العداء التركي اليوناني له تاريخ طويل، وتعد حرب اليونان وتركيا قبل نحو 100 عام إحدى أبرز محطاته، إذ تأسست على إثرها الجمهورية التركية الحديثة.
لم يكن الخامس عشر من مايو (أيار) عام 1919 يومًا عاديًا في حياة سكان مدينة إزمير التركية، بل كان يومًا تحوّل معه اسم مدينتهم إلى «سميرنا»، وغطتها الأعلام الزرقاء والبيضاء، بعد أن رفرفت الأعلام الحمر ذات الهلال في سمائها على مدى قرون.
في ذلك اليوم، وبمباركة إنجليزية وفرنسية، نزلت فرق من الجيش اليوناني قدّرت بـ20 ألف جندي أرض إزمير، وغطّت السفن الحربية الأفق على طول ساحل بحر إيجة؛ معلنة خضوع المدينة للحكم اليوناني، بعد أن حكمها العثمانيون لأكثر من خمسة قرون.
فها هي اليونان التي كانت قبل أقل من 90 عامًا تخوض المعارك الضارية لنيل استقلالها عن الدولة العثمانية التي حكمتها لأكثر من أربعة قرون، تعود لتسترجع «اليونان الكبير» الذي يشمل جميع الأراضي اليونانية داخل الإمبراطورية البيزنطية، والأراضي التي يسكنها اليونانيون في آسيا الصغرى وما جاورها تطبيقًا لفكرة ميجالي (الفكرة العظيمة).
جسد عثماني منهك وعنفوان يوناني متّقد
جرت أحداث حرب اليونان وتركيا، التي عرفت باسم «حرب الاستقلال»، على خلفية الحرب العالمية الأولى، وضعف الدولة العثمانية وتقسيمها نتيجة للحرب؛ إذ وقعت البلاد اتفاقية هدنة مودروس عام 1918، التي أوقفت القتال في الشرق الأوسط بين الدولة العثمانية والحلفاء في الحرب العالمية الأولى، وضمنت سيطرة الحلفاء على مضيق البسفور والدردنيل، وأعطت الحق باحتلال أي إقليم عثماني في حال وجود تهديد أمني لتلك القوى.
شملت الاتفاقية أيضًَا خروج القوات العثمانية من الأقاليم التي حكمتها خارج الأناضول، بما فيها الحجاز، واليمن، والعراق، وسوريا، وبلاد ما بين النهرين وطرابلس وبرقة، بل ووضع الاتفاق أيضًا الموانئ التركية والسكك الحديدية تحت تصرف الحلفاء.
على الجانب الآخر دخل اليونانيون الحرب العالمية الأولى إلى جانب الحلفاء على وعد بمكاسب كبيرة من الدولة العثمانية، لا سيما الأراضي التي يقطنها يونانيون، أو تلك التي تراها اليونان حقًا تاريخيًا لها، مثل مدينة القسطنطينية (إسطنبول) وإزمير.
وجد رئيس الوزراء اليوناني إلفثيريوس فينيزيلوس، المتحمس لفكرة ميجالي، الفرصة مواتية بعد توقيع هدنة مودروس، فأمضى الأشهر التالية لهذه الهدنة بين لندن وباريس عارضًا مطالب اليونان باستعادة أراضيها وحقها في حماية شعبها الذي ادعت أنه يمثل أغلبية السكان في بعض المناطق العثمانية.
قدم فينيزيلوس مذكرة في مؤتمر باريس للسلام عام 1919 طالب فيها بحق اليونان في غرب آسيا الصغرى، ومدينة تراقيا، والقسطنطينية، قال فيها: «الحل الطبيعي هو إحالة حكم القسطنطينية وولايتها إلى اليونان مع وضع ضمانات دولية لحرية المضائق البحرية».
في الخلفية كانت هناك اتفاقات سرية تجري بين الحلفاء فرنسا وبريطانيا وإيطاليا لتقسيم الدولة العثمانية، ووقعت هذه الأطراف اتفاقية سانت جان دي مورين عام 1917 التي ضمنت مصالح إيطاليا في الشرق الأوسط، ورسّمت حدود المصالح المتضاربة بين فرنسا وإيطاليا جنوب غرب الأناضول في حال تقسيم الدولة العثمانية.
وعلى ضوء ذلك، هبطت القوات الإيطالية أرض أنطاليا، وكانت تنتظر السماح لها بدخول إزمير (سميرنا)، لكن بريطانيا وفرنسا قررتا استخدام الجيش اليوناني لإيقاف أطماع إيطاليا، فقدم رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج الدعم الكامل لليونان، وأوصى بالسماح لفنيزيلوس بدخول سميرنا – وهي ميناء في الأناضول يسمح بوصول الحلفاء لاحتياطات النفط في الشرق الأوسط – و«حماية مواطنيه» هناك.
