قصاصات صغيرة تحت القبعة مكتوب فيها القروض التي منحها الأمريكي ماركوس جولدمان. بدا الأمر مشروعًا مربحًا أكثر من تجارة الملابس التي اعتزلها عام 1869. لذا قرر ذو الأصل الألماني التوسع في مشروعه، وافتتح أول مكتب له، في دور أرضي لأحد المنازل القريبة من أشهر شوارع المال والبورصة «وول ستريت». راكم جولدمان عملاءه على مدار 27 عامًا، وانضم له زوج ابنته صموئيل ساكس. وفي عام 1896 صارا مالكي شركة رسمية مُسجلة في سوق الأسهم بنيويورك تحت اسم «جولدمان ساكس».
تبدو هذه قصة نجاح لشخصٍ بدأ من الصفر ثم وصل إلى العالمية، قصة لا تحدث كل يوم لكنها تحدث لبعض الأشخاص بالتأكيد. لكن ما يجعل رواية تلك القصة أمرًا مهمًّا، ويثير التساؤلات والشكوك حول مدى عمق المنظمة ونفوذها؛ هو أفرادها الذين شقّوا طريقهم بسهولة إلى أغلب الحكومات الأمريكية المتعاقبة. فوزير مالية الرئيس الأسبق بيل كلينتون، ثم وزير مالية الرئيس جورج بوش الابن، كانا منها. كذلك فقد برز اسم الشركة بوصفها أبرز مُتبرع لحملة الرئيس السابق باراك أوباما في حملته الأولى عام 2008.
الوحيد الذي عد التعامل مع المنظمة تدخلًا في السياسة الأمريكية هو الرئيس الحالي دونالد ترامب. إذ وجه ضربة قاضيةً لمنافسته هيلاري كلينتون بالقول إنها تلقي ندوات سرية وبمقابل مادي داخل مقر «جولدمان ساكس». المعلومة أثارت انتقاد الرأي العام، وضغط عليها ترامب أكثر من مرة في أثناء حملته الانتخابية. لكن حين وصل إلى البيت الأبيض تغيّر الكلام فجأة، فشملت حكومته التي تكونت لحظة دخوله البيت الأبيض وزيرًا للمالية من أبناء المنظمة، واختار رئيس «جولدمان ساكس» شخصيًّا ليكون مديرًا للمجلس الاقتصادي الوطني.
ترامب يهاجم ثم يتعاون.. «جولدمان ساكس» قادر على السيطرة
قبل أن يترك منصبه ليصبح مديرًا للمجلس الوطني؛ صرّح جاري كوهين بأن موظفي شركته موجودون في كل مكان. عللّ ذلك بأن ميزانية الشركة ضخمة، وعدد موظفيها هائل وتعمل في مجالات متعددة؛ لذا من الطبيعي أن تراهم يشغلون مناصب مهمة في أماكن متفرقة. التصريح يمكن أن يكون ردًّا على ما غرّد به السيناتور بيرني ساندرز عام 2015، والذي قال فيه إنّه لا يستبعد أنه سيأتي عام يكون فيه أربعة على الأقل من 12 رئيسًا للبنوك الاتحادية الفيدرالية من مكانٍ واحد فقط؛ «جولدمان ساكس».
هاجم ساندرز الشركة خوفًا من أن تتوغل أكثر في السياسة الأمريكية. خاصةً بعد وصول مالكوم ترنبل أحد أعضاء «جولدمان ساكس»، لمنصب رئيس وزراء أستراليا، وتوجه الشركة للاستثمار في شركتي «سبوتيفاي» و«أوبر». ترامب وساندرز هاجما المؤسسة، لكن ترامب تخلى عن الهجوم وآثر التعاون فور دخوله البيت الأبيض. قد لا يدعو الأمر للتوقف بعد أن اعتاد المواطن الأمريكي والمُتابع العربي رؤية تناقضات عدة في سياسات ترامب، لكنه ربما فعل ذلك خضوعًا لسلطة «جولدمان ساكس»، ولو دخل ساندرز البيت الأبيض في الانتخابات القادمة 2020 لفعل المثل.
