«عبد الباسط عبد الصمد، ومحمد صديق المنشاوي، ومحمد رفعت، ومحمود خليل الحصري، وغيرهم»، تحتل هذه الأسماء رأس قائمة مشاهير قراء القرآن في الوطن العربي، وعند استعراض بقية القراء في القائمة، سنلحظ بشكل لافت للنظر اختفاء الأسماء النسائية.
وإذا ما تنقلنا بين فضائيات، وإذاعات القرآن الكريم المنتشرة اليوم، لن يصادفنا أي صوت نسائي؛ مما يدفعنا للبحث وراء الأسباب التي أدت إلى اختفاء المرأة عن الظهور كقارئة قرآن، تُسجل لها التلاوات، وتدعى للقراءة في المناسبات الدينية، ويكون لها جمهور من المستمعين.
علماء الدين بين المبادرة والمعارضة

الشيخ أبوالعينين شعيشع
«لن يهدأ لي بال حتى تعود المرأة كقارئة للقرآن الكريم في الإذاعة، والعودة إلى العصر الذهبي للأصوات النسائية، التي تجيد تلاوة القرآن مثلما كان موجودًا قبل أكثر من 50 عامًا».
بهذه الكلمات عبر الشيخ الراحل «أبو العينين شعيشع»، نقيب قراء مصر السابق،عن حماسته لإتمام مبادرته التي دعا لها عام 2009، لضم 30 قارئة لنقابة قراء القرآن الكريم، بالرغم من اعتراض البعض، الذين قالوا بأن صوت المرأة عورة، وإن قرأت القرآن، وتقدم حينها لمسابقة قبول القارئات الكثيرات للاختبار، وبعضهن لم تكنَّ أزهريات، وبالرغم من ذلك نجحن بتفوق.
ووصف الشيخ شعيشع ما يقوم به المعارضون لهذه المبادرة بأنه ردة فكرية، معللًا ذلك بأنه كانت هناك قارئات شهيرات يقرأن القرآن بالإذاعة، وبين العامة، والغريب أن ذلك كان يحدث في وقت كان محرمًا على المرأة التعليم، والعمل، مدللًا على ذلك بأنه كان للمقرئات عام ١٩٢٥ يوم مُخصص لقراءة القرآن على الهواء مباشرة عبر الإذاعة، ويُقسم القرآن على الحضور منهن، وكل واحدة تقرأ جزءً، وكانت لهن تسجيلات صوتية في الإذاعة المصرية.
ويبدو أن نقيب قراء مصر الراحل أراد أن يكسر «التابوهات» المجتمعية أكثر، بإعلانه عن استعداده لتبني أية مطربة يكون صوتها حسنًا، وتريد تسجيل القرآن الكريم بعد معرفة أحكام تلاوته؛ لأن صوتها في حد ذاته ليس حرامًا، إلا إذا أدى إلى معصية، أو إلهاء الناس عن ذكر الله، وإضاعة الفروض الدينية، بحسبه.
ورفض الرجل حجة البعض بأنه لم يكن هناك قارئات في عهد الرسول، مؤكدًا على أنها ذريعة غير منطقية للرفض؛ لأن النبي كان يسمح للنساء برواية الأحاديث والإفتاء.
وكان في مقدمة الداعمين لمبادرة شعيشع، قارئ القرآن الشهير الشيخ «محمد محمود الطبلاوي»، نائب نقيب القراء سابقًا، وعلق على الجدل المثار حينها بقوله «مع احترامي لاجتهاد المعارضين، فإنني أرى أن قراءة المرأة لكتاب الله، وتسجيله ليصبح مسموعًا علنًا في وسائل الإعلام عمل شرعي، والأصل في الأمور الإباحة، ما دام صوت المرأة ليس فيه ليونة، أو ترقيق، أو محاولة التحسين بشكل يؤدي الى الإثارة، فإنني لا أرى في هذا الأمر شيئًا».

