السفر عبر الزمن؛ ناقشت الكثير من الأفلام والمسلسلات في العالم تلك النظرية الخيالية، وقدمتها بطرق مختلفة، ثم في عام 2017 عُرض المسلسل الألماني «Dark» على شبكة نيتفلكس ليتحدث عن الفرضية نفسها ولكن بشكل أكثر تعقيدًا، حتى تحول إلى موضوع للنقاش على شبكات التواصل الاجتماعي، في محاولة لفهم الموسم الأول. وبعد ثلاث سنوات عرض فيهم ثلاثة مواسم هم مدة المسسل كاملًا، اكتشف متابعو المسلسل أن الموسم الأول نقطة في بحر الألغاز والتعقيد الذي يحيط بالمسلسل، أو كما يقول أبطال المسلسل «ما نعرفه قطرة.. وما لا نعرفه محيط». في هذا التقرير نأخذكم في رحلة بين الفلسفة والعلم، في محاولة لتقديم دليل لفهم مسلسل «Dark»، فهل أنت مستعد للسفر عبر الأزمان والأبعاد الموازية؟
سر الكهف والسفر عبر الزمن
مدينة صغيرة تُدعى فيندن الخيالية في ألمانيا، هي موطن أحداث هذا المسلسل المعقد، والذي تبدأ أحداثه في العام 2019، وهي أيضًا المدينة التي أنشأت مصنعًا للطاقة النووية في خمسينيات القرن العشرين، هذا المصنع الموجود بجوار الكهف الذي تظهر صورته على دعايات المسلسل منذ بدايته.
هذا الكهف في مسلسل «Dark» هو السبب في السفر عبر الزمن، ولكن تفسير قدرة هذا الكهف على السفر 33 عامًا للمستقبل، و33 عامًا للماضي لم تكن واضحة لكل المشاهدين، ولذلك سنوضح للقارئ ما منح الكهف تلك القدرة على السفر عبر الزمن.
شكل جسيم الرب
يتعرض مصنع الطاقة النووية في مدينة فيندن لحادث تسرب نووي في الثمانينيات، هذا الحادث الذي يكون بدوره قادرًا على خلق المادة المسماة بـ«جسيم الرب»، وتلك المادة التي تنبأ بوجودها الفيزيائي بيتر هيجز في عام 1964، مفترضًا أنها هي القوى الأساسية للكون، وقد انفصلت عنه وقت الانفجار العظيم، ولم يكن «جسيم الرب» سوى نظرية على الورق حتى عام 2012، عندما تأكد العلماء من وجود تلك المادة في الكون، واستطاعوا رصدها، ويُعتقد أن «جسيم الرب» كما أطلق عليه هيجز، مسؤول عن كل الكتلة الموجودة في الكون.
شاهد كيف جسد المسلسل جسيم الرب
يفترض في الموسم الأول أن هذا الحادث الذي وقع في المصنع النووي قد خلق تلك المادة على كوكب الأرض، وفتح بوابة زمنية تسمح بالسفر عبر الزمن، كما أن الحصول على تلك المادة بعد بناء آلة للزمن، يمكن أن يستخدم فيها للسفر إلى أي زمن يريده الشخص، وليس فقط 33 عامًا للأمام أو الوراء.
إذن فإن الموسم الأول من مسلسل «Dark» يبني فرضيته على وجود هذا الجسيم في الكهف، ونظرًا للغموض الذي ما زال يحيط بتلك المادة، فإن صناع المسلسل افترضوا أن تلك المادة قادرة على منح الإنسان قدرة السفر عبر الزمن، الجزء العلمي الحقيقي في تلك النقطة هو أن جسيم الرب له وجود فعلًا، ولكن الجزء الخيالي الخاص بالدراما هي قدرته على توفير السفر عبر الزمن للبشر.
الحلم: عالم بدون فيندن
واحدة من الشخصيات الرئيسية في المسلسل كررت تلك الجملة، هي أن حلمها في الحياة «عالم بدون فيندن»، وبعد مشاهدة التعقيدات التي ترتبت على السفر عبر الزمن من خلال هذا الكهف، قد يتفهم المشاهد هذا الشعور. هذا الكهف الذي سمح بالسفر عبر الزمن، لن يأخذ أبطاله في أي مكان آخر سوى فيندن، فمن يدخل الكهف سيخرج منه مرة أخرى ولكن في زمن آخر، وكأن العالم ليس له وجود خارج هذه المدينة، وهو ما سنفهم سببه فيما بعد، أما الآن سنشرح التعقيدات التي تلت السفر عبر الزمن في المدينة نفسها.
