«الكثرة تغلب الشجاعة» نحفظ جميعًا هذا المثل السائر الذي تُعضِّده الوقائع اليومية، ولكون الدول والإمبراطوريات الكبرى شخصياتٍ اعتبارية فإنها يسري عليها في أحيانٍ كثيرة القواعد التي تسري على علاقات الأفراد، ومنها قاعدة غَلَبَة الكثرة. 

ففي الربع الأخير من القرن السابع عشر الميلادي، كانت الدولة العثمانية هي القوة السياسية والعسكرية الأولى في العالم، لكن كانت الكيانات المعادية لها، والمتحفَّزة لإلحاق الهزيمة بها، تحيطُ بأراضيها من كل جانب، فمن الشرق والشمال الشرقي، لاسيما في القوقاز، توجد روسيا القيصرية المتحفزة للتوغل جنوبًا للهيمنة على البحار الدافئة (البحر الأسود وبحر قزوين والبحر الأبيض المتوسط).

ومن الشمال حيث أراضي أوكرانيا الحالية، يوجد الكومنولث البولندي-الليتواني المعادي لها، ومن جهة الغرب توجد إمبراطورية النمسا الوازنة في وسط القارة الأوروبية، ومن الجنوب جمهورية البندقية، العملاق التجاري والبحري، وصاحبة النفوذ الكبير في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. وكان الأنكى على العثمانيين من تعدد الأعداء، هو تحالف تلك الأعداء، وتزامن ذلك مع تعاظم المشكلات الداخلية، وتفاقم أوجه القصور في المنظومة السياسية والعسكرية.

في كتابه «تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة» يذكر المؤرخ سهيل طقوش أن القرن السابع عشر الميلادي قد شهد فصولًا عديدة من تعاظم سطوة العسكر الإنكشاريين في الدولة العثمانية، وتمردهم على السلاطين العثمانيين ووزراء الدولة، مثلما حدث عام 1622 عندما قتلوا السلطان العثماني المناوئ لهم عثمان الثاني بعدما اتهمهم بإفساد حملة بولندا عام 1621، ثم قتل السلطان إبراهيم الأول عام 1648، وكذلك اغتيالهم للصدر الأعظم – بمثابة رئيس الوزراء – حافظ باشا عام 1632م.

كما تسبَّب ضعف انضباطهم العسكري وابتزازهم لقادتهم أثناء الحملات العسكرية العثمانية، في إضعاف المجهود العسكري للدولة، كما حدث في حملة بولندا المذكورة سابقًا، وقد خصَّص القش الفصل الثامن من كتابه لتعداد مظاهر الفساد والضعف التي أخذت تتصاعد في الدولة العثمانية منذ القرن السابع عشر الميلادي.

الطريق إلى الحرب التركية الكبرى

في عام 1656، بدأ طور جديد من الانتعاش العثماني، بتدشين عصر «آل كوبريللي» في منصب الصدارة العظمى، في عهد الخليفة الشاب محمد الرابع (1648- 1687)، ويذكر المؤرخ التركي يلماز أوزتونا في كتابه «تاريخ الدولة العثمانية» أن محمد باشا كوبريللي نجح بكثير من الصرامة والقسوة في فرض سيطرته بصفته صدرًا أعظم منذ عام 1656، ثم منذ عام 1658م بدأ بفاعلية في إعادة تنظيم الأمور السياسية والعسكرية في البلقان وشرقي أوروبا.

فاستجاب لاستنجاد ملك بولندا بالعثمانيين ضد أمير ترانسلفانيا (في رومانيا الحالية) وأخضع ترانسلفانيا، ثم انتزع إحدى القلاع الحصينة من النمسا، وفي عام 1658 قمع بقسوة تمرد العديد من قادة الدولة في حلب السورية ضده، وأعدم 31 منهم في يومٍ واحد.

لكن كان أبرز الانتصارات العسكرية في عهده هو نجاح جيش مشترك من العثمانيين وخانية القرم في إيقاع هزيمة ساحقة عام 1661 بجيش روسي كبير حاول التوغل في شمالي شرق أوكرانيا التي كان معظم أجزائها الجنوبية آنذاك خاضعةً للعثمانيين وحلفائهم خانات القرم.

وتوفي محمد باشا كوبريللي عام 1661، فخلفه في الصدارة العظمى ابنه أحمد باشا كوبريللي، والذي كان شابًا في السادسة والعشرين من عمره، لكنه كان واسع الدراسة والاطلاع والخبرة الميدانية، فنجح في إدارة الدولة داخليًّا وخارجيًّا بكفاءة.

ففي عام 1663 أعلن العثمانيون الحرب ضد النمسا لمخالفتها شروط السلام وشروعها في إنشاء حصونٍ على الحدود، ونجحت جيوش الدولة العثمانية في انتزاع قلعتيْ «نوهزل» و«سرينوار» شديدتيْ التحصين في وسط أوروبا، على مقربةٍ من العاصمة النمساوية فيينا، وفرض كوبريللي اتفاقية سلام مهينة على النمساويين تضمنت دفعهم جزية كبيرة واعترافهم بما استولى عليه العثمانيون.

وفي عام 1667، توجه كوبريللي في حملة كبرى لإتمام فتح جزيرة كريت الإستراتيجية في البحر المتوسط، فحاصر قلعتها الرئيسة «كانديه» لأكثر من عاميْن، واضطرَّ إلى شق مئات الأنفاق تحت الأرض بإزاء قلعتها الحصينة، وذلك لتحمي جيشه من الشتاء القارص، وصمدت القلعة لكثافة الإمدادات التي وصلتها من جمهورية البندقية، وفرنسا، والنمسا، ومئات المتطوعين الأوروبيين الذين رأوا فيها حربًا صليبية ضد العثمانيين المسلمين، واستسلمت القلعة أخيرًا عام 1669، وأحكم العثمانيون سيطرتهم عليها.

وبعدها اندلعت الحرب العثمانية البولندية عام 1672 لمدة أربعة أعوام، والتي نجح خلالها العثمانيون بصعوبة بالغة في الحفاظ على هيمنتهم على أجزاءٍ مؤثرة من أوكرانيا، لكن كان من أبرز نتائج تلك الحرب بزوغ نجم القائد العسكري، والملك البولندي منذ عام 1674، جون سوبيسكي الثالث، والذي سيلعب أدوارًا خطيرة في الحرب التركية الكبرى عام 1683- 1699، وسيُسجل في التاريخ الأوروبي بطلًا للمسيحية الكاثوليكية في مواجهة المد العثماني، وسيوصَف الكومنولث البولندي الليتواني الذي قاده سوبيسكي، بالجبهة الأمامية للمسيحية الأوروبية في مواجهة المسلمين.

وقد اعتلى جون سوبيسكي عرش بولندا عام 1673، وكان قائدًا عسكريًّا فذًّا، نجح في الانتصار على الجيش العثماني الذي كان من أقوى جيوش العالم آنذاك في عدة مواقع في الحروب العثمانية- البولندية، ونجح في تقليص التنازلات البولندية للعثمانيين عندما عقد معهم صلح «زوفرانو» عام 1676.

وفي السنوات التالية، أحكم سوبيسكي سيطرته على بولندا، وحاول تشكيل تحالف مسيحي أوروبي كبير مع كلٍّ من فرنسا والنمسا، لكن لم تنجح مساعيه في ذلك، نتيجة التباينات السياسية بين فرنسا وبولندا، لاسيَّما مع التقارب الفرنسي العثماني الذي عاد للانتعاش في تلك الفترة، ثم جاء حصار فيينا 1683 ليمنح الرجل فرصةً ليلعب أحد أهم أدوار البطولة في التاريخ العسكري الأوروبي في تلك الفترة.

حصار فيينا 1683.. الغرور والخيانة هزما العثمانيين

«كان التراجع العثماني في أوروبا تدريجيًّا ومتقطعًا، وبالقياس مع الأطر الزمنية للعصر الحديث، فقد ظلَّ محدودًا لفتراتٍ طويلة، إذ لم يسقط فعليًّا البناء الذي فعَّله السلاطين العثمانيين في القرنيْن الرابع والخامس عشر الميلاديين إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين»*جون تولان في كتابه: «Europe and the Islamic World: A History» 

كانت معركة فيينا عام 1683 بحق حدًّا فاصلًا بين عصريْن عثمانيين، فقد كانت إيذانًا بنهاية عصر القوة والتوسع العثماني في أوروبا، لتبدأ مرحلة طويلة من التراجع التدريجي، والانسحاب الإجباري من وسط ثم شرقي القارة الأوروبية.

