تتوجه الحكومات الديمقراطية عادًة إلى إصدار قوانين مكافحة الاحتكار على جميع مجالات القطاع الخاص، وعلى كل المستويات، والهدف الأساسي من قوانين الاحتكار هو تحقيق عنصر المنافسة العادلة في السوق، التي تدفع مقدمي الخدمات إلى تقديم أفضل الخدمات بالأسعار المناسبة، وهذا بكل تأكيد من أجل مصلحة المستخدم في الأول والأخير.

وتشترك قوانين الاحتكار المختلفة في تجريم ومنع بعض الممارسات التي تحقق الاحتكار؛ والتي من ضمنها: الاستحواذ على نسبة كبيرة من الشركات المنافسة، وتحجيم انتشار الشركات المنافسة، والتلاعب في الأسعار وتثبيتها لصالح الشركة الكبرى.

وفي إطار تلك الممارسات، على مر التاريخ عاقبت الحكومات الأمريكية العديد من الشركات لاتباع ممارسات الاحتكار، وفي الأسابيع القليلة الماضية أظهرت الإدارة الفيدرالية الحالية للحكومة الأمريكية خططتها لشن حملة كبرى للوقف في وجه الشركات العملاقة التي تحتكر بعض الخدمات، وعلى ما يبدو أن شركتي «جوجل» و«فيسبوك» سوف يكونان أول المتهمين.

الاحتكار.. «جوجل» التي تفرض منتجاتها على الآخرين

في مارس (أذار) عام 2019، أعلن الإتحاد الأوروبي عن معاقبة شركة المحرك البحثي الشهير «جوجل» وتغريمها حوالي 1.5 مليار يورو بسبب انتهاك قوانين الاتحاد الأوروبي للمنافسة والاحتكار بين الشركات التي تقدم خدمات للمواطن الأوروبي.

منذ منتصف الشهر الماضي أعلنت وزارة العدل بالإضافة إلى 11 ولاية أمريكية تضم بينهم ولاية تكساس إلى قضية اتهام شركة «جوجل» بالتعدي على قانون «مكافحة الاحتكار (Antitrust)» الأمريكي، وكل يوم تزيد عدد الولايات المنضمة للتحقيق ضد جوجل؛ وقد وصل عدد الولايات مساء أمس إلى 36 ولاية – بينها ولاية كاليفورنيا التي يقع على أرضها مقر «جوجل» الرئيس – تطالب بالتحقيق مع «جوجل» لتبنيها سياسات الاحتكار والأضرار بالمنافسين.

وخلال هذا التحقيق وجهت – حتى الآن – ثلاثة تهم رئيسة هي:

1- التهمة الأولى اتهام جوجل بإيذاء المنافسين عن طريق منح أولوية لمنتجاتها في الظهور في البحث عن المنتجات التي تقدمها الشركات الأخرى دون وجود آلية واضحة تحدد أي منتج يظهر للمستخدم أولًا. يذكر أن المحرك البحثي الخاص بـ«جوجل» يمثل حوالي 90% من عمليات البحث التي يقوم بها المستخدمون في العالم، ويمنح الشركة أرباحًا قيمتها حوالي 160 مليار دولار سنويًا.

2- التهمة الثانية، اتهام «جوجل» بفرض سيطرة منتجاتها على الأجهزة التي تعمل بنظام «أندرويد». ومن المعروف أن 85% من أجهزة الجوال تعتمد على نظام أندرويد، وذكر الإتحاد الأوروبي في قراره أن شركة «جوجل» تجبر القائمين على صناعة الأجهزة التي تعمل بنظام أندرويد على إدراج منتجاتها لا منتجات منافسيها ضمن التطبيقات الأساسية للبرنامج، والتي تتضمن: البريد الإلكتروني (Gmail)، وخرائط جوجل (Google Maps)، ومتجر التطبيقات (Google Play)، ومتصفح كروم (Chrome).

3- التهمة الثالثة، عرض بعض محتويات المواقع الخاصة على صفحة البحث الرئيسة. عندما يبحث أحد المستخدمين عن مصطلح بعينه أو إجابة سؤال بعينه؛ أول شيء يظهر له بعد أن يضغط على زر البحث هو الإجابة التي يبحث عنها، ثم أسفله يظهر المصدر، وهذا طبقًا لتقارير وزارة العدل الأمريكية يسرق المحتوى الأصلي، ويقلل من زيارات المستخدمين إلى الصفحات أو المواقع الرئيسة التي يقتبس منها جوجل، وبالتالي يقل العائد المادي للموقع.

 المدير التنفيذي لجوجل سوندار بيتشاي 

في يوم 20 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، نشرت جوجل ردًا رسميًا على موقع المدونات الخاص بالشركة، وكان الرد عبارة عن مقالة مطولة كتبها كينت ووكر، وهو مستشار أول للعلاقات الدولية في الشركة، ووصف ووكر الدعوى القضائية التي بادرت بها وزارة العدل بأنها «دعوى قضائية معيبة للغاية لن تفيد المستفيدين».