الدكتور أحمد عمر هاشم
ومن ضمن الموافقين أيضًا على هذه المبادرة كان الدكتور «أحمد عمر هاشم»، الرئيس السابق لجامعة الأزهر، والذي وضع عدة شروط لتحقيق ذلك، بأن يكون بما لا يتعارض مع أحكام الشرع، مؤكدًا أنه لا يجب أن تحول الأعراف الاجتماعية إلى أحكام شرعية، وإنما يجب أن يستند الحكم الشرعي على أدلة شرعية، وليس مجرد انطباعات شخصية، ولهذا اعتبر «هاشم» أن المواءمة الاجتماعية، وتمهيد الرأي العام لقبول هذا الأمر ضروري، حتى لا يحدث صدام بين المؤيدين والمعارضين، ومن ضمن الشروط بحسبه أيضًا، إقامة حوار جاد وعقلاني بين الطرف المؤيد والمعارض، بعيدًا عن التكفير والإهانة، لأن الجميع هدفه مرضاة الله، وليس مصالح شخصية، ولهذا ـ فمن وجهة نظره ـ ليس هناك مانع من أن تقرأ المرأة القرآن، واعتماد المرأة مقرئة بشرط ألا يؤدي ذلك إلى الفتنة.
ولفت الدكتور «نصر فريد واصل»، مفتي مصر السابق الانتباه إلى أنه من الخطأ تعميم الحكم بالمنع، أوالإباحة، حول احتراف عمل المرأة بقراءة القرآن، وإنما يجب عرض القضية كلها على مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر؛ لوضع الضوابط الشرعية لها؛ حتى لا يحدث انفلات يجعل المباح محرمًا، وفي الوقت نفسه لا بد من درس كل حالة على حدة من القراء المخلصين الذين يبيحون عمل المرأة كقارئة للقرآن، بحيث لا يؤدي العمل إلى نتائج عكس المرجوة منه.
وعلى الجانب الآخر كان أبرز المعارضين لمبادرة عمل المرأة داخل الإذاعة كقارئة قرآن، الدكتور «أحمد كريمة»، أستاذ الفقه بجامعة الأزهر، والذي يرى أنه فيما يتعلق بصوت المرأة، فالأصل فيه أنه يقع في دائرة المباح، ولا فرق بينه وبين صوت الرجل، إلا إذا أدت امرأة غناء فيه ميوعة، وخنوثة، وترقيق أو بصوت يؤدي إلي إثارة الغرائز والشهوات ،بحسبه، ومع هذا فإنه يرى أن لتلاوة القرآن الكريم خاصية، فإذا كان ذلك بانفرادها أو مع نساء، فهذا مندوب إليه شرعًا، أما تلاوتها جهرًا على مسامع رجال، أو في المحافل العامة في المساجد والإعلام، فهذا أمر مستهجن ليس لطبيعة المرأة، ولكن لجلال القرآن الكريم، الذي يجب أن يقرأ بخشوع، وصوت رخيم يحافظ علي الأحكام، وعلى جلال الآيات القرآنية، من وجهة نظره.
4 قارئات مصريات يذكرهن التاريخ
وثق الكاتب المصري الراحل «محمود السعدني» في كتابه «ألحان السماء»، تاريخ العديد من قارئات القرآن المصريات، وخصص لهن فصلًا للحديث عنهن، يقول في مقدمته «بموت السيدة نبوية النحاس عام 1973، انطوت صفحة رائعة من كتاب فن التلاوة، والإنشاد الديني في العصر الحديث، فقد كانت السيدة نبوية هي آخر سيدة مصرية ترتل القرآن الكريم في الاحتفالات العامة، والمناسبات الدينية، والمآتم، والأفراح».
وإلى جانب «نبوية النحاس» فهناك عدة أسماء أخرى بارزة، نذكر منها:
1- كريمة العدلية
ذاع صيتها في عصر الشيخ «علي محمود»، صاحب المدرسة العريقة في التلاوة، والإنشاد الديني، والشيخ «منصور بدار»، القارئ الخاص بالسلطان «عبد الحميد»، ووصل صوتها في تلاوة القرآن للعالم العربي، عن طريق أثير الإذاعات الأهلية، واستمرت بعد تمصير الإذاعة، وكانت تلاواتها تُذاع حتى قيام الحرب العالمية الثانية.
وجمعت بينها وبين الشيخ علي محمود قصة حب؛ إذ كانت تعشق صوته وطريقته الفذة في الأداء، وكان هو الآخر يفضل الاستماع إليها، بل يفضل صوتها على أصوات بعض القراء، وكثيرًا ما كانت تصلي الفجر في مسجد الحسين في الركن المخصص للسيدات؛ حتى تسمع صوته، وهو يرفع أذان الفجر.
2- أم محمد
ظهرت في عصر «محمد علي»، وكانت تقوم بإحياء ليالي شهر رمضان الكريم في حرملك الوالي، إلى جانب إحيائها ليالي المآتم في قصور قادة الجيش، وكبار رجال الدولة، وكانت موضع إعجاب محمد علي باشا، وأمر بسفرها إلى إسطنبول؛ لإحياء ليالي شهر رمضان في حرملك السلطانة.