لا تفرض المؤسسة سطوتها عبر المال والنفوذ فحسب؛ بل تتجه إلى انتزاع الرضا الشعبي عنها. فبعد أن ساءت سمعة الشركة إثر محاولتها التربح من الأزمة الاقتصادية التي حدثت عام 2008، بالتوجه للمضاربة في سوق العقارات عام 2010، تلك المحاولة جلبت غضبًا شعبيًّا وصارت المؤسسة دليلًا للجشع ومصدرًا سيئًا للمال السياسي؛ بلغ الغضب ذروته عام 2012 حين حدث تسريب لبعض المراسلات بين موظفي الشركة يطلقون فيها لقب الدُمى على العملاء.
لكن كل ذلك لم يُؤثر في الشركة بأي صورة، ولم يمنع الإدارة الأمريكية من التعامل معها، أو حتى إخفاء هذا التعامل. بل على النقيض تمامًا، فأسهمها في ارتفاع مستمر، وزادت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016 بنسبة 30%.
في الأصل كان «مجلس الأعمال»
قبل المجلس الاقتصادي الوطني كان يوجد مجلس آخر يُسمى مجلس استشارات الأعمال. مجلس الاستشارات كان فكرة فرانكلين روزفلت، وكلّف به سيدني واينبرج. واينبرج في الأصل موظف في «جولدمان ساكس»، لكنّه قفز بخطوات واسعة على سُلم الترقيات؛ بسبب قدرته على إنشاء علاقات قوية مع العديد من الشخصيات العامة والمهمة.
من تلك الشخصيات كان روزفلت، حين كان حاكمًا لولاية نيويورك. ثم حين صار رئيسًا للولايات المتحدة استطاع واينبرج إدخال «جولدمان ساكس» في قلب السياسة الأمريكية، فمجلس الاستشارات أُسس ليكون وسيلة تواصل بين رجال الأعمال وصنّاع القرار؛ كي يستطيع رجال الأعمال الظفر بقرارات سياسية لا تتعارض مع أعمالهم.
لم ينتهِ دور واينبرج بحصوله على لقب أول موظفي الشركة دخولًا في عالم السياسة، بل انفرد الرجل بجمع التبرعات لترشيح الرئيس الأسبق آيزنهاور، إذ رأى فيه حليفًا جيدًا إلى درجة سماحه لواينبرج بتسمية وزير المالية الذي يُحب. مات واينبرج لكنّ المجلس الذي أنشأه لم يمت. تغيّر اسمه ليصبح مجلس الأعمال، لكن حقيقته لم تتغير، وظل يرابط بعيدًا عن البيت الأبيض بعدة أمتار. تلاشت تلك الأمتار حين وصل أوباما إلى السلطة، إذ دعاهم للاجتماع داخل البيت الأبيض. واستمرت تلك العادة بعد وصول ترامب إلى السلطة.
«أهلًا بكم في البيت الأبيض. لقد سعى الرؤوساء جميعًا منذ روزفلت إلى استشارة مجلس الأعمال، كما سعى كل رئيس منذ ليندون جونسون إلى التواصل معكم. أجل، هذه الشراكة مهمة حاليًا في فترات السلام والرخاء النسبيين، لكنّها تصبح حاسمة في حالة الأزمات الاقتصادية»
ذلك الخطاب المُرحِّب لم يكن بعد أزمة أنقذت فيها المؤسسة الإدارة الأمريكية، بل العكس. الخطاب جاء بعد أن أنقذت الحكومة الأمريكية المؤسسة من تبعات الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2008. تدخُل الولايات المتحدة لإنقاذ شركة خاصة من الأزمة قد يُفهم بمعرفة حجم بعض أعضائها، فمنهم ريكس تيلرسون، المدير التنفيذي لإمبراطورية البترول «إكسون موبيل»، والذي شغل لعدة أشهر منصب وزير الخارجية في حكومة ترامب. ومنهم كذلك جيفري بيزوس، مؤسس ومالك موقع «أمازون». إضافة إلى أن مالك الصحيفة الشهيرة «واشنطن بوست» يُعد أحد أفراد مجلس الأعمال ومسئولي «جولدمان ساكس».
كذلك من قدامى محاربيها يبرز اسم جون ثورنتون، الأستاذ ورئيس قسم القيادة العالمية في جامعة تسينجهوا في بكين، الرجل الذي حافظ طوال سنوات على علاقة قوية بين بكين وواشنطن.