وهذا ما كان، إذ دخلت القوات اليونانية أرض إزمير تحت حماية أسطول الحلفاء الذي كان يضم سفنًا حربية أمريكية، وفي المقابل جاء الأمر للقوات التركية بعدم التدخل أو مقاومة الجيش اليوناني.
Embed from Getty Images
مدينة سميرنا (إزمير حاليًّا) بعد حرب اليونان وتركيا.
بقيادة أتاتورك.. إعلان المقاومة التركية ضد الاحتلال اليوناني
«مثلما بدأ المناضل مصطفى كمال نضاله في 19 مايو مؤمنًا بالحق والشعب فقط دون أن يلتفت لأولئك الذين خضعوا للاحتلال وكانوا يرون الخلاص في الانتداب، فإننا نسير على خطاه اليوم»؛ كانت هذه كلمات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 19 مايو 2019 إذ تحتفل تركيا بهذا التاريخ كل عام إحياء لذكرى أتاتورك وحرب الاستقلال التركية.
كانت الحكومة التركية قد أرسلت، بضغط من الحلفاء، مصطفى كمال أتاتورك قائدًا للجيش الثالث في أرضروم وسيواس لحفظ الأمن، وهناك أعلن أتاتورك أنه لا يقبل بهزيمة تركيا، وأعلن رفضه الاستسلام للاحتلال اليوناني في إزمير وبدأ بتنظيم المظاهرات احتجاجًا على الاحتلال وتوحيد القوى المناهضة له.
وبدأ منذ ذلك الحين سلسلة من الاجتماعات التي كان تهدف لتحديد الإمكانات العسكرية والاقتصادية ودراسة الأوضاع السياسية في البلاد. أفضت هذه الاجتماعات إلى إصدار بيان أرضروم الذي أكد فيه مصطفى كمال ورفاقه على حق تقرير المصير والحفاظ على الحدود التركية وحماية الخلافة والسلطنة.
اتخذ أتاتورك من أنقرة مقرًا له وأعلن أن حكومة أنقرة هي الحكومة الشرعية ووضع الأسس اللازمة لإقامة حكومة وبرلمان جديدين مفتتحًا فصلًا جديدًا في التاريخ التركي الحديث. ووجدت الحركة الوطنية التركية في أتاتورك قائدًا لها وانطلقت في مقاومة الاحتلال اليوناني ووصاية الحلفاء على إسطنبول والبلاد ككل.
معاهدة سيفر التي مزقت جسد الدولة العثمانية
تثبيتًا لأركان حكمها في إزمير، شنت القوات اليونانية سلسلة من الهجمات في صيف 1920؛ شملت عددًا من الأهداف الإستراتيجية لتأمين عمق الاحتلال في مدن شمال غرب الأناضول. ثم مُنحت القوات اليونانية مزيدًا من الدعم بإعطائها الولاية القضائية على إزمير لمدة خمس سنوات، بموجب معاهدة سيفر الموقعة بين الحلفاء وتركيا عام 1920، والتي اتُفق فيها على تدويل إسطنبول ومضيق البسفور، ومُنحت اليونان جزءًا من أراضي الأناضول، فاستحوذ فينيزيلوس رسميًا على جزر بحر إيجة، وتراقيا الشرقية، وإزمير ومناطقها المحيطة.
كانت هذه الاتفاقية بمثابة إعلان رسمي ينعي تمزق جسد الدولة العثمانية، وبدا أن اليونانيون يحكمون السيطرة على البلاد، ولم تكن هناك انتصارات تذكر للحركة الوطنية التركية بقيادة أتاتورك على الرغم من رفضه التام لهذه الاتفاقية، وإعلانه سحب الجنسية من جميع الموقعين عليها.
ثم بحلول شتاء ذلك العام، بدأ أتاتورك ورفاقه في إعادة تنظيم قواته وبنائها، بينما سعى حثيثًا لكسب الاعتراف الدولي بحكومته الوليدة. ما لبثت أن آتت هذه المساعي أكلها، وساهمت تغيرات قدرية في تغيير مجريات الحرب في الطرف اليوناني، إضافة إلى دخول لاعب جديد إلى ساحة الصراع الأمر الذي رجّح الكفة قليلًا لصالح القوات المقاومة التركية.
Embed from Getty Images
مراسم توقيع معاهدة سيفر.
رحيل فينيزيلوس وظهور الاتحاد السوفيتي.. هكذا انقلبت حرب اليونان وتركيا
في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1920، حدث ما لم يكن في الحسبان؛ إذ قضى الملك ألكسندر الأول نحبه إثر عضة من قرد في الحدائق الملكية، تسببت بإنتان في الدم، وبذلك فقد فينيزيلوس الداعم الأكبر لسياساته التوسعية، ووجد الحلفاء في الوقت نفسه فرصة للتنصل من الوعود التي قطعوها لليونانيين فأوقفوا الدعم الذي كانوا يوصلونه لليونان.