وخلال المقال فند ووكر ادعاء «جوجل» بإدراج منتجاتها بشكل أساسي وحصري على منتجات أندرويد؛ بأن ذلك يحدث مع منتجات شركة «آبل» التي تحصل على الأموال من محركي البحث «ياهو» و«بينج» لإدراجها بشكل أساسي على متصفح سفاري الذي تنتجه وتديره الشركة. بالإضافة إلى أن الأجهزة التي تعمل بنظام «ويندوز» تعتمد بشكل أساسي على محرك البحث «بينج». فضلًا على أنه حتى على متصفح «كروم» التابع لشركة «جوجل» يمكن للمستخدم أن يختار «بينج» أو «ياهو» ليكون متصفحه الأساسي، وليس «جوجل» بحسبه.

«فيسبوك» قد يتخلى عن «إنستجرام» و«واتس آب»

في الأسبوع الماضي رفعت الحكومة الفيدرالية والمدعون العامون من 46 ولاية واحدة من أكبر قضايا مكافحة الاحتكار في التاريخ الأمريكي، واتهموا «فيسبوك» بتطبيق سياسات الاحتكار عن طريق استخدام سلطته وأمواله لسحق المنافسة إلى حد كبير عن طريق شراء الشركات المنافسة التي تقدم خدمات تشابه الخدمات التي يقدمها موقع التواصل الاجتماعي الأشهر في العالم «فيسبوك».

تركز قضية مكافحة الاحتكار على عمليتين استحواذ كبيرتين على وجه الخصوص «إنستجرام (Instagram)»، الذي اشترته «فيسبوك» مقابل مليار دولار عام 2012، و«واتس آب (Whatsapp)» مقابل 19 مليار دولار عام 2014. ويجادل ممثلي الحكومة الأمريكية بأن استحواذ «فيسبوك» على الشركتين كان غير قانوني، وأنه يجب إجبار الشركة على التخلي عن «إنستجرام» و«واتس آب» من خلال طرحهما للبيع.

ردت شركة «فيسبوك» على القضية بأن عمليات شراء انتسجرام وواتس آب تمت تحت إشراف مفوضية المعاملات التجارية التابعة لوزارة العدل الأمريكية، وأن هذه القضية ترسل انطباعًا للشركات الكبرى بعدم الثقة في المعاملات مع وزارة العدل. وكما ترد أية شركة عملاقة متهمة بالاحتكار عادةً بررت «فيسبوك» انتشارها الطاغي بين المنافسين بأن المستخدمين يستخدمون منتجاتها مخيرين لا مجبرين؛ لأنهم يرون فيها الأفضل بين الخدمات الأخرى.

المطالبة بتفكيك الشركات المحتكرة ليس رغبة جديدة تسعى لها الحكومة الأمريكية؛ ففي منتصف شهر مايو (أيار) عام 1911 أصدرت المحكمة الدستورية العليا الأمريكية قرارها بتفكيك شركة «روكفلر (Rockefeller)». وهي شركة بترول وتعدين أمريكية شهيرة أسست مع نهاية القرن الثامن عشر.

ومع دخول القرن التاسع عشر استحوذت على 90% من الشركات الأمريكية المنتجة للبترول؛ ولكن بعد حملة شنتها الصحافة الأمريكية، قرر الرئيس الأمريكي آنذاك تيدي روزفلت إجراء تحقيق يتهم فيه شركة روكفلر بالتعدي على قانون مكافحة الاحتكار الصادر عام 1890، وبعد معركة استمرت خمس سنوات صدر الحكم لصالح الحكومة الأمريكية، وفُككت روكفلر إلى أكثر من 70 شركة صغيرة.

وفي عالم التكنولوجيا شركة «مايكروسوفت» التي كانت تتصدر على عرش عالم التكنولوجيا في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي؛ واجهت قضية شهيرة اتهمت فيها بممارسة الاحتكار عام 1990، من خلال عدم مشاركة منتجاتها مع الشركات الأخرى؛ فضلًا عن تهيئة نظام التشغيل (Windows) لعرقلة البرامج الأخرى المشابهة لبرامج «مايكروسوفت».

بعد ثماني سنوات من التحقيق أصدرت محكمة فيدرالية أمريكية قرارها باتهام شركة مايكروسوفت بممارسة الاحتكار، وطالبتها المحكمة بتقسيم الشركة إلى شركتين؛ الأولى تتعامل مع المنتجات الصلبة مثل أجهزة الحاسوب وملحقاتها، والشركة الثانية تدير منتجات أنظمة التشغيل الإلكترونية؛ على أن تدار كل شركة منهما بشكل منفصل. ولكن مايكروسوفت استأنفت على القرار، وبعد مفاوضات مع المحكمة ووزارة العدل الأمريكية، أدت إلى أن تشارك الشركة منتجاتها مع مقدمي الخدمات المشابه من الشركات الأخرى.

المصادر

تحميل المزيد