حملت المساعدات المالية الكبيرة المقدمة من دول الخليج، وخاصة الكويت وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة إلى مصر منذ الانتفاضة الشعبية التي اندلعت عام 2011 العديد من المراقبين على استنتاج أن دول الخليج قد بدأت باستخدام مواردها الهائلة لتشكيل المنطقة والمساهمة بشكل مباشر في التطورات السياسية ووضع قالب للعلاقات الإستراتيجية، وبعبارة أخرى، إن الخليج يشارك الآن في عملية “جيو-اقتصادية” بمعنى استخدام الأدوات الاقتصادية لتحقيق أهداف جيوسياسية.
لكن في الواقع، فإن دول الخليج استخدمت الأدوات الاقتصادية بغرض التأثير السياسي منذ عدة عقود، وإن مساعداتهم المالية لمصر بعد الإطاحة بحسني مبارك في يناير 2011 لا تمثل أي نوع من التحول في السياسة، بل هو استمرار إستراتيجية تتبعها باستمرار في علاقاتها مع دول المنطقة، ومع بعض الدول الغربية خاصة الولايات المتحدة في بعض المناسبات، ما هي تلك الأدوات الرئيسية؟ النفط والمال.
تملك دول مجلس التعاون الخليجي ثلث احتياطيات النفط في العالم وتنتج نحو 20 في المئة من إنتاج العالم، وقد حلت ثلاثة من تلك البلدان -هي الكويت والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة- في المراتب العشر الأولى للدول المنتجة للنفط في العالم، بينما حلت قطر في المركز الثالث عشر، كما تملك قطر أيضًا ثالث أكبر احتياطيات من الغاز الطبيعي وهي أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم.
بينما يعبّر الساسة ووسائل الإعلام في الغرب في كثير من الأحيان عن مخاوفهم بشأن استخدام النفط كسلاح لأغراض سياسية، لم تلجأ دول الخليج إلى استخدام هذا السلاح سوى مرتين فقط في تاريخها: الأولى أثناء الحرب بين العرب وإسرائيل عام 1967؛ حيث حظرت دول الخليج النفط العربي وأوقفت تصديره للعالم لمدة شهرين تقريبًا، ومع ذلك فإن هذا التصرف لم يؤثر بشكل كبير على أسعار النفط العالمية والدول المستهلكة للنفط؛ حيث زادت إيران وفنزويلا إنتاجهما من النفط لتعويض الانخفاض في إمدادات النفط العربي، الانقطاع الثاني كان خلال الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973، بهدف معاقبة الدول الداعمة لإسرائيل عسكريًّا (الولايات المتحدة بالأساس)، واستمر لمدة ستة أشهر وأدى إلى تضاعف أسعار النفط أربعة أضعاف، مما أضر بشكل كبير بالاقتصاد العالمي.
رغم ذلك، ومنذ هاتين الحادثتين، لم يُستخدم النفط الخليجي كوسيلة تهديد أو كسلاح، ولكن كأداة للاستقرار، فعند بروز أي خطر جدي على إمدادات النفط بما يهدد بزعزعة استقرار السوق، تلجأ دول الخليج – خاصة المملكة العربية السعودية – إلى إنتاج المزيد من النفط لتحقيق الاستقرار في الأسعار. وكمثالين على السعي لتحقيق الاستقرار في أسعار النفط ما جرى مع أزمتي الكويت وليبيا، فعندما توقف الإنتاج الكويتي في أعقاب حرب الخليج الأولى في عام 1991، سرعان ما تحركت كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وملأتا الفجوة التي خلفتها الكويت وبالكاد ارتفعت أسعار النفط، وعندما انهار إنتاج ليبيا من النفط (والذي يبلغ مليون برميل يوميًا) بسبب الأزمة الأخيرة في عام 2011، مما أثار المخاوف من ارتفاع حاد في أسعار النفط بما يسبب ضررًا شديدًا لأوروبا، حينها ومجددًا، انبرى السعوديون للإنقاذ وتعويض نقص النفط الليبي، ومنع أسعار النفط من الارتفاع بشكل حاد.
ما سبق لا يعني أن النفط لم يستخدم أبدًا كأداة للتأثير السياسي من قبل دول الخليج. فهو يجري استخدامه، ليس كسلاح، ولكن كوسيلة ناعمة للتأثير على البلدان وشراء الأصدقاء وأحيانًا كمكافأة على امتيازات سياسية، فحفظ استقرار أسعار النفط يساعد الاقتصاد العالمي وله اعتباره لدى الدول المستهلكة للنفط، كما استخدمت دول الخليج أيضًا النفط كوسيلة تأثير مباشر في العلاقات الإقليمية، بتوفير النفط بأسعار مخفضة (وأحيانًا حتى مجانًا) على مر السنين إلى الأردن ومصر وباكستان واليمن، حتى البحرين نفسها – وهي عضو في مجلس التعاون الخليجي – استفادت من إنتاج النفط من حقل سعودي “على سبيل الإقراض ” إلى البحرين.