فكان الصدام في فيينا بالأساس بين الإمبراطوريتيْن العثمانية والنمساوية، لكن رَمَت دول أوروبا الكاثوليكية بثقلها خلف الإمبراطورية النمساوية المهتزة آنذاك، لأنها كانت ترى النمسا سدًّا حيويًّا أمام المد العثماني في عمق القارة الأوروبية. 

وكان السبب المباشر لإعلان الدولة العثمانية الحرب على النمسا عام 1682، كما يذكر المؤرخ د.سهيل طقوش في كتابه «تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة» هو الصراع على أراضي المجر، والتي كانت مقسَّمة بين العثمانيين والنمساويين.

وأراد العثمانيون استغلال تنامي النزعات المجرية المحلية في الجزء الخاضع لسيطرة النمسا، وصولًا إلى اندلاع الثورة ضد النمساويين، فأعلن السلطان العثماني محمد الرابع الحربَ على النمسا، ونصَّب أحد الأعيان المجريين المحليين واسمه «توكلي» حاكمًا مواليًا له على المجر النمساوي بعد استكمال انتزاع البلاد.

فحشد العثمانيون أكثر من 200 ألف مقاتل لاجتياح فيينا بقيادة الصدر الأعظم قرة مصطفى باشا، وانضمَّ إليهم عشرات الآلاف من المقاتلين المجريين المواليين لهم، وكذلك فرسان تتار شبه جزيرة القرم، وزُوِّدَ الجيش بالمئات من المدافع الثقيلة للتغلب على تحصينات فيينا.

وفي المقابل انسحب ملك النمسا ليوبولد من فيينا، تاركًا حاميتها البالغ عددها أكثر من 50 ألفًا تحت قيادة أحد الأمراء لتحاول الدفاع عن العاصمة لأطول وقتٍ ممكن ريثما تصل الإمدادات الأوروبية، لاسيَّما مع دعوة بابا روما للنفير الصليبي إنقاذًا لفيينا، وكانت أسوار فيينا مزودة بالمئات من المدافع القادرة على جعل مهاجمة حصونها جحيمًا حقيقيًّا.

وفرض العثمانيون حصارًا مشددًا على فيينا ابتداءً من يوليو (تموز) 1683 (اختار العثمانيون الصيف حتى لا تعطلهم الأمطار والثلوج كما حدث في حصار فيينا الأول عام 1529م في عهد السلطان سليمان القانوني)، ورغم كثافة القصف المدفعي العثماني الذي ألحقَ أضرارًا جسيمة بتحصينات المدينة، وبنيتها التحتية، والكثير من أحيائها السكنية، فإن حامية المدينة صمدت، وألحقت خسائر معتبرة بالمُحاصِرين.

وطال الحصار لما يقارب شهرين، مما منح النمساويين وحلفاءهم الأوروبيين وقتًا ثمينًا لحشد ما استطاعوا من قوة لاستنقاذ فيينا، والتي أصبح سقوطها مسألة وقت تحت الضغط العثماني الكثيف إذا لم يُبادر الحلفاء الأوربيون بالتحرك الفعَّال.

وبالفعل في منتصف سبتمبر (أيلول)، فوجئ الجيش العثماني بانقضاض أكثر من 75 ألفًا من القوات الأوروبية المشتركة، بقيادة ملك بولندا جون سوبيسكي الثالث والذي أوفى بمعاهدته للدفاع المشترك مع النمسا التي وقعها في أبريل (نيسان) 1683م في مواجهة أي خطرٍ يستهدف عواصم الدولتيْن.

وأصبح الجيش العثماني مُحاصرًا بين قطبيْ الرحى، واختلف القادة العثمانيون حول الانسحاب أو مواصلة القتال، فأصر قرة مصطفى على القتال، فتعرض الجيش العثماني الذي أنهكه الحصار لهزيمة موجعة، وفقد الآلاف من جنوده، وانسحب الباقون لتقليل الخسائر، تاركين وراءهم أموالًا طائلة، وأكثر من 300 مدفع عثماني، غنيمةً للمنتصرين.

وينقل البروفسور التركي آق قندوز في كتابه «الدولة العثمانية المجهولة» عن المؤرخ العثماني سلحدار محمد باشا الذي كان معاصرًا لحصار فيينا بعض الأسباب التي قد تفسر تلك الهزيمة المدوية للعثمانيين رغم تفوقهم العسكري كمًّا وكيفًا، ومن أبرزها الثقة المفرطة للقادة العثمانيين في الزخم العددي، على حساب الخطط والتنظيم، والفساد المالي والإداري والأخلاقي الذي كان يعصف بالجيش العثماني لاسيَّما القوات الإنكشارية.

وكان هناك أيضًا الخلاف مع حاكم القرم والذي كان يساهم بدورٍ محوري في المجهود الحربي عبر الآلاف من فرسانه المدربين، والذي كان يرى أن حصار فيينا سيحشد أوروبا بالكامل ضد العثمانيين، ولعل هذا الموقف يفسر ما ذُكِر عن تراخى – أو خيانة – قوات القرم في مواجهة قوات سوبيسكي، مما جعل هزيمة الدولة العثمانية حتمية.

ويركز المؤرخ التركي يلماز أوزتونا في كتابه «تاريخ الدولة العثمانية» على خيانة خان القرم، مراد كيراي، فقد كان مكلفًا مع قواته بحراسة جسر نهر الدانوب القريب من فيينا، لكنه تراسل سرًّا مع سوبيسكي، وزيَّن له عبور الجسر لمباغتة العثمانيين، كاشفًا عن نيته ترك القوات الأوروبية المشتركة تعبر عليه دون قتال.

كان دافع تلك الخيانة هو نقمة الخان على قرة مصطفى باشا قائد الجيش العثماني، الذي كان يتعالى عليه، كما كان يعتقد، ولم يكن يستمع إلى نصائحه، كذلك انشغل خان القرم بتأمين الغنائم الوفيرة التي حازها جنودُه في تلك الغزوة، عن القيام بدورهم الأساسي في الخطة العسكرية بمنع عبور القوات المعادية للجسر، وعزل قرة مصطفى باشا خان القرم مراد عقابًا له، وحلَّ محله سليمان كيراي.

ما بعد فيينا.. تحالف العصبة المقدسة وانتصاراته 1684-1687

أرادت القوات الأوروبية استغلال الهزة العثمانية بعد الانسحاب من أمام فيينا لانتزاع أكبر قدرٍ ممكن من المكاسب من العثمانيين، فأراد سوبيسكي ألا يتوقَّف حتى ينتزع أراضي مولودفيا ورومانيا الخاضعة للعثمانيين، وإلحاقها بمملكة بولندا، وهنا وقعت الخلافات مع حلفائه الآخرين لاسيَّما النمساويين، الذي كانوا يريدون إعطاء الأولوية لانتزاع كامل المجر من العثمانيين لتكون حاجزًا كبيرًا بينهم وبين فيينا.

ولم تمنع تلك الخلافات القوات الأوروبية من انتزاع أجزاءٍ مهمة من المجر العثمانية أواخر عام 1683، وتمركز قرة مصطفى باشا بقوة كبيرة من الجيش في بلجراد – عاصمة صربيا الحالية – لإعادة تنظيم أوضاع قواته، والاستعداد لمواجهة فاصلة جديدة مع القوات الأوروبية المتوغِّلة.

وفي ديسمبر (كانون الأول) 1683 وقعت فاجعة مؤثرة في التاريخ العثماني، هي إعدام قرة مصطفى باشا بأمر السلطان محمد الرابع، ويروي أوزتونا في كتابه «تاريخ الدولة العثمانية» كيف سعى خصوم قرة مصطفى السياسيون والعسكريون في الأسابيع التالية لهزيمة فيينا في تأليب السلطان ضده، معلقين مسؤوليتها عليه حصريًّا، وكان من أبرز المحرِّضين ضده، أخت السلطان التي قتل قره مصطفى زوجَها إبراهيم لانسحابه أثناء القتال خارج فيينا.

وفي نهاية المطاف أذعن محمد الرابع للضغوط، وأصدر قراره بعزل قرة مصطفى ثم قتله، واستسلم الأخير للقرار، حتى إنه سلَّم نفسه للجلاد ليقطع رأسه، ولم يتول بعده المنصب في السنوات التالية من يوازيه كفاءة على كافة المستويات، لتبدأ السنوات الصعبة إلى آخر القرن السابع عشر والتي يسميها أوزتونا «سنوات المصيبة».