التربح من الأزمة العالمية.. «جولدمان ساكس» يعرف كيف تؤكل الكتف
من المواقف التي ربحت فيها «جولدمان ساكس» بشدة، كانت الأزمة الكبرى التى طالت قطاع الرهن العقاري عام 2008. فقد كانت الشركة الأولى والأكبر التي راهنت على انهيار فقاعة الرهن العقاري، وفازت بالرهان. الأقوال تتواتر عن أن الشركة لم تكن مجرد مراهن أو شركة اقتصادية امتلكت رؤيةً أعمق للمشهد فاستطاعت التنبؤ بانهيار السوق؛ بل يدور الحديث عن أنها كانت مهندسًا لهذا الانهيار.
وتصور صحيفة «واشنطن بوست» في تقرير لها صدر بعد الأزمة بعامين، كيف احتفل العاملون بالشركة بتلك المأساة التي أفقدت فئةً كبيرةً من الشعب الأمريكي أموالهم. تقول الصحيفة إن الموظفين تبادلوا رسائل التهنئة بالأموال الضخمة التي سوف يجنونها بعد هذا الانهيار.
قد يبدو الأمر مستفزًّا إلى درجة تجعل من الصعب تصديقه، أن يحتفل العاملون بأزمة طالت عائلاتهم وأصدقاءهم، لكن ليس ذلك أول ولا آخر عمل مستفز فعلته المنظمة. فعند تأسيس الشركة استخدم واينبرج عبارةً شديدة الوضوح لوصف آلية عمل الشركة «الجشع طويل الأمد». لم يُجمّل واينبرج العبارة بمصطلحات اقتصادية ولا بكلماتٍ يحبها الجمهور، بل أكدّ أن شركته تقوم على الجشع المستمر. وفي عام 2009 صرّح لويد بلانكفين، رئيس الشركة ومديرها التنفيذي آنذاك، بأن «الشركة تقوم بعمل الإله».
لا يبدو أن الاستفزاز حدث عابر في تاريخ المنظمة، بل نجده طابعًا غالبًا على تصريحات أفرادها، ومن ذلك أنّك لن تجد لافتةً واحدةً تخبرك أين يقع المقر الرئيسي للبنك. مقر المؤسسة يقع في أحد الأدوار في ناطحة سحاب قرب النصب التذكاري لمركز التجارة العالمي. يبرر البنك ذلك الأمر أنّه يحاول تجنب وجود أي مكان يُمكن أن يُهاجم من خلاله مباشرةً.
لكن إخفاء اللافتة لم يمنع هيئة الرقابة المالية الأمريكية من تغريم «جولدمان ساكس» مليارات الدولارات بسبب الاستثمار المشبوه في قضية الرهن العقاري. كذلك دفعت المؤسسة مبالغ أخرى، غرامة لتقديمها مساعدات انتخابية لسياسيين من أجل ترجيح فوزهم في مناصب حيويّة ستؤهلهم لإغلاق قضية تلاعب المؤسسة بالرهن العقاري للأبد.
«جولدمان ساكس».. الأخطبوط مصاص دماء
في تقريرٍ صادم ومُطوّل وصف موقع «رولينج ستون» البنك بأنّه مصاص دماء ضخم ملتف على وجه البشرية، يمتص دماء الجميع، ويزحف إلى أي مكان جديد تفوح منه رائحة الدماء. يصف التقرير آلية عمل «جولدمان ساكس» بأنّه يخلق الأزمة عبر بيع المراهنات التي يعلم البنك أنها سوف تخسر، ثم حين تخسر بالفعل يُقرض البنك الخاسرين لتسديد ديونهم، حتى يبدو فاعل خير لا بنكًا جشعًا.
لا يتوقف تأثيره عند الولايات المتحدة، بل تمتد أذرع الأخطبوط مصاص الدماء إلى دول متفرقة. ليبيا كانت محطةً رئيسيةً له، إذ نُشرت وثائق تثبت تورط «جولدمان ساكس» في إحضار عاهرات لعدة فنادق فخمة لمرافقة عدد من المسئولين الليبيين. الوثائق تؤكد أن المؤسسة كانت مسئولةً عن خسائر قدرها 12 مليار دولار لصندوق استثمار ليبي، كان مملوكًا للرئيس السابق مُعمر القذّافي. وأنها حققت أرباحًا من تلك الخسارة قدرها 370 مليون دولار.
الاسم الذي ذكرته الوثائق هو يوسف كباج، مسئول مصرفي في «جولدمان ساكس». دفع يوسف 600 دولار لعاهرتين من أجل قضاء ليلة مع أحد النافذين في صندوق الاستثمار الليبي عام 2008. كذلك أظهرت الرسائل المُسربة سخرية كباج لمسئولي «جولدمان ساكس» في الولايات المتحدة من عدم خبرة المسئولين الليبيين. نقص الخبرة الذي يسخر منه كباج هو ما مكن المؤسسة من إقناع هيئة الصندوق بالاستثمار في شركات أصبحت عديمة الجدوى والقيمة بعد عامين فقط.