إن أداة التأثير السياسي الرئيسية الأخرى التي تملكها دول الخليج في جعبتها هي المال، ففي عام 2013، تجاوزت احتياطيات النقد الأجنبي في البنوك المركزية الخليجية حاجز 900 مليار دولار، أو أكثر من 50 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي مجتمعة، الأهم من ذلك، تملك صناديق الثروة السيادية التابعة لها حوالي اثنين تريليون دولار من الأصول، وهو ما يمثل ثلث أصول صناديق الثروة السيادية العالمية.
لم يتم استخدام الثروة المالية لأغراض سياسية في علاقات الخليج مع الغرب، فاحتياطيات النقد الأجنبي الخاصة بدول الخليج محفوظة في أذون الخزانة والسندات الحكومية الأجنبية ذات السيولة العالية، بينما تُحفظ أصول صناديق الثروة السيادية في صور متنوعة وبشكل أساسي في الغرب، وتستند هذه الاستثمارات على معايير اقتصادية بحتة وليست ذات دوافع سياسية. على سبيل المثال، هيئة أبو ظبي للاستثمار، إحدى أكبر صناديق الثروة السيادية في العالم، تضع معدل سنوي قياسي للعائد يبلغ 8 في المائة لمحفظتها، وقد أوفت أو تفوقت على ذلك الإنجاز لعدة سنوات.
ليس لدى دول الخليج خيار آخر غير الاستثمار في الغرب. فمن وجهة نظر مالية، هم من يعتمدون على الغرب وليس العكس، وذلك لسبب وجيه. منذ عام 2008، زادت فوائض الحساب الجاري الخارجي لدول مجلس التعاون الخليجي عن 250 مليار دولار سنويًّا، وتعتبر الولايات المتحدة هي السوق المالي الوحيد الكبيرة بما يكفي (بـ50 تريليون دولار أمريكي) لاستيعاب هذه المبالغ دون تغيير في الأسعار والتقييمات، ولديها من السيولة ما يكفي لسحب تلك الاستثمارات من دون حدوث إرباك للسوق.
وقد أصبحت الجوانب السياسية للتمويل الخليجي أكثر وضوحًا عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط الكبير. إقليميًّا، تُعتبر المعايير السياسية عوضًا عن الاقتصادية هي الدافع الرئيسي، وما يحدث مؤخرًا في مصر هو مثال صارخ جدًّا على العوامل السياسية التي تسيطر على قرار استخدام المال كأداة للتأثير السياسي.
بعد سقوط نظام مبارك، أبدت بعض دول الخليج التزامات مالية ضئيلة نسبيًّا للحكومة المصرية العسكرية التي أمسكت بزمام الأمور في عام 2011. ومع ذلك فإن التباين في المواقف في منطقة الخليج ظهر بسرعة مع انتخاب محمد مرسي في يونيو 2012. فقد برزت دولة قطر بوصفها أحد أوائل المؤيدين لحكومة مرسي والإخوان المسلمين، بتقديمها 8 مليارات دولار في شكل منح وقروض، إلا أن دول الخليج الأخرى عارضت جماعة الإخوان المسلمين وتوقف تمويلها على الرغم من عدة مبادرات من حكومة مرسي إلى الكويت والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة للحصول على المساعدة المالية، ومباشرة بعد سقوط حكومة مرسي في يوليو عام 2013، عرضت الكويت والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على مصر 12 مليار دولار من المساعدات الخارجية، مع وعود بتقديم المزيد في المستقبل، وقد كان جليًّا أن هذا التمويل له دوافع سياسية ولا يحمل أية دوافع اقتصادية.
تبرز حالة مصر بوضوح أن الخليج على استعداد لاستخدام المال كأداة للتأثير السياسي لتحقيق مزيد من الأجندات السياسية والنفوذ، وعلى الرغم من استخدام أدوات الاقتصاد في التأثير السياسي سابقًا مع بلدان أخرى، فقد جرى ذلك خلف الأبواب المغلقة بحيث تكون الظروف السياسية المرتبطة بالتمويل معلومة فقط لقلة مختارة من الأطراف، أما الآن فقد غدت المساعي الخليجية علنية، فالتدخل في السياسة الداخلية للدول الإقليمية يَظْهَر بلا شك الرغبة في تمويل البلدان التي تتقاسم معها وجهات النظر السياسية ومعارضة تلك الجماعات التي لا تروق لهم، ولكن ما تفعله دول الخليج ليس إلا محاكاة فقط للدول الكبرى مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وروسيا والصين في استخدام الأدوات الاقتصادية بغرض التأثير السياسي.