في الحادي والعشرين من مارس (آذار) 2022، أعلن ألبريخت فنك؛ مدير مكتب المستشار الألماني السابق، جيرهارد شرودر، الذي قضى في خدمته مدة زادت على عشرين عامًا، أنه سيتنحى عن منصبه. لم يكن وحده، وإنما تنحى معه ثلاثة موظفين آخرين في المكتب عن مناصبهم، وقال فنك للصحافة إن قراره جاء بعد أن قدم نصيحة لشرودر بخصوص عمله في شركات نفط روسية مثل «جازبروم» و«روس نفط»، وأنه أراده أن يتخلى عن عمله ذاك على إثر اجتياح روسيا لأوكرانيا، إلا أن شرودر قد رفض العمل بتلك النصيحة وآثر أن يستمر في عمله، وهو الشيء غير المقبول بالنسبة لفنك بحسب تصريحه، وهو أيضًا ما جلب على شرودر عاصفة من الانتقاد شنتها عليه الصحافة الألمانية منذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا.
لم يتوقف الأمر عند ذلك، فقد قال أولاف شولتز المستشار الألماني الحالي في مقابلة أجراها مع صحيفة «شبيجل» الألمانية أن شرودر لا يليق به أن يعمل بهذه المناصب في شركات النفط والغاز الروسية، وأن عليه التنحي عنها فورًا.
لم تكن هذه بداية علاقة الرجل بالمعسكر الروسي، فالمستشار الألماني منذ عام 1998 وحتى عام 2005، والمعروف بموقفه الرافض للقرار الأمريكي بغزو العراق في بداية الألفية، لم يضيع وقتًا بمجرد أن ترك منصبه الحكومي وقرر أن يقوي علاقته ببوتين وإمبراطورية شركات الغاز والنفط الروسية، ولم يجلب ذلك عليه كثيرًا من اللغط طوال السنوات الماضية، لكن مع الحرب الروسية ضد أوكرانيا والحماسة الأوروبية لقطع كل العلاقات الدبلوماسية والتجارية والشعبية مع روسيا، كان شرودر في منتصف العاصفة، حتى إن نادي بروسيا دورتموند، والذي عرف شرودر بكونه واحدًا من أكثر مشجعيه ولاءً، قد أصدر بيانًا يعزل فيه شرودر عن منصبه رئيسًا شرفيًّا للنادي.
ومع كل تلك الاتهامات والانتقادات والتهديدات، استمر في كونه حلقة وصل بين القيادة الروسية والقيادات الغربية في موجة من قطع العلاقات لا نكاد نرى فيها أحدًا يمكنه القيام بذلك الدور سوى شرودر، فهل كان محقًّا منذ البداية في قراره؟
الشخص الموثوق به لدى الطرفين
على صفحته الشخصية بـ«لينكد إن»، نشر شرودر منشورًا يوضح فيه موقفه من الأزمة الأوكرانية قائلًا: «الحرب ومعاناة الشعب الأوكراني ينبغي أن ينتهيا كلاهما في أسرع وقت. هذه مسؤولية الحكومة الروسية. هناك الكثير ليقال عن الأخطاء والفرص الضائعة في العلاقة بين الغرب وروسيا — من قبل الطرفين».
وفي الأيام القليلة الماضية، خفت حدة الانتقادات الموجهة ضد شرودر من قبل الصحافة الألمانية، ولسبب وجيه؛ إذ اجتمع شرودر مع الرئيس بوتين في موسكو يوم الخميس العاشر من مارس (أذار) الجاري، وتحدث معه لساعات بشأن إنهاء الاجتياح الروسي لأوكرانيا. قبلها، في السابع من مارس 2022، التقى شرودر أيضًا في تركيا مجموعة أوكرانية على علاقة بالوفد المختص بمحادثات السلام مع روسيا، ما جعله حتى منتصف مارس الشخص الوحيد الذي استطاع التوسط بين الطرفين الروسي والأوكراني، بحسب «رويترز».