كما برز اسم «جولدمان ساكس» في فضيحة مدوية طالت صندوق السيادة الماليزي. وافقت المؤسسة على منح صندوق السيادة قرضًا بفائدة قدرها 11%، رغم أن الطبيعي أن تكون الفائدة 1.3% فقط. الربح الضخم الذي فاز به البنك دفعه الشعب الماليزي الذي وُضعت أمواله رغمًا عنه في هذا الصندوق. وبعد ظهور خيوط عملية الاحتيال اتضح أن تيم ليسنر مسئول «جولدمان ساكس» الذي وقع تلك الصفقة مع الصندوق الماليزي، قد حصل لنفسه على 10 مليون دولار مقابل تسهيل تلك الصفقة.
لبنان أحدث ضحايا مصاص الدماء
في أغسطس (آب) 2019 أعلن مصرف لبنان حصوله على ودائع من الخارج بقيمة 1.4 مليار دولار، تبين بعد ذلك أن تلك الودائع تدفقت من «جولدمان ساكس». القرض جاء بعد عدة شهور من زيارةٍ لفريق البنك إلى لبنان في أكتوبر (تشرين الأول) 2018. التناقض بين التاريخين بيّن أن جولدمان قد قدّم تقريرًا يؤكد فيه أن الاستثمار في لبنان بات أمرًا خطيرًا، ونصح المستثمرين بالابتعاد عنه، لكنّ جولدمان ذاتها هي من تقدم الدعم للبنوك اللبنانية كي تعيد هندسة السوق وتتفادى الانهيار.
يبدو السيناريو مألوفًا بعض الشيء، لذا بالعودة إلى الوراء لعام 2001 نجد حدثًا مشابهًا في اليونان. قدّم البنك وديعةً قدرها 2.8 مليار يورو لم تُسم قرضًا، بل سُميت عملية تبادل عملات من خارج الموازنة. نتيجةً لهذه العملية المُعقدة اختفى 2% من إجمالي الديون اليونانية، لكن جولدمان ربح 793 مليون دولار. لكن بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) في الولايات المتحدة انخفضت قيمة السندات اليونانية في البورصة العالمية؛ فتضاعفت قيمة ديون اليونان.
عاد «جولدمان ساكس» للنشاط في لبنان عام 2016، وبدأ عبر العديد من وكلائه بالقيام بعمليات إعادة هيكلة للمصرف اللبناني. تلك العمليات إجمالًا يمكن تلخيصها بعملية تحويل الدين الخارجي للدولة من دين على عاتق أفراد الشعب إلى دين على عاتق طرف خارجي. يبدو الأمر جيدًا، طرف خارجي يتحمل ديون الشعب، لكن التدقيق يجعلك تتساءل لماذا يختار مستثمر ما أن يحمل دينًا ليس له؟ من هنا تتضح خطورة الأمر بأنه سيجعل مصرف لبنان مدينًا لجهة خارجية يمكنها اللجوء للقضاء الدولي حال التأخر عن السداد. كما يمكنها وضع يدها على كل مصادر وممتلكات مصرف لبنان.
الأخطبوط مصاص الدماء آخذ في الانتشار، ينتقل من دولةٍ لأخرى دون توقف. لكن لا يبدو أن أحدًا يعرف كيفية إزالة ذلك الأخطبوط من على وجه البشرية. فالأمريكيون، الخبراء والمواطنون، صاروا يتعاملون مع «جولدمان ساكس» بوصفه أمرًا واقعًا لا فرار منه. ودول العالم وصناديقها الاستثمارية أصبح شرطًا لها الطواف حول مقر «جولدمان ساكس» من أجل الحصول على المصداقية في الأسواق العالمية.
إضافة إلى أن «جولدمان ساكس» يرعى عدة دراسات تُحذر من أن انهيار المؤسسة سوف يُدخل العالم في كسادٍ ضخم قد لا تتحمله الأسواق العالمية، ولا يريد أي رئيس أمريكي أو مسئول مالي عالمي أن يُقال في تاريخه أنّه جازف بالحد من تأثير «جولدمان ساكس»، فتسبب في انهيار اقتصاد بلده.