ومنذ عام 1684، وبعد مرور عام على انتزاع فيينا في اللحظات الأخيرة من بين أيدي العثمانيين، بدأت ملامح ظهور تحالف العصبة المقدسة ضد العثمانيين في الظهور، فبإيعازٍ من بابا روما، أعلنت جمهورية البندقية الإيطالية الحرب ضد العثمانيين إلى جانب بولندا والنمسا، طمعًا في استرداد ما انتزعه العثمانيون منها في البلقان واليونان وكريت.

وكذلك انضم لعداء العثمانيين دوقية توسكاني الإيطالية، وإسبانيا، ودويلة فرسان مالطة، أما فرنسا ذات العلاقات الوثيقة مع العثمانيين، فقد اضطرت بضغط البابا لتأجيل هجومها على الأقاليم الغربية المتنازع عليها مع النمسا لبضع سنوات. 

وهاجم الجيش النمساوي وحلفاؤه مدينة بودابست (عاصمة المجر الحالية وكان اسمها بودين) الحصينة لانتزاعها من العثمانيين، لكن الحصار استمرَّ لبضعة أشهر دون جدوى نتيجة استبسال الحامية العثمانية رغم الخسائر الكبيرة، لكن في البلقان نجحت البندقية في احتلال العديد من المناطق.

وفي كتابه «تاريخ الدولة العثمانية» يُفصِّل يلماز أوزتونا الحديث عن المعارك الضارية التي خاضتها الجيوش العثمانية ضد جيوش تحالف العصبة المقدسة لاسيَّما في المجر والبلقان وجنوبي أوكرانيا، وكان من أبرزها معركة حصار  قلعة «أويفار» المجرية قرب بودابست، والتي استسلمت للنسماويين بعد معارك ضارية لقرابة الشهرين في أغسطس (آب) 1685م، وفي أكتوبر (تشرين الأول) 1685، عبر سوبيسكي نهر «دينستر» بين أوكرانيا ومولدوفيا للتوغل في شمال البلقان، لكن نجح خان القرم الجديد في إلحاق هزيمة ساحقة به في معركة «بويان». 

ولم يمنع هذا الانتصار من عودة الأوضاع للتدهور في الجبهة الرئيسة في المجر، نتيجة عدم الاستقرار السياسي، وتغيير الصدر الأعظم قرة إبراهيم أواخر عام 1685، ليحل محله صاري إبراهيم باشا قليل الخبرة في الشؤون العسكرية.

بينما نجح القائد العسكري الخبير «موروسيني» في انتزاع إقليم المورة اليوناني من العثمانيين لصالح البندقية، بعد أكثر من قرنيْن لفتحها على يد السلطان الشهير محمد الفاتح، وارتكب المنتصرون مذابح مروعة بحق السكان المسلمين في تلك المناطق.

تاريخ

منذ 3 سنوات
أطول حروب محمد الفاتح.. قصة الحرب التي دامت 16 عامًا مع البندقية

وفي سبتمبر (أيلول) 1686، نجح جيشٌ كبير بقيادة النمسا في ضم قواتٍ وأمراء من كافة البلدان الأوروبية تقريبًا حتى إنجلترا وفرنسا، في انتزاع بودابست من العثمانيين معوضًا فشل عام 1685، بعد حصارٍ شديد استمر ما يقارب 80 يومًا، صمدت فيه حامية المدينة صمودًا هائلًا حتى أفشلت أكثر من 18 هجومًا على الأسوار، وقتلت الآلاف من المهاجمين.

وقد لعبت الصدفة دورًا بارزًا في تسريع حسم المعركة، إذ أصابت إحدى القذائف مخزنًا كبيرًا للقذائف في ميناء المدينة النهري، فحدث انفجارٌ هائل أطاح بأكثر من أربعة آلاف مقاتل عثماني من حامية المدينة، وأحدث ثقبًا كبيرًا في سور المدينة.

وقتل الصليبيون عشراتِ الآلاف من المدنيين العثمانيين في بودابست لتطهير المدينة سكانيًا، وأحرقوا الكثير من المساجد والمكتبات، وإن نجح بعض العقلاء من قادتهم في استنقاذ الكثير من الكتب والمخطوطات قبل تلفها. 

وعلى مدار عام 1687، فقد العثمانيون المزيد من المدن والحصون في المجر، وفي البلقان، فقد سقطت مدينة إيجر المهمة شمالي المجر في قبضة النمساويين بعد دفاعٍ قوي من حاميتها العثمانية، التي آثرت الاستسلام لإنقاذ عشرات الآلاف من المسلمين من سكانها، واكتفى المنتصرون بتدمير مساجد المدينة، وإتلاف كافة معالمها العثمانية والإسلامية.

أما في الجنوب فقد اقتحمت قوات البندقية في سبتمبر (أيلول) من السنة نفسها مدينة أثينا، وارتكبت مذابح كبيرة ضد سكانها الذين كانوا في الغالبية من المسيحيين الأرثوذوكس المخالفين في المذهب، ودمرت العديد من معالم المدينة.

لكن على جانبٍ آخر تمكَّن تتار القرم من هزيمة ملك بولندا مرة أخرى في موقعة «كامانيجا»، ثم هزموا جيش روسيا القيصرية في معركة خاطفة قرب كييف  (عاصمة أوكرانيا الحالية) التي انضمَّت للتحالف الكاثوليكي ضد العثمانيين رغم تباين المذاهب والمصالح.

اضطرابات 1687- 1689 وعزل السلطان

أحدث سقوط بودابست هزَّة كبيرة في أرجاء الدولة العثمانية، وتنامى السخط الشعبي ضد القيادة، وصولًا إلى اندلاع بعض المظاهرات والاحتجاجات في إسطنبول، وفي كتابه «الدولة العثمانية المجهولة» يذكر المؤرخ آق كوندوز أن الاضطرابات الداخلية قد تفاقمت مع إعلان وحداتٍ من الجيش والإنكشارية التمرد اعتراضًا على ضعف القيادة.

ولم يهدأ المتمردون بعزل الصدر الأعظم صاري سليمان باشا، وأصروا على عزل السلطان العثماني محمد الرابع نفسه بعد 40 عامًا من الحكم، وحدث هذا في نوفمبر (تشرين الثاني) 1687، واكتفى المتمردون بخلع السلطان دون قتله، وحلَّ محله أخوه سليمان الثالث، والذي لم يكن ذا كفاءة كبيرة، فزادت الاضطرابات، وخرج الجيش عن السيطرة، وعجز الصدر الأعظم سياوش باشا عن السيطرة، وقُتل عام 1688.

ولم يستمر خليفة سياوش في المنصب لأكثر من شهرين، وبالتزامن مع تلك الاضطرابات الداخلية، استمر الجيش النمساوي وحلفاؤه في الزحف جنوبًا، فاستولوا على بلجراد بعد حصارٍ شديد عام 1688، وكالعادة قتلوا الآلاف من سكانها المسلمين الذين لم ينجحوا في الفرار، ودُمِّرت معظم المساجد والآثار الإسلامية فيها. 

وأراد السلطان العثماني الجديد سليمان الثالث الخروج في حملة عسكرية كبرى لاستعادة بلجراد، لكنه ما إن وصل إلى صوفيا (عاصمة بلغاريا الحالية) حتى اشتدَّ عليه المرض، وخشي قادة الجيش على حياته، لاسيما مع التقدم الكبير للنمساويين في صربيا، واقترابهم من بلغاريا.

وفي أواخر 1689 اتخذ السلطان سليمان الثالث بعد مشاورة كبار قادة الدولة قرارًا مهمًّا بإيكال الصدارة العظمى إلى فاضل مصطفى كوبريللي باشا، أحد أفراد أسرة كوبريللي الشهيرة، وذلك لضبط الأوضاع، والسيطرة على الفوضى في الجيش، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه عسكريًّا، وقَبِل فاضل مصطفى المنصب بشرط إعطائه الصلاحيات المطلقة نفسها التي حصل عليها محمد باشا كوبريللي قبل عقود، فتمَّ له ذلك. 

صحوة مؤقتة.. فاضل مصطفى كوبريللي باشا  

يروى يلماز أوزتونا في كتابه «تاريخ الدولة العثمانية» كيف قبض بقوة وحزم على الجيش والإنكشارية، مع تجنب الإجراءات الدموية قدر المستطاع تفاديًا لإشعال التمردات، وأجرى إصلاحاتٍ مالية وإدارية عاجلة، وأسقط الضرائب الباهظة عن المواطنين، فتفاءلوا بحكمه، وأخذت الأوضاع الداخلية في الاستقرار، وأصبح خلال أشهرٍ قليلة قادرًا على إدارة عمليات عسكرية مضادة فعَّالة.

ونجح الجيش العثماني بالتعاون مع قوات تتار القرم في إلحاق هزيمة ساحقة بالجيش النمساوي المتوغل في كوسوفو عام 1690، ثم قاد فاضل مصطفى حملةً عسكرية كبيرة استعاد خلالها أجزاء كبيرة من البلقان والمجر سقطت خلال الشهور القليلة الماضية مثل نيش وفيدين ثم بلجراد، التي استولى على قلعتها (التي أعاد النمساويون تحصينها) بعد قصفٍ متواصل على مدار أسبوع، وبذلك اكتمل إعادة تحرير صربيا، وقام فاضل مصطفى بإجراءاتٍ عديدة لكسب ود السكان الصرب المحليين حتى لا يتمردوا ضد الدولة العثمانية في هذه الظروف الحرجة.

ولم تعطِّل وفاة السلطان المريض عام 1691 خطط فاضل مصطفى باشا العسكرية، فقد فرض بنفوذه تعيين أحمد الثاني في السلطنة، الأخ الشقيق لمحمد الرابع المعزول، وغير الشقيق للراحل سليمان الثالث، ثم خرج بجيشٍ هائل لاسترداد المجر من النمسا، واصطدم في معركة كبرى في أغسطس بالنمساويين وحلفائهم في منطقة سالانكامن شمالي غرب صربيا، وكاد أن ينتصر فيها العثمانيون بعد أن ألحقوا خسائر كبرى بالنمساويين، لولا رصاصة طائشة أصابت الصدر الأعظم فاضل مصطفى باشا، استشهد إثرها بعد أيام، وانسحب العثمانيون إلى داخل صربيا.

ولم يعوض أحد ممن تبادلوا منصب الصدارة العظمى فقدان فاضل مصطفى باشا، واستمرَّت الحرب سجالًا بين العثمانيين والعصبة المقدسة، فنجح العثمانيون في الدفاع عن بلجراد عام 1693، وتوغلوا مع حلفائهم تتار القرم في إقليم ترانسلفانيا (غربي رومانيا حاليًّا)، لكنهم في الجنوب فقدوا جزيرة «ساقيز» (خيوس)  الإستراتيجية في بحر إيجة عام 1695، إذ استولى عليها البنادقة وحلفاؤهم.

وتوفي السلطان أحمد الثاني عام 1695، وخلفه ابن أخيه مصطفى الثاني بن محمد الرابع، والذي كان شابًّا قويًّا عمره 31 عامًا، افتتح عهده بشن حملاتٍ بحرية قوية ضد البنادقة، واستعادة جزيرة «ساقيز» المهمة بعد أشهر قليلة من احتلالها.

وقاد السلطان مصطفى الثاني جيشًا عثمانيًّا كبيرًا عام 1695 لمحاربة النمسا، ونجح في الاستيلاء على بعض المواقع شرقي المجر، لكنه عاد إلى إسنطبول أواخر 1695 دون تحقيق انتصار إستراتيجي حاسم ضد النمساويين، ولعل من دوافع هذا الانسحاب وصول الأنباء بشن الروس حملة عسكرية هائلة بقيادة القيصر بطرس الأكبر ضد شرقي أوكرانيا، باتجاه سواحل بحر آزوف شمالي شرق البحر الأسود.

حملة آزوف الروسية 1695-1696

شنَّ بطرس الأكبر هجومًا شاملًا على قلعة آزوف الحصينة عام 1695 بجيشٍ ضخم قدرته بعض المصادر بـ300 ألف مقاتل، وصمدت الحامية العثمانية بشراسة لأكثر من ثلاثة أشهر رغم الهجمات الروسية الكثيفة، ونجحت في قتل عشرات الآلاف من الروس، واضطر بطرس الأكبر للانسحاب لتحجيم الخسائر وليستعد بشكلٍ أفضل لإعادة الكرَّة.

 

وطلب بطرس المساعدة الخارجية للتغلب على تحصينات آزوف، فاستعان بخبراءٍ في الأنفاق من الدانمارك والسويد والبندقية وهولندا وغيرها، وهاجم آزوف بضراوة في صيف 1696 وكان تحت قيادته 100 ألف مقاتل، ولم يكن العثمانيون قد أصلحوا القلعة بفاعلية أو زودوها بحامية قوية بعد حرب العام الماضي، فسقطت القلعة الحصينة بعد أقل من شهرين من الحصار.

ووصلت روسيا لأول مرة في تاريخها إلى هدفها الإستراتيجي الذي سعت نحوه منذ قرون: المياه الدافئة، القادرة على قلب المعادلات السياسية والإستراتيجية والعسكرية والاقتصادية في تلك الإمبراطورية هائلة المساحة التي كانت الجغرافيا والثلوج تعزلها عن الأدوار الفَّعالة على المسرح العالمي.

موقعة زينتا الفاصلة 1697.. النمسا تفرض كلمتها

بعد خسارة آزوف الإستراتيجية للروس في العام السابق، خرج السلطان العثماني مصطفى الثاني على رأس حملة عسكرية كبيرة لمواجهة النمسا واستعادة زمام المبادرة في منطقة البلقان، لكن في يوم 11 سبتمبر (أيلول) 1697م، باغت الجيش النمساوي نظيره العثماني أثناء عبوره نهر «تيزا» في صربيا الحالية، قرب بلدة «زينتا».

فاضطربت القوات العثمانية، وقُتل الصدر الأعظم في ساحة المعركة، وفرَّ الكثير من القوات الإنكشارية، وفقد العثمانيون العشرات من المدافع، ونهب النمساويون الأموال التي كانت بحوزة السلطان المنهزم، والذي نجا بأعجوبة من أرض المعركة.

معاهدة كارلوفيتز 1699

مثَّلت تلك المعاهدة فاصلًا حادًّا بينَ زمنيْن، ولا مبالغة في عدها تجسيدًا على أرض الواقع لبداية انكسار المد العثماني في أوروبا والذي بدأ قبل أكثر من ثلاثة قرون، فقد كانت المرة الأولى في التاريخ التي تقر فيها الدولة العثمانية بهزيمتها في معاهدة مكتوبة، وبالطبع لن تكون الأخيرة، وتُجبَر من جرَّاء هذا على التنازل عن شطرٍ بارز من الأراضي الأوروبية التي خضعت لسلطانها لعقودٍ طويلة.

وعُقدت المعاهدة في يوم 26 يناير (كانون الثاني) 1699، بين الدولة العثمانية الجريحة في جانب، وتحالف العصبة المقدسة في الجانب الآخر، بعد أكثر من 80 يومًا من المفاوضات العسيرة التي شهدتها قرية «كارلوفيتز» (التي تحمل المعاهدة اسمَها) الواقعة على مقربةٍ من مدينة بلجراد، عاصمة صربيا الحالية.

وبموجب المعاهدة، تنازلت الدولة العثمانية للنمسا عن معظم أراضي المجر، وأجزاء مهمة من أراضي دولتيْ كرواتيا وسلوفينيا الحاليتيْن، ومن إقليم ترانسلفانيا في رومانيا، وبناء على تلك المكاسب الضخمة، تحوَّلت النمسا إلى قوة إقليمية أوروبية وازنة في وسط وشرقي أوروبا، وحاجز أكثر فاعلية واستدامة في وجه أية فوراتٍ عثمانية قد تحدث لاحقًا.

أما جمهورية البندقية، فقد انتزعتْ من العثمانيين شبه جزيرة «بيلبونيز» على البحر المتوسط في اليونان، وإقليم «دلماتيا» المطل على شمال البحر الأدرياتيكي (ضمن دولة كرواتيا الحالية)، بينما اكتفت بولندا بالحصول أجزاء واسعة من أوكرانيا الحالية، غربيْ نهر الدنيبر، مقابل إرجاع ما استولتْ عليه من مولدافيا في أقصى شمالي شرق البلقان إلى العثمانيين. 

زوفيما يخص الإمبراطورية الروسية، فقد عقدت في العام التالي (1700م) معاهدة القسطنطينية، والتي تنازلت بموجبها الدولة العثمانية عن منطقة آزوف الإستراتيجية (في أوكرانيا الحالية، والتي انتزعها فلاديمير بوتين الرئيس الروسي الحالي عسكريًّا في حرب 2022) شمالي شرق البحر الأسود، وهكذا انطوتْ صفحة ما عُرف بالحرب التركية الكبرى، والتي كانت بداية عدٍّ تنازلي طويل لسقوط الدولة العثمانية، سيستمر أكثر من مائتيْ عام.

المصادر

تحميل المزيد