فزِع العالم في اليومين الفائتين بصور الفيضانات التي ضربت ألمانيا، بعدما تسبب انهيار الأمطار بغزارة في حدوث كارثة طبيعية غير مُعتاد رؤيتها في القارة الأوروبية بأكملها. كارثة الفيضانات التي مُنيت بها ألمانيا، دمرت حتى الآن آلاف البيوت وقتلت حوالي 150 شخصًا، فضلًا عن فُقدان الاتصال بحوالي 1500 شخص وعدم التأكد إن كانوا موتى أم أحياء.
في السنوات القليلة الماضية كانت الحكومة الألمانية دائمًا ما تتصدر المشهد بقيادة أنجيلا ميركل عندما تحدث مشكلة أو كارثة في أوروبا، وبالرغم من إعلان الحكومة، تجهيز حزمة من المساعدات المالية لضحايا الكارثة مع العمل على خطة لإعادة إعمار ما أتلفه الفيضان؛ فإنها لا تزال حتى الآن عاجزة عن السيطرة على الوضع؛ حتى أن أرمين لاشيت رئيس وزراء ولاية شمال الراين حيث وقع الفيضان صرح قائلًا: «الوضع لم يصل حتى الآن إلى مرحلة يمكن القول فيها أن الفيضان بدأ في الانحدار… يوجد خبر سيئ كل ساعة».
ففي صباح يوم أمس انهار أحد السدود الضخمة التي كانت تخزن المياه في ولاية شمال الراين؛ فيما يعتري الجميع الخوف حاليًّا، لأن الولاية بها أكثر من 10 سدود أخرى قد تكون على حافة الانهيار، ومن الممكن أن تزيد من حجم الكارثة بشكل مُفجع حال حدث ذلك في الساعات القادمة.
لكن.. كيف بدأ كل ذلك؟
شهدت ولاية شمال الراين وولاية راينلاند أمطارًا غزيرة بطول 4-6 بوصة، خلال النصف الثاني من يوم 14 يوليو (تموز) وحتى نهاية يوم 15 يوليو الحالي. الكمية نفسها التي تشهدها الأراضي الألمانية لكن خلال شهر كامل، وليس في خلال 24 ساعة فقط.
جدير بالذكر أن أصابع الاتهام بعد وقوع أي كارثة طبيعية غير عادية خلال السنوات أو الفترات الماضية كانت دائمًا ما تتجه إلى «التغير المناخي»، وفي الحقيقة أنه في الأسبوعين الماضيين ضربت أوروبا وأمريكا درجات حرارة عالية وصلت إلى 49 درجة مئوية، ويعتقد العلماء أن هذه الموجة هي المُحرك الرئيسي للفيضان.
مدينة ألمانية قبل وبعد الفيضان، مصدر الصورة: بي بي سي
ولمزيد من التوضيح، يجب أن تعلم، أن ارتفاع درجات الحرارة يؤدي دائمًا إلى تكثيف بخار المياه في الهواء على شكل سحب، وعندما تزداد كثافة السحب في منطقة معينة وتبدأ في التصادم تبدأ الأمطار بالتبعية في الهطول مباشرة.
لذا من الطبيعي، أن يؤدي ارتفاع درجة الحرارة بشكل كبير عن المعتاد إلى زيادة كثافة السحب التي تنعكس على زيادة كمية المطر؛ إذ تشير بعض التقارير العلمية أن زيادة درجة واحدة في الحرارة يؤدي إلى زيادة كمية الأمطار بنسبة 6%.
عامل آخر ربما يكون أحد أسباب هطول الأمطار بهذه القوة والسرعة، وهو انخفاض درجة الحرارة في قطبي الكرة الأرضية في الربع الأول من هذه السنة مرتين أو ثلاثة عن السنوات الماضية، وهو ما يؤدي بالتبعية إلى ارتفاع سرعة الهواء في خطوط العرض الوسطى التي تتعامد على غرب قارة أوروبا في الصيف وفي الخريف. وسواء كان السبب ارتفاع درجة الحرارة أو زيادة سرعة الرياح؛ فإن تغير المناخ يبقى هو السبب الرئيسي في هذه الكارثة.
على جانب آخر، تعد ألمانيا واحدة من أكثر الدول الأوروبية التي تساهم في أزمة تغير المناخ، التي يشكل انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون في الهواء العامل الأهم فيها. فالدولة الصناعية أكبر دول الاتحاد الأوروبي وتسهم في انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون بمقدار 8.84 طنًّا متريًّا في السنة، على عكس بريطانيا التي قامت فيها ثورة صناعية والتي ينبعث منها فقط حوالي 5.78 طنًّا متريًّا في السنة!
إحصائية انبعاث ثاني أكسيد الكربون في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، مصدر الصورة: داتا كومون
الطبيعة الجغرافية الألمانية أيضًا تسببت في تسهيل حدوث الكارثة؛ لا سيما وأن الأراضي الألمانية يجري بها خمسة أنهار كبيرة (إلبه، الراين، الدانوب، فيزر، إمس) بالإضافة إلى ثلاثة أنهار متوسطة (أيدر، بين، شيلي)، والأمطار تسبب ارتفاع منسوب الأنهار، وعندما تهطل الأمطار بغزارة؛ تفيض الأنهار بشكل كارثي كما حدث في الأيام الماضية.
ومما يُعاب على الحكومة الألمانية هو عدم اتخاذ إجراءات احترازية لتجنب أخطار حدوث الفيضانات، خاصة وأنه خلال العقود الخمس الماضية، ارتفعت نسبة الفيضانات في الجزء الغربي من البلاد، وآخرها كان عام 2002 وإن لم يكن بخطورة ما يحدث حاليًّا.
الكارثة تصل إلى بلجيكا وهولندا
مساء يوم أمس الجمعة، أعلنت الحكومة البلجيكية حالة الحداد في البلاد بسبب ارتفاع ضحايا الفيضان الذي بدأ في ألمانيا ووصل إلى الأراضي البلجيكية إلى 20 شخصًا، فضلًا عن اختفاء 20 آخرين لم يُعثر عليهم حتى الآن.
فقد اندفعت المياه في شوارع بلجيكا خلال الأسبوع طوال الماضي بعد حدوث سيول من الأمطار الغزيرة بشكل يومي ولا تنقطع على مدار الساعة؛ ووصفت الحكومة منسوب الأمطار أنها حادثة تتكرر كل 200 عام فقط!
وتسببت تلك الأمطار في فيضان المياه الموجودة في نهر الميز الذي يتدفق في مدينة لييج الواقعة في شرق بلجيكا على الحدود الألمانية، ولا يزال النهر يزيد في الارتفاع مهددًا بزيادة منسوب الفيضان في الساعات المقبلة بشكل قد لا يمكن السيطرة عليه كما هو الوضع في ألمانيا.
خريطة الفيضان، مصدر الصورة: بي بي سي
وفي السياق نفسه أعلنت حكومة مدينة فينلو الهولندية الواقعة على الحدود الهولندية الألمانية إخلاء 7 آلاف منزل وبناية في المدينة، ما سيؤثر في حوالي 16 ألف شخص، سيكونون عرضة لأخطار الفيضانات في الأيام القادمة في حال عدم نجاح الجهود الأوروبية في السيطرة عليه.
فهل تتوحد جهود العالم بعد هذه الكارثة للحد من أزمة تغير المناخ التي لن ينجو منها أحد على هذا الكوكب؟ وهل تزعزع هذه الكارثة، إيمان معتنقي نظرية المؤامرة الذين لا يصدقون بوجود التغير المناخي؟