شاهد: ميكيل يعود بالزمن ويقابل أباه وهو مراهق
تلك المدينة التي يعيش فيها مجموعة من الأسر في عام 2019، ستكتشف خلال الموسم الأول أن جميعهم تربطهم صلة قرابة بشكل ما عبر شجرة عائلة معقدة، وخلال الموسم الأول تظن أن المسلسل يدور حول فهم تلك العلاقات المعقدة بين الأسر التي تعيش في فيندن، عندما يبدأ الأمر بسفر «ميكيل» بالصدفة من 2019 للثمانينيات، ليعود ويرى كل الشخصيات التي عاش بينها وهي أصغر سنًّا، ثم يكتشف والده حقيقة الكهف ويحاول السفر عبر الزمن ولكن الكهف يأخذه للخمسينيات، وتبدأ سلسلة معقدة من الأحداث، والسؤال: ما الذي يمكن أن يغيره وجود ميكيل ووالده في أزمنة غير أزمنتهما، في هذا المسلسل يناقش صناعه أكثر من نظرية.
«معضلة الجد».. وأزمة الوجود
يوناس بطل مسلسل «Dark» في لحظة من اللحظات بعد اكتشافه بعض الحقائق عن السفر عبر الزمن وأبيه، كان أمامه بعض الاختيارات الصعبة عندما أدرك أنه إذا حاول تغيير شيء معين من شأنه إنقاذ ميكيل، قد يتسبب هذا في عدم وجوده في الحياة من الأساس، تلك المعضلة التي تُعرف علميًّا بـ«معضلة الجد» والتي وظفها صُناع المسلسل توظيفًا دراميًّا خلال الأحداث المعقدة، فما تلك المعضلة؟
معضلة الجد أو «Grandfather Paradox» ظهرت للمرة الأولى في العام 1931، وكان يطلق عليها في ذاك الوقت «الجدال القديم عن منع ولادتك من خلال قتل جدك»، وتتساءل تلك المفارقة الفلسفية عن الشخص إذا ما تمكن من السفر عبر الزمن وعاد للماضي، وقابل جده قبل أن يولد أبوه، وقتل هذا الجد، فهل سيكون للمسافر عبر الزمن وجود من الأساس؟ وإذا نجح في قتله؛ فكيف ولد المسافر عبر الزمن وعاد للماضي لقتل جده؟
تعد تلك المعضلة من أشهر المفارقات الفكرية التي تخص السفر عبر الزمن، والتي جعلت نظرية السفر عبر الزمن مستحيلة نظريًّا؛ نظرًا إلى أن الرجوع إلى الماضي وتغيير أحداثه قد يُدخل الكون في دائرة مفرغة من الأحداث اللانهائية، وفي أحداث المسلسل اختار صناعه تجنب تلك المعضلة، موضحين توضيحًا تامًا أن الشخص الذي له مستقبل في أحداث المسلسل؛ يستحيل قتله في الماضي، حتى إذا أعطيته مسدسًا به طلقات من الرصاص، وصوبه إلى رأسه فلن ينطلق الرصاص، في حين أنه إذا وجه المسدس نفسه في اللحظة نفسها للحائط سينطلق الرصاص بشكل طبيعي، وتكرر هذا المشهد موضحًا أنهم تجنبوا تلك المعضلة دراميًّا لتوفير إمكانية السفر عبر الزمن في أحداث المسلسل، وأكدوا هذا عن طريق الحوار عندما قيل للبطل: «إذا كان لك مستقبل وحاولت أن تقتل نفسك؛ فإن هناك شخصًا ما أو شيئًا ما سيمنعك من ذلك».