ومع عدم تسمية ولي للعهد في البلاد، ارتكب فينيزيلوس أكبر خطأ تاريخي في حياته، كما يصفه المؤرخون؛ إذ أعلن عن نهاية النظام الملكي وبداية عهد الجمهورية اليونانية ودعا لانتخابات في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه.
اختار الشعب اليوناني المنهك من الحروب وديكتاتورية الحكومة أن ينحي رجل الحرب (فينيزيلوس) الذي فاز بـ118 مقعدًا فقط من أصل 369، وأجبرته هذه الهزيمة الساحقة على مغادرة البلاد. ثم تولت حكومة ديميتريوس جوناريس زمام الحكم وتخلصت من كل مؤيدي رئيس الوزراء السابق واستبدلت جنودًا مخضرمين بآخرين لا يملكون خبرة كافية في الحروب، فتغيرت سياسات الدولة ككل تجاه الحرب.
من ناحية أخرى، كانت جهود أتاتورك في تقوية جنوده والتحالف مع قوى أخرى لدعمه وإمداده بالمعدات العسكرية تجري على قدم وساق. فأرسل رسالة إلى لينين يطلب فيها دعم حكومته وتوقيع اتفاقية صداقة بينهما، وهو ما كان حين وقعت الاتفاقية عام 1921 بعد سلسلة زيارات للاتحاد السوفيتي، فغير هذا الأمر ميزان القوى وعزز مكانة أنقرة في الحرب.
وعلى إثر التعاون الوثيق بين أنقرة والبلاشفة، نجح نائب أتاتورك، عصمت إينونو، في هزيمة اليونان في معركتين في يناير (كانون الأول) وأبريل (نيسان) 1921 عرفتا باسم إينونو الأولى والثانية، كما يروي نضال داوود المومني في كتابه الشريف الحسين الرضي والخلافة. وكان لهذه الانتصارات وقع كبير على اليونانيين وقوات التحالف إذ دعت بريطانيا إلى مؤتمر لندن في فبراير (شباط) من العام نفسه وأعلنت انتهاء العمل بمعاهدة سيفر.
Embed from Getty Images
الأتراك يحتفلون بانتصارهم على اليونانيين في مدينة إزمير.
معركة سقاريا.. 21 يومًا أحيت الآمال بالاستقلال
بعد التعزيزات العسكرية التي وصلت للجبهة الوطنية التركية بقيادة مصطفى كمال، والأمل الذي أحيته الانتصارات الصغيرة في معارك إينونو، قاد أتاتورك بنفسه معركة سقاريا، التي استمرت لمدة 21 يومًا لم يستطع خلالها الجيش اليوناني عبور سلسلة المرتفعات التي ستوصلهم إلى أنقرة.
كانت المعركة عصيبة على الطرفين؛ على الأتراك بسبب التفوق العددي لليونانيين، وعلى اليونانيين بسبب خطوط الإمداد التي أصبحت أطول بعد أن توغلوا إلى الداخل، وبالتالي نفدت الذخيرة، وهو ما أجبرهم على الانسحاب وتسجيل نصر حاسم للأتراك. عاد كمال إلى أنقرة منتصرًا ومنحه المجلس الوطني رتبة مشير ولقب «غازي».
ثم جاءت الحملة الأخيرة ضد اليونانيين، وسماها الأتراك «الهجوم الكبير». ففي أغسطس (آب) 1922، قاد مصطفى أتاتورك القوات التركية إلى النصر في حرب التحرير، وهزم اليونانيين في معركة دوملوبينار في 30 أغسطس، وهو التاريخ الذي يحتفل به الأتراك حتى اليوم فيما يسمى بـ«حرب التحرير».
كانت خسائر اليونان تقدر بـ50 ألف جندي مقابل 15 ألف جندي تركي، ولحق الجيش التركي باليونانيين حتى أجلى آخر جندي يوناني عن إزمير في 16 من سبتمبر (أيلول).
تبع ذلك اتفاقية التبادل السكاني بين تركيا واليونان عام 1923، التي قضت بنقل المسلمين اليونانيين من اليونان إلى تركيا، وإعادة المسيحيين اليونان إلى اليونان. بموجب هذه الاتفاقية، نُقل حوالي المليون ونصف يوناني من أراضي آسيا الصغرى، وتركيا إلى اليونان، ونُقل نصف مليون مسلم إلى تركيا.
طويت بذلك صفحة حرب اليونان وتركيا التي دامت ثلاثة سنوات، وكان من نتائجها أن مهدت الطريق لقيام الجمهورية التركية واكتساب مصطفى كمال أتاتورك شعبية كبيرة بوصفه زعيمًا قوميًا وبطلًا استطاع دحر القوات اليونانية، بعد أن رضخت الدولة العثمانية لإملاءات الحلفاء، ولم تستطع مقاومة مساعي الاحتلال الجديد.