علقت الحكومة الألمانية على خطوة شرودر بأنها لم تتفق مع الكريملن على أي اجتماع، موحية بأن تلك الخطوة كانت أحادية بحتة، لكن المستشار الألماني، أولاف شولتز، صرح بأنه تابع نتائج ذلك الاجتماع وأن أي جهود تبذل لإنهاء الحرب هي جهود حميدة.
عراب العلاقات الروسية الألمانية.. لماذا شرودر؟
كيف إذن حصل جيرهارد شرودر على تلك المكانة لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؟ الإجابة ستأخذنا إلى قبيل الانتخابات الألمانية عام 2005، والتي تنافس فيها شرودر مع المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل.
قرر شرودر أن فرصه صارت ضعيفة أمام ميركل التي كان متوقعًا لها الفوز في النهاية، واتخذ مسارًا آخر يقود إلى روسيا، إذ دعا الرئيس بوتين إلى اجتماع كانت نتيجته أن تم الاتفاق بين الحكومتين على تزويد ألمانيا بالغاز الروسي مباشرة عن طريق أنبوب يمر ببحر البلطيق، دعي فيما بعد «نورد ستريم»، وهو المشروع الذي ضخ المليارات في خزينة روسيا ووفر لألمانيا احتياجاتها من الغاز الطبيعي.
كان ذلك المشروع هو وليد الصداقة التي ستزداد متانتها لاحقًا بين الرجلين وتتحول إلى شراكة عمل، وسيضيف إلى متانتها التزام الإدارة الألمانية الجديدة بقيادة ميركل بالاتفاق الألماني الروسي. يتصدر المستشار السابق اتجاهًا في السياسة الألمانية يؤمن بأن أمن أوروبا وسلامها معتمد بشكل رئيس على بناء علاقات قوية مع روسيا، وذلك يعني أيضًا وقوفها أمام محاولات توسيع الناتو شرقًا للدول التي كانت جزءًا من دائرة التأثير السوفيتي فيما مضى؛ لذلك فإن المستشار الألماني السابق لم يجد غضاضة في التقرب من القيادة الروسية التي رحبت به بدورها وقربته إليها، ونستطيع رؤية ثمار تلك العلاقة القوية بينهما في الأزمة الحالية، ومحاولته للتوسط بين الأطراف المتنازعة.
هل ينجح شرودر في مسعاه؟
يمتلك المستشار الألماني السابق ميزة لا يتمتع بها كثر في السياسة الأوروبية بشكل عام، وهي معرفة طبائع الدول التي لا تتبنى شكل الديمقراطية الليبرالية الغربية وكيفية التعامل معها بشكل يضمن تحقيق أكبر قدر من المكاسب. فمثلًا، حدثت أزمة عام 2017 بين ألمانيا وتركيا بسبب اعتقال الأخيرة بعض الناشطين الألمان من أصول تركية. لم تستطع المستشارة الألمانية في ذلك الحين أنجيلا ميركل أن تقنع القيادة التركية بالإفراج عن الناشطين، رغم ذهابها بنفسها إلى تركيا.
بعدها، أعطى وزير الخارجية الألماني، زيجمار جابرييل، الضوء الأخضر لشرودر بالذهاب إلى تركيا لمحاولة إقناع الحكومة التركية بالأمر، وأعطته ميركل السلطة ليتحدث باسم الحكومة الألمانية، واستطاع بالفعل أن يحرر الناشطين بعد مقابلته الرئيس أردوغان.
خرج بعدها وزير الخارجية الألماني، زيجمار جابرييل، في مقابلة له مع «شبيجل» الألمانية وقال إن المستشار الألماني السابق كان الرجل المناسب لتلك العملية، إذ بسببه التزمت تركيا بجميع وعودها، ما يفتح مجالًا لتهدئة التوترات بين البلدين.
يخبرنا ذلك أن شرودر يمتلك ما يؤهله للتوسط في حل تلك الأزمة من بين السياسيين الأوروبيين، لكن الأمر لا يعتمد عليه وحده، وإنما يعتمد أيضًا على مرونة الطرفين في إيجاد حل يضمن للجميع أمنه وتحقيق مطالبه المتعلقة بذلك الشأن.