معضلة الـ«Bootstrap».. من كتب هذا الكتاب؟
تخيل أنك سافرت عبر الزمن إلى الماضي، وقابلت بالصدفة كاتبك المفضل، ولكنك وجدته قبل أن يصبح كاتبًا مشهورًا، وأخبرك بأنه يحب الكتابة ولكنه يأس منها وسيتخذ مهنة أخرى، فربما سيكون أول شيء يخطر على بالك هو أن تعود إليه مرة أخرى بمؤلفاته وتعطيها له، فيكتب هذا الكاتب كتبه مرة أخرى وينشرها، في هذه الحالة: من يكون مؤلف هذه الكتب؟ وما هو أصل المعلومات الموجودة داخله؟ هذا ما يطلق عليه معضلة الـBootstrap.
شاهد مقطعًا من مسلسل Dr Who يحاول توضح تلك المعضلة
وظف صناع مسلسل «Dark» تلك المعضلة دراميًّا من خلال كتاب «السفر عبر الزمن»، والذي من المفترض أن مؤلفه هو صانع آلة الزمن التي يمكنها السفر إلى أي عام، يعود أحد أبطال هذا المسلسل، والذي يحمل جهاز السفر عبر الزمان، والكتاب الذي ألفه هذا العالم، إلى الماضي، ويقابل العالم قبل أن يكتب أو يخترع الآله ويمنحه الاثنين، وبهذا يدخل الكتاب والآلة في حلقة لانهائية من ضياع المصدر الأساسي لهما.
الـ«ديجا فو» وفرضية الأكوان المتعددة
على مدار الموسم الأول والثاني من مسلسل «Dark»؛ يعيش المشاهد في عالم البطل يوناس وحبيبته مارثا والذي تدور حوله الأحداث، ويظن المشاهد أن هذا هو العالم الوحيد الموجود في المسلسل، ولكن يتضح في الموسم الثالث أن الأمر أكبر من ذلك، وأن هناك عالمًا موازيًا تكون فيه مارثا هي محور الأحداث، وتعيش حياة يوناس نفسها ولا يوجد يوناس في هذا المكان، وتنقسم الأحداث إلى خطين دراميين، واحد يخص عالم يوناس والذي سيكون اسمه فيما بعد بالمستقبل آدم، وعالم مارثا والتي سيكون اسمها فيما بعد إيفا، ليعبِّر العالَمان عن إرادة الأنثى، وإرادة الرجل في عالمين متوازيين، تتشابه فيهما الأحداث والشخصيات باختلافات طفيفة.
وهذا الخط الدرامي بناه صناع المسلسل بناءً على فرضية الأكوان المتعددة أو الأكوان المتوازية «multiverse»، وتلك الفرضية تقول إننا البشر في عالمنا الذي نعرفه لسنا العالم الوحيد في الكون، وأن هناك عوالم أخرى موازية، وتلك الفرضية لا يعترف بها كل الفيزيائيين، ولكن يعتقد بعضهم في ترجيحها، ويعتقد كذلك بإمكانية التواصل مع هذه العوالم الموازية.
شاهد توضيح لفكرة الأكوان المتوازية في المسلسل
ولكن وفقًا لهذه الفرضية فنحن لا نستطيع رؤية تلك الأكوان؛ لأن رؤيتنا الكونية مربوطة بسرعة الضوء، وهي أكبر سرعة ممكنة منذ الانفجار العظيم منذ 14 بليون سنة، ولذلك لا يمكننا رؤية ما هو أبعد من 14 بليون سنة ضوئية، وفي أحداث المسلسل استخدم صناعه جسيم الرب مرة أخرى ليكون مبررًا دراميًّا لقدرة الأبطال على التنقل بين العوالم الموازية من خلال وضع تلك المادة – جسيم الرب – في جهاز صغير ذهبي يشبه الكرة.
وعلى الرغم من عدم الكشف عن وجود عالم موازٍ إلا في الموسم الثالث من أحداث المسلسل، فإن صناع المسلسل حاولوا التلويح بتلك الفكرة من خلال تكرار تعرض أبطاله لظاهرة الـ«ديجا فو» والتي يشعر فيها الإنسان بأنه عاش هذا الموقف من قبل بكل تفاصيله، وهذا لأن فرضية الأكوان المتعددة ترجح أن هذا الأمر يحدث للإنسان إذا كانت نسخته الأخرى في العالم الموازي عاشت الموقف نفسه من قبله، وهذا ما جعله يشعر بالألفة تجاه موقف لم يعشه من قبل في عالمه الخاص.
الموسم الثالث.. أكثر من واقع
في الموسم الثالث لم يكتف صناع المسلسل بمفاجأة المشاهد بأن هناك عالمًا موازيًا لعالم البطل يوناس، ولكن أيضًا؛ تضمن عالم يوناس أكثر من واقع. تخيل أن أحدهم سافر عبر الزمن وشاهد شخصًا يحاول قتل والدته، ومنعه المسافر في اللحظة المناسبة، في تلك اللحظة ينقسم واقع الأم إلى واقعين؛ واقع ماتت فيه، وواقع آخر عاشت فيه، وهذا ما حدث بالضبط في الحلقات الأخيرة من الموسم الثالث عندما تحولت الأحداث إلى سلسلة معقدة من المواقف بين أزمنة مختلفة، وأكوان مختلفة، وأكثر من واقع للأبطال.
ولكن في نهاية هذا التعقيد كان على صناع المسلسل أن يحلوا تلك العقدة المترابطة بين العالمين، عالم آدم وعالم آيفا، لنكتشف المفاجأة الأخيرة، وهي أن العالمين ليسوا حقيقة من الأساس.
هناك عالم ثالث موازٍ، وهو العالم الأصلي، والذي يعيش فيه عالم مهتم بالسفر عبر الزمن، تتوفى أسرة هذا الرجل، ويعمل لسنوات طويلة على بناء جهاز يمكنه من السفر عبر الزمن ليعود إلى الماضي وينقذ أسرته، ولكن تلك التجربة يحدث بها خطأ وبدلًا من أن يسافر عبر الزمن، ينشطر عالمه – الأصلي- إلى عالمين هما مرآة لبعضهما البعض؛ عالم آدم وعالم آيفا.
هل يتحكم الإنسان في مصيره؟
هل يمكن للإنسان أن يتحدى الزمن؟ هل يمكن أن يتحكم في مصيره؟ هل يمكن التحكم في نهاية العالم أو منعها؟ كل تلك الأسئلة التي طُرحت في المسلسل على مدار الموسم الأول والثاني من مسلسل «Dark» كانت الإجابة عنها «لا»، ثم يأتي الموسم الثالث في نهايته ويخبرنا بأنه «نعم من الممكن».
في العالم الخاص بآدم وحواء من المستحيل تغيير شيء في الماضي، وكل شخص مهما حاول أن يغير مصيره يجد نفسه يسير في المسار نفسه الذي حدده له القدر، ما يشعرك بأن صناع المسلسل يدعمون فلسفة جبرية حتمية تقول إن الإنسان لا يستطيع تغيير مصيره، فآدم يحاول تدمير العالم من خلال ضمان حدوث نهاية العالم وقتل حلقة الوصل بين عالمه وعالم حواء، بينما تحاول آيفا – حواء- منع آدم من ذلك، وللمفارقة كل منهما يظن أنه يحارب الآخر، ولكن نكتشف في النهاية أن الاثنين أداة في يد بطلة أخرى بالمسلسل تعمل على تدمير العالمين حتى يتبقى العالم الأصلي فقط.
وبعد أن ظننا مثل آدم وحواء أن الإنسان لا يستطيع تغيير مصيره، يقوم يوناس ومارثا – النسخة الأصغر من آدم وحواء- بتدمير العالمين من خلال إنقاذ أسرة العالم الذي اخترع آلة الزمن، والتي خلقت عالميهما، وبالتالي لن يقوم العالم باختراع آلة الزمن، ولن يُخلق العالمان، ولكن هذا يضعنا أمام سؤال مهم: أليس هذا ما كان يسعى إليه العالم من الأساس؟ أن يعود بالزمن وينقذ أسرته من الموت؟
في نهاية المسلسل ينفذ العالم تلك الخطة قبل أن يبدأها من الأساس، وكأن كل المعاناة التي عاشتها فيندن على مدار موسمين كاملين كانت مجرد وسيلة خلقت على يد العالم لإنقاذ أسرته. فهل يتحكم الإنسان في مصيره؟ صناع مسلسل «Dark» يقولون لك على الأرجح نعم، ولكن دون أن يدري!