وحصلت الشيخة أم محمد على العديد من الجوائز، والهدايا، وماتت قبل هزيمة محمد علي، ومرضه، ودفنت في مقبرة أنشئت لها خصيصًا في «الإمام الشافعي»، وجرت مراسم تشييع جثمانها في احتفال عظيم.
3- منيرة عبده
بدأت رحلتها مع تلاوة القرآن في سن الـ18، عام 1920، وأحدثت ضجة كبيرة في العالم العربي، حتى أصبح صوتها ندًا لأصوات كبار القراء الذكور، وذاع صيتها في الخارج لدرجة أن أحد أثرياء تونس عرض عليها إحياء ليالي رمضان في قصره بصفاقس، مقابل أجر قدره ألف جنيه، والذي كان يعد مبلغًا ضخمًا في عام 1925، ولكنها رفضت، فما كان منه إلا الحضور إلى القاهرة لسماع ترتيلها طوال الشهر الكريم.
ومع انطلاق الإذاعة المصرية عام 1934، كانت «منيرة» في مقدمة الذين رتلوا القرآن بأجر قدره خمسة جنيهات، في وقت كان الشيخ «محمد رفعت» يتقاضى فيه عشرة جنيهات، ولكن مع بداية الحرب العالمية الثانية، ظهرت فتوى دينية تؤكد على أن صوت المرأة عورة، ولذلك أوقفت الإذاعة المصرية إذاعة تسجيلات منيرة، لتلازم بيتها بعد ذلك حتى وفاتها.
4- سكينة حسن
عند البحث عن تاريخها، لم نجد معلومات عنها سوى أنها كانت ممن سجلوا القرآن الكريم على اسطوانات، وبعد إصدار الأزهر فتوى بتحريم هذه التسجيلات، انتقلت سكينة من تلاوة القرآن إلى مجال الغناء والطرب، وسجلت مجموعة من القصائد التقليدية على الأسلوب الغنائي المتعارف عليه قديمًا، وتغير اسمها من الشيخة سكينة، إلى المطربة سكينة، وهي من مواليد سنة 1892، ورحلت عن عمر يناهز 56 عامًا.
الإندونيسية «ماريا».. تطمح لأن تكون أعظم قارئة قرآن
«أبي كان رجلًا عصريًا، فمن البداية علّمني أنني متساوية مع أي شخص، رجلًا كان، أو امرأة، وبقيت كلماته حية في نفسي حتى اليوم».
ما زالت الإندونيسية «ماريا أولفا»، والتي تعد من أهم قارئات القرآن في جنوب شرق آسيا، تتذكر والدها بعد رحيله؛ وذلك لدوره المؤثر في وضعها على الطريق الذي تراه صحيحًا منذ صغرها، بتعليمها تجويد القرآن، ومساعدتها على توسيع طبقاتها الصوتية، وتشجيعه الدائم لها على مواصلة حفظ القرآن الكريم.
ومن وجهة نظر «أولفا» البالغة من العمر 61 عامًا، فإن من أهم العوامل التي ساعدتها في مسيرتها، ما تتمتع به إندونيسيا من كون النساء هناك بعكس الكثير من البلدان الإسلامية، يحتللن موقعًا أعلى في ثقافة أكثر تسامحًا من غيرها، والفتيات يشجَّعن منذ سن مبكرة للتنافس مع الذكور.
وفازت «أولفا» عام 1980 بجائزة أحسن قارئة قرآن، نظمت للنساء على مستوى عالمي في ماليزيا، وهو ما منحها شهرة واسعة في بلدها، وجعلها تشعر بأن هدفها الأكبر، وهو أن تصبح أعظم قارئة قرآن، ليس ببعيد، فبعد فوزها بالجائزة أصبحت تلاواتها تذاع عبر الراديو والتلفزيون، وفازت بعقود تسجيل كثيرة، ودُعيت إلى الكثير من البلدان المسلمة.
ولكنها ما زالت تواجه بعض العوائق، فعلى الرغم من مشاركتها في تقييم تجويد القرآن في إندونيسيا، وخارجها، فإن منظمي هذه المسابقات ما زالوا لا يسمحون للنساء بالتحكيم في المسابقات الدولية، ولهذا فهي تعمل خلف الكواليس من أجل تغيير وجهات نظر الرجال تجاه النساء، انطلاقًا من اقتناعها التام بأن الإسلام ليس هو الذي يفرق بين الجنسين، وإنما الثقافات.