«تغير المناخ على الأرض بشكل قوي، وفاقم المسؤولون الأمر بإخفائهم حقيقة ما يحدث، ليحكموا على البشر بالهلاك، خصوصًا بعد اندلاع تلك الحرب العالمية التي تسببت في زيادة حرارة الأرض أكثر وتغير المناخ أكثر وأكثر. ذاب الجليد على الكوكب كله، وسُحقت كل الفصائل الحيوانية والنباتية تقريبًا. ولذا حاول العلماء تبريد كوكب الأرض حلًّا أخيرًا. ولكن حساباتهم كانت خاطئة ليتسببوا في تجمد الأرض حتى نواتها»
هذه الكلمات من مقدمة مسلسل «سنوبيرسر Snowpiercer»، الذي يُعرض موسمه الثاني على منصة «نتفليكس». المشهد كالآتي: وصلَ الاحتباس الحراري لمعدلات غير مسبوقة استدعت تدخل العلماء لإنقاذ الحياة على الكوكب بأي وسيلة ممكنة، ولكن آثار الوسيلة التي استخدموها كانت أخطر على كوكب الأرض، إنها «الهندسة الجيولوجية».
في المسلسل، استخدم العلماء نوعًا من المواد الكيميائية في محاولة لتبريد كوكب الأرض، قاموا بتجهيز المادة وأطلقوها نحو الغلاف الجوي العلوي، بغرض عكس أشعة الشمس ومن ثمَّ تبريد الكوكب. ولكن كانت حساباتهم خاطئة وكانت الكمية المطلقة أكبر بكثير من اللازم، فتجمدت الأرض بالكامل حتى أعماقها، وانخفضت درجات الحرارة بشكل غير مسبوق وصل إلى أقل من 100 درجة مئوية تحت الصفر.
مقطع ترويجي لمسلسل «سنوبيرسر Snowpiercer»
والسؤال هنا: ما هي «الهندسة الجيولوجية Geoengineering»، وهل حان الوقت لتوظيفها لاستعادة المناخ الطبيعي لكوكب الأرض؟ والأهم من هذا، ما الكوارث التي قد تسببها إذا لم يحسن البشر استخدامها أو كانت حساباتهم خاطئة؟
ما هي الهندسة الجيولوجية؟
الهندسة الجيولوجية أو ما يطلق عليها اسم هندسة المناخ أو التدخل المناخي، هي عملية التدخل المتعمد وواسع النطاق في نظام مناخ الأرض. ولهذه التقنية فرعان: الأول هو عملية إدارة الإشعاع الشمسي، وذلك بموازنة تأثير الاحترار الناجم عن الغازات الدفيئة، عن طريق عكس الإشعاع الشمسي ومنع وصوله إلى سطح الأرض.
والفرع الثاني يتعلق بعملية إزالة وعزلِ غاز ثاني أكسيد الكربون، الغاز الأبرز ضمن الغازات الدفيئة والمسبب الأول للاحتباس الحراري، إذ تجري إزالته من الغلاف الجوي وعزله لفترات طويلة، مما يتسبب في تقليل ظاهرة الاحتباس الحراري.
معظم الأبحاث حتى اليوم في مجال إدارة الإشعاع الشمسي تقوم على نماذج افتراضية على الكمبيوتر أو باختبارات معملية. وبحسب ورقة بحثية نشرت عام 2014 في مجلة «Nature»، يظهرُ أن الفرع الأول، إدارة الإشعاع الشمسي، يمكن من خلاله إعادة متوسط درجات الحرارة العالمية إلى مستويات ما قبل الثورة الصناعية، وهو ما لا يمكن أن تقوم به كافة طرق وأساليب الفرع الثاني، وهو إزالة ثاني أكسيد الكربون.
تحوي إدارة الإشعاع الشمسي على أكثر من تقنية، منها نشر غبار في الغلاف الجوي، وطريقة تلقيح السحب لجعلها أكثر إشراقًا أو أكثر بياضًا، لتعكس كمية أكبر من أشعة الشمس، ويقدر تأثير التبريد بهذه الوسيلة بما يتراوح بين 0.5 و1.5 درجة مئوية، وهو تأثير واسع النطاق ولذا من المهم دراسته بدقة شديدة.
فيديو يشرح طريقة تلقيح السحب بهدف عكس الإشعاع الشمسي قبل وصوله للأرض
هناك أيضًا عملية ترقيق السحب، أي جعلها أكثر رقة، لأن السحب الخفيفة المرتفعة تعكس ضوء الشمس مثلها مثل السحب الأخرى، إلا أنها تمتص الأشعة تحت الحمراء الدفيئة بشكل أكبر، وبالتالي ترقيق هذا النوع من السحب أو إبادتها يساعد على تقليل ظاهرة الاحتباس الحراري.
وهناك المزيد من الأساليب، مثل محاولة الحفاظ على جليد القطب الشمالي بعكس الضوء الواقع هناك نحو الفضاء، وهي وسيلة ربما تكون أقل إثارة للجدل مقارنة بالوسائل الأخرى.
هل نحتاج إلى استخدام هندسة المناخ؟
كشفت الأمم المتحدة في فبراير (شباط) 2021، عن ضعف أداء العالم فيما يتعلق بأهدافه المناخية. تقول الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم (NAS) إن هذا التقدم البطيء يعني أن الولايات المتحدة ستحتاج لإطلاق برنامج بحثي تتراوح كلفته بين 100 و200 مليون دولار، للبحث في الهندسة الجيولوجية الشمسية بهدف عكس ضوء الشمس مرة أخرى إلى الفضاء لتبريد الأرض.
واستعرض تقرير الأكاديمية طرق الهندسة الجيولوجية مثل «الدروع الشمسية»، التي تعتمد على حقن مواد تسمى «الهباء الجوي» في طبقة الستراتوسفير. وبالفعل، تبحث مجموعة في جامعة هارفارد هذه التقنية، وتنفذ تجارب إطلاق بضع مئات الجرامات من الغبار المعدني (غبار يحتوي على عناصر معدنية ثقيلة) من منطاد فوق السويد. وفي وقت لاحق من هذا العام، في إطار مشروع باسم «SCoPEx»، ستكون هذه هي المرة الأولى التي تحقن فيها مثل هذه الجسيمات تجربةً لتطبيق الهندسة الجيولوجية.
فيديو يشرح فرضية تبريد كوكب الأرض من خلال استخدام الهندسة الجيولوجية المتمثلة في إدارة الإشعاع الشمسي
يقود المشروع الباحث فرانك كوتش من جامعة هارفارد، ويقول إن العمل العلمي على التغير المناخي وتأثيراته بطيء حتى الآن، بحسب رأيه. وأوضح أن نمذجة كيفية تصرف الجسيمات في هذا المستوى المرتفع، ومقدار ضوء الشمس الذي تعكسه، أو الاستقراء مما يحدث أثناء ثوران بركاني وإطلاق الغبار والأدخنة، يحتاج إلى بيانات رصدية لفهم آليات الهندسة الجيولوجية.
فيلم «جيوستورم Geostorm».. نموذج ناجح يساء استغلاله
لم يكن مسلسل «سنوبيرسر» العمل الفني الوحيد الذي تطرق إلى فكرة الهندسة الجيولوجية وتبعاتها، ففيلم «جيوستورم Geostorm» عمل سينمائي آخر ولكن يقدم «نموذجًا ناجحًا» على استخدام تكنولوجيا الهندسة الجيولوجية، والفيلم من إنتاج عام 2017. تبدأ القصة بسلسلة من الكوارث الطبيعية نتيجة التغير المناخي في كوكب الأرض، ما استدعى تعاون أكبر 20 دولة في مشروع بناء سلسلة كبيرة من الأقمار الصناعية لتنظيم المناخ.
مقطع ترويجي لفيلم «جيوستورم Geostorm»
وينجح المشروع في السيطرة على الأعاصير المدمرة والعواصف الثلجية والاحتباس الحراري، لتنعم الأرض بالسكينة بعد سنوات مضطربة مناخيًّا خلفت كوارث وضحايا، ولكن يحاول بعض الانتهازيين استخدام هذا المشروع سلاحًا لتحقيق أهداف شخصية وتدمير دول أو أفراد بعينهم عبر استهداف مناطق معينة بالأقمار الصناعية بتنشيط ظواهر مناخية حادة.
سيناريو إساءة استعمال التقنيات موجودٌ في كل اختراعات الإنسان، ويسلِّط الفيلم الضوء على المخاوف من استخدام هذه التكنولوجيا المتقدمة، وإمكانية تحولها إلى أسلحة قاتلة في يد الدول العظمى والتي يمكن من خلالها إبادة دول بأكملها.
مخاوف من فقدان السيطرة
مشاهد «جيوستورم» لا تحصر باقي المخاوف من سوء استخدام هذه التقنيات، بل هناك مخاوف من فقدان السيطرة على هذه التقنية مثلما يحدث في مسلسل «سنوبيرسر».
وفي بحث الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم الذي ذكرناه سابقًا، شددت الأكاديمية على أنها لا تدعو إلى نشر تقنيات الهندسة الجيولوجية، محذرةً من أن إجراء المزيد من الأبحاث ليس عذرًا أو ذريعةً «للتخلي عن عملية إزالة الكربون».
وتشير الأدلة حتى الآن إلى أن الهندسة الجيولوجية الشمسية يمكن أن تخفض درجة حرارة سطح الأرض، وتشير لعواقب سلبية غير متوقعة أو مقصودة، وتشمل: تباطؤ الدول في خفض انبعاثات الكربون (المُسبب للاحتباس الحراري)، وقد تُحدث تغييرات سلبية على معدلات هطول الأمطار أو تسمح بالتلاعب في درجات الحرارة في بعض الدول.
وتبرزُ أيضًا مخاوف أخلاقية، فمن سيُحدد المسموح والممنوع في هذه التقنيات؟ هذا النقاش مشابه لنقاش إنسانيَّة الاستنساخ والتلاعب بالجينات، وهناك آراء تقول بضرورة وجود آليات واضحة وضوابط لاستخدام هذه التقنية، فبعد الأبحاث الأولية مثل التي تُجرى في السويد، فمن الذي سيقرر ويحدد كيفية استخدام مثل هذه التقنيات على نطاق واسع؟
ويحذر علماء من أنه بدون وضع قيود تفرضها تلك اللجنة الاستشارية المراقبة لمشروع «SCoPEx» على ما يمكن أن يفعله الفريق البحثي بعد انتهاء الاختبارات الأولية، سيكون هناك خطر حقيقي من الوصول إلى وضع خطير، حيث ستقودنا تجربةٌ إلى أخرى دونَ وجود رادع، ويرى العلماء ضرورة وجود جهود بحث في هذا المجال لتطوير آليات الحوكمة الدولية.
الهيئات الرقابية مثل اللجنة الاستشارية لمشروع «SCoPEx» ليست كافية وحدها، لأنها لن تأخذ في الاعتبار جميع القضايا الاجتماعية والأخلاقية، يمكن إعطاء الدور الرقابي لهيئة في الأمم المتحدة، مثل هيئة الإشراف على اتفاقية «تلوُّث الهواء إلى مسافات بعيدة عبر الحدود» لمسافات طويلة عبر الحدود، أو يمكن إنشاء هيئة جديدة.
من المبكر استخدام هذه الحلول
بحسب آراء بعض العلماء، فإن وقت الهندسة الجيولوجية لم يحن بعد. ما ذكرناه فقط دعوة لبرنامج بحثي دولي متعدد التخصصات حول الهندسة الجيولوجية يركز على فهم الخيارات والمخاطر المحتملة، ولكنه لا يرتبط بالتطبيق الواقعي، فنحن لسنا مستعدين بعد لمثل هذه الحلول التي يعدها هؤلاء العلماء «متطرفة». ولكن الجهد البحثي ذاته مهم ويسلِّط الضوء بشكل مختلف على أزمة التغير المناخي التي يتجاهلها السياسيون حتى اليوم.
علامات
الأرض, الاحتباس الحراري, السحب, المناخ, الهندسة الجيولوجية, تغير المناخ, جيوستورم, سنوبيرسر, هندسة المناخ