون الجيني» الذي حذر منه أنطونين سكاليا (أحد كبار القضاة في المحكمة العليا الأمريكية)، والذي يعني المراقبة المستمرة للأفراد من أجل تعقب حركاتهم وسلوكياتهم الاجتماعية والاقتصادية في مجالات مفتوحة باستعمال الحمض النووي لهم، بعد أن كان نظام «البانوبتيكون» الذي وضعه المُشرِّع الأمريكي، جيرمي بنثام، محصورًا فقط على مراقبة الأفراد المدانين في مؤسسات الحجز من أجل تأديبهم وإصلاحهم.

وفي مطلع مايو (أيار) 2021، أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي الحالي، جو بايدن، أنها تفكر بشأن وقف هذه الممارسة التي أقرتها إدارة ترامب، لكن موقع «BuzzFeedNews» الإخباري، نشر تحقيقًا في يونيو (حزيران) 2021، يقول بأن إدارة بايدن ما زالت تجمع عينات الحمض النووي، من طالبي اللجوء والمهاجرين على الحدود الأمريكية المكسيكية، ناقلة عن أحد طالبي اللجوء ويدعى ديفيد، أنه لم يستطع الرفض خوفًا من إعادته إلى المكسيك، حيث يواجه الخطر هناك.

عينات الـ«DNA» تُعيد كتابة التاريخ.. والساسة يطوعون النتائج لخدمة مصالحهم

في عام 1995، شاركت بيا كيارسجارد في تأسيس حزب الشعب الدنماركي (Dansk Folkeparti)، والذي أصبح أحد أنجح الأحزاب الشعبوية والمناهضة للهجرة في أوروبا.  وفي عام 1997 أصبحت كياسجارد عضوًا في البرلمان، ثم رئيسًا له في عام 2016.

Embed from Getty Images

بيا كيارسجارد

في سبتمبر (أيلول) 2018، حضرت كيارسجارد وثلاثة نواب آخرين الحدث السنوي المعروف بـ«ليلة الثقافة (Kulturnatten)»، والذي تفتح خلاله المنظمات الثقافية والسياسية المحلية في كوبنهاجن غرفها للجمهور الدنماركي وللسياح، وفي إحدى فقرات الأمسية، وتحت إشراف الباحث الدنماركي الشهير في الحمض النووي إسكي ويلرسليف، ومدير مركز «GeoGenetics» التابع لمؤسسة «Lundbeck» في جامعة كوبنهاجن؛ قررت رئيسة البرلمان والنواب الثلاثة المرافقون لها، الخضوع لاختبار الحمض النووي والكشف عن النتائج على الهواء مباشرة على شاشة التلفزيون.

وكما هو متوقع، أظهرت النتائج احتواء عينات الحمض النووي المأخوذ من أعضاء حزب الشعب الدنماركي اليميني، على «الكثير من الحمض النووي الإسكندنافي»، لكن المفارقة أنهم لم يكونوا «100% إسكندنافيين خالصين»، فزعيمة الجناح اليميني في الحزب الأكثر يمينية في ذلك الوقت ليست «إسكندنافية نقيَّة» ولها أصول شرق أوسطية.

وبالرغم من أن أبحاث الحمض النووي، تؤكد عدم وجود شعب أو عرق نقي بنسبة 100%، وأن الهجرات المتعاقبة، تسببت في إنتاج أعراق مختلطة، فإن الأحزاب اليمينية والحكومات القمعية، ما زالت تتغنى بنقاء الأصل، بل ترفض منح التصاريح اللازمة لإجراء أبحاث جينية على مومياوات قديمة، لأنها لا تتوافق مع أجندتها السياسية، إذ يذكر إسكي ويلرسليف، الباحث في علم الجينات بجامعة كوبنهاجن أنه طلب تصريحًا يسمح له بالوصول إلى «مومياوات تاريم» من غرب الصين، والتي تبدو ذات ملامح أوروبية، لكن طلبه قوبل بالرفض، لأن دراسة هذه المومياوات، يتعارض مع الأجندة السياسية الصينية التي تقول بأن كل شيء في الصين متشابه.

تاريخ

منذ 3 سنوات
يومًا ما كان الأوربيون من السود.. كيف وصل اللون الأبيض إلى أوروبا؟

في السياق نفسه، وقبل غير بعيد، غرد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، على حسابه الرسمي على موقع «تويتر» بنتائج دراسة، أجراها فريق من الباحثين في معهد «ماكس بلانك لعلوم التاريخ البشري» في ألمانيا حول أصول بعض الفلسطينيين القدامى، قائلين بأنها – الأصول- تعود إلى جنوب أوروبا، وتحديدًا من قبرص وكريت واليونان وجزيرة سردينيا الإيطالية، وهاجروا إلى منطقة الشرق الأوسط، قبل أكثر من 3 آلاف عام (1379 ق.م- 1126 ق.م)، واستوطنوا مدينة «عسقلان»، التي تُعَد إحدى أكبر وأقدم مدن فلسطين التاريخية، وتقع حاليًا في اللواء الجنوبي على بعد 65 كم غرب مدينة القدس المحتلة؛ ويعود تاريخ إنشائها إلى العصر البرونزي.

واعتمدت الدراسة – التي استخدمها رئيس الوزراء الإسرائيلي للدفع باتجاه أجندته السياسية في محاولة للزعم بأن فلسطينيي اليوم ليس لديهم حق في أرض فلسطين – على تحليل الحمض النووي لرفات هياكل عظمية تعود إلى العصور البرونزية والحديدية، منها رفات أطفال كانوا مدفونين تحت منازل للفلسطينيين القدماء، في مدينة عسقلان.

وبحسب علماء الوراثة، فإن دقة التحليلات الوراثية تستلزم دراسة الجينات عبر أجيال مختلفة، وليس جيلًا واحدًا أو حقبة زمنية واحدة لإثبات تاريخ شعبٍ ما أو أصل هذا الشعب، لكن الساسة لا يتورعون عن القفز على النتائج في حال توافقت مع أجندتهم السياسية.

المصادر

تحميل المزيد