في الماضي كان شكلهم يبدو مميزًا، عربات تجرها الخيول، ونساء يبالغن في التزين، ومنازل هي في الحقيقة كرفانات تتنقل معهم بين المدن، وقد تعددت أسماؤهم باختلاف البلاد التي عاشوا فيها، فهم «الروما» في أوروبا، و«الكاولية» في العراق، و«النّور» في لبنان وفلسطين وسوريا. وفي أوروبا ظل الغجر لمئات السنوات على هامش البلدان التي عاشوا فيها، واليوم لم تزل صورهم تتصدر الأخبار في معاناة تتجدد، فما هي قصة غجر الروما الذين لاحقتهم فرنسا في السنوات الأخيرة بقرارات الطرد؟  

من الهند إلى قلب أوروبا

تعود أصول الغجر إلى الشعوب القوقازية وقد جاءوا من الهند ودخلوا أوروبا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وتميزوا بثقافتهم الشفهية الغنية، وكان الغجر يميلون إلى اعتناق ديانة البلد الذي يعيشون فيه، وهكذا كان منهم المسيحيون البروتستانت، والكاثوليك، والأرثوذكس، إضافة إلى المسلمين. 

واجه غجر الروما تمييزًا بسبب بشرتهم الداكنة، وشاع الاعتقاد في المجتمعات الأوروبية بأن الغجر غرباء ماكرون وغامضون يروون الحكايات، ويسرقون المدينة، قبل أن يرحلوا عنها إلى مدينة أخرى، وليضمنوا البقاء عاش الغجر حياة من التنقل المستمر والانعزال الشديد.

وعلى تنوع مجموعاتهم تحدث الغجر لغة واحدة هي اللغة الرومنية التي تعود جذورها إلى اللغة السنسكريتية وتمزج بين اللغات الهندية، والبنجابية، والأوردية، والبنغالية، وكانوا يتنقلون دائمًا في جماعات يقودها أحدهم، ويولون أهمية كبيرة للعلاقات الأسرية، ويتزوجون فيما بينهم في سن صغيرة، وتميل نساء الغجر إلى ارتداء المجوهرات الذهبية وأغطية الرأس المزينة ويزينون منازلهم بالزهور والزخارف الذهبية والفضية.

أطفال من شعب الروم في مخيم بالقرب من باريس – المصدر: theconversation.com

ظل غجر الروما على هامش المجتمعات الأوروبية فلم يندمجوا فيها، ومنذ القرون الأولى لوصولهم صدرت بحقهم عديد من قرارات الطرد من البلدان التي عاشوا فيها، كان أولها عام 1493 من مدينة ميلانو الإيطالية، ثم في 1504 حين صدر قرار بطردهم من فرنسا، وشهد القرن السادس عشر قرارات متتابعة بطردهم من دول أوروبية منها بريطانيا، والسويد، وإسبانيا، والبرتغال، وبولندا، وليتوانيا. 

واليوم يعتبر غجر الروما أكبر الأقليات العرقية في أوروبا إذ يبلغ عددهم بين 12 مليون و15 مليون شخص وفقًا لبيانات اليونيسيف، يعيش حوالي 70% منهم في بلدان وسط وشرق أوروبا، في أحياء فقيرة لا تتوفر فيها الخدمات الأساسية، ولم يلتحق أغلبهم بالمدارس.

«خاطفي الأطفال».. صورة مشوهة تلاحقهم

في كتاب «تكيف الغجر: دراسة أنثروبولوجية أجتماعية لجماعات الكاولية في العراق»، يقول حميد الهاشمي: إن الغجر هم أكثر شعوب الأرض تشردًا إذ تسبقهم أينما حلّوا سمعتهم – سواء كانت حقيقية أم صورة تخيلها الناس – فيصبحون على حد تعبيره «ضيوف ثقلاء لدى الكثير من الشعوب المعمورة» وفي تفسيره يعود ذلك لطبيعة حياتهم والأعمال التي يقومون بها إلى جانب الصورة المشوهة التي لازمتهم.

كان الترحال الدائم يعوق الغجر عن العمل في مهن ثابتة إلى جانب افتقادهم للمهارات بسبب قلة نصيبهم من التعليم وهو ما جعلهم محل شك الناس وسببًا لقسوتهم معهم أيضًا، فبلغ الأمر أن يعرّف قاموس اللغة التشيكية الصادر عام 1952 الغجر بأنهم «شعب تائه يمتهن السرقة والكذب لا شغل لهم سوى الدجل والغش» هذا على الرغم من محاولاتهم الجادة للتكيف مع المجتمعات التي يعيشون فيها أو بالقرب منها، فتعرضوا لموجات من الاضطهاد في البلاد التي عاشوا فيها. 

تقديرات لتعداد غجر الروما في أنحاء أوروبا لعام 2008- المصدر:researchgate.net

وتبدو الإشاعات وراء كثير من الاعتقادات حولهم، كما يذكر توماس فيتالي عالم الاجتماع بمركز الدراسات الأوروبية والسياسة المقارنة، فهناك أسطورة قديمة تقول: إن الغجر يخطفون الأطفال، وحتى اليوم لم يزل الكبار في بعض الأطفال الأوروبية يهددون الأطفال بأن الغجر سيخطفونهم، وهي اعتقادات رسّخها وسجلها الأدب أيضًا إذ تحكي رواية أحدب نوتردام التي كتبها فيكتور هوغو عام 1831 عن إزميرالدا الطفلة التي اختطفها الغجر وربوها.

في الهولوكوست.. ضحايا لم يعتذر لهم أحد

في العصر الحديث بدأت معاناة الروما في ألمانيا وجميع أنحاء أوروبا قبل وصول النازيين للسلطة في 1933، ووفقًا لموقع موسوعة الهولوكوست فقد احتفظت الشرطة في بافاريا بألمانيا بسجلات لهم منذ عام 1899، لتتمكن من فرض السيطرة على تحركاتهم، ثم مع وصولهم إلى السلطة حكم النازيون على الغجر بأنهم «غير مرغوب فيهم» وأخدوا في إجراءات جمع بياناتهم ليبدأ الاضطهاد المنهجي.

لما كان الغجر مسيحيين منذ مئات الأعوام فكان من الصعب التعرف عليهم من خلال سجلات الكنيسة الجديدة، وهكذا كانت الصفات الجسدية هي الطريقة المثلى للتعرف عليهم، وكان هذا دور طبيب علم نفس الأطفال في جامعة توبنغن روبرت ريتر، والمتخصص أيضًا في علم الأحياء الجنائي، الذي أصبح مديرًا لمركز أبحاث الصحة العنصرية وعلم الأحياء السكاني في وزارة الصحة وبدأ الدراسة العرقية للروما انطلاقًا من فكرته بأن السلوك الإجرامي يتحدد بالوراثة، وبأنهم عرق يجب التخلص منه. 

في عام 1936 بدأ تحديد الغجر المقيمين في ألمانيا وكان عددهم 30 ألفًا وجرى تصنيفهم عرقيًا من خلال اختبارات طبية وأنثروبولوجية وبدأ التفريق بين الروما ذوي النسل النقي والروما ذوي النسل المختلط، ومع ذلك نالت منهم جميعًا السياسة النازية الاضطهادية والقتل الجماعي.

 كانت القوانين الألمانية في منتصف الثلاثينيات تحرم الزواج بين الغجر والألمان، وتم تعقيم عدد كبير من أفراد الغجر، ثم قُبض عليهم جميعًا لترحليهم إجباريًا من برلين العظمى إلى مارزان – وهو حقل مفتوح في شرق برلين، ثم أُرسل الرجال من مارزان إلى زاكسن هاوزن في عام 1938، وتم ترحيل عائلاتهم إلى مكان آخر بعدها باعوام قليلة.

في عام 1940 أرسل 20 ألف من الغجر إلى معسكرات الاعتقال النازية في بولندا، وكان بينهم أطفال ارتفعت بينهم حالات الوفاة بسبب الأمراض وسوء التغذية، وأُرسل عدد كبير من المعتقلين إلى معسكرات أخرى للعمل في الأعوام التالية، بينما أُعدم مئات النساء والأطفال والشيوخ بالغاز السام عام 1944.

قتل النازيون عشرات الآلاف من الغجر في الأراضي التي احتلتها ألمانيا في الاتحاد السوفيتي وصربيا، وقُتل الآلاف منهم في معسكرات الاعتقال، فقّدر عدد الضحايا منهم بحوالي 220 ألف قتيل، لم يتسن التأكد من عددهم أو التأريخ بدقة لما حدث معهم.

الطرد مرة أخرى.. لا أحد يردع أوروبا

ولم تتوقف معاناة غجر الروما في أنحاء أوروبا؛ في عام 2014 كتب نيكولاس بيجر مدير مكتب المؤسسات الأوروبية في منظمة العفو الدولية يؤكد أنه ورغم مرور أكثر من عقد على تبني الاتحاد الأوروبي لقوانين مكافحة التمييز، فإن إحدى أكبر الأقليات الإثنية في أوروبا – غجر الروما – لا تزال تواجه تمييزًا وعنفًا وكراهية عنصرية وإخلاء قسري على نطاق آخذ في الازدياد. 

وأكد نيكولاس أن المنظمة لا تزال توثق عمليات إخلاء قسري لمجتمعات الروما في عدة دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي، ذكر بينها بلغاريا، وفرنسا، واليونان، وإيطاليا، ورومانيا، وسلوفينيا، وأكد أن إعادة الإسكان المزعومة لهم تتم في مناطق سكنية معزولة، أو ملوثة لا تلبي المعايير الأساسية الدنيا للسكن الملائم.

وأشار إلى تقاعس مؤسسات الاتحاد الأوروبي عن اتخاذ تدابير قوية لمحاسبة دولها الأعضاء على الطريقة التي تعامل بها شعب غجر الروما، واستشهد بما حدث عام 2010 حين تراجعت المفوضية عن تهديدها الأولي بمباشرة إجراء لمكافحة التجاوز ضد فرنسا بسبب سياستها التي تستهدف الغجر من عمليات إخلاء القسري، وإعادتهم إلى البلدان التي قدموا منها؛ ما سمح لوزير الداخلية الفرنسي مانويل فالس بأن يقف أمام الملأ في مارس (آذار) 2013، ليؤكد مواصلة سياسة إخلاء مستوطنات الروما العشوائية. 

العنصرية الفرنسية ضد الغجر

في مطلع عام 2019 وفي أقل من شهرين فقط جرى تسجيل 25 هجومًا ضد الغجر في فرنسا بين التعرض لهم بالسباب أو الضرب أو الهجوم على منازلهم، وقد وقعت هذه الهجمات في جميع أنحاء باريس؛ بوبيني، كليشي سو بوا ، مونتروي وغيرها، وذكرت التقارير الأولية أن السكان المحليين الذين ينتمون غالبًا إلى المهاجرين أو من المناطق الفقيرة – التي يعيشون فيها مع الغجر – هم من قاموا بهذه الهجمات، في أعقاب سلسلة من الشائعات التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي تقول إن الغجر يخطفون الأطفال لاغتصابهم أو بيع أعضائهم. 

الهجمات لم تكن الأولى؛ فقد سجلت هجمات مماثلة عام 2018 في جنوب باريس، وفي أنحاء مختلفة من أوروبا، في فرنسا مثلًا تُظهر الدراسات أن المستوى العام للعداء ضد مجتمعات الغجر قد انخفض بشكل طفيف فقط في السنوات الأخيرة. جدير بالذكر أنهم عانوا من سياسة ممنهجة قاسية في عهد ساركوزي، إذ كانت هناك حملة ضد المقيمين في البلاد «بطريقة غير شرعية» بحسب وصف الحكومة.

ومع ذلك لم يزل أكثر من نصف المواطنين الفرنسيين يعتقدون أن الغجر، وبالأخص الغجر المهاجرين لا يريدون الاندماج في فرنسا، وقد يشكلون تهديدًا، ووفقًا لما ذكره موقع BBC يعيش في فرنسا حوالي نصف مليون غجري، لا يعرف نصفهم تقريبًا القراءة والكتابة، ويتسرب الأطفال من التعليم ويدخل كثير منهم عالم الجريمة والسجون.

يعيش الروما في فرنسا شكل من أشكال الإقصاء الاجتماعي، يتمثل في التباعد الثقافي، ويعانون أحد أشد أشكال التحيز في جميع أنحاء أوروبا يتم التعبير عنه في الغالب بطرق سلبية، ولم تزل الأفكار الجوهرية حول الاختلافات الثقافية بين السكان الروما وغيرهم تساهم في الإبعاد النفسي لشعب الروما عن باقي الشعب الفرنسي.

يبدو أن الصور النمطية عن الغجر تعود مجددًا لتفصح عن نفسها، وتكشف عن تأثير عميق على تخيلات الناس وتصوراتهم، في عام 2013 زعم ​​السكان المحليون ووسائل الإعلام في اليونان أن طفلة صغيرة موجودة في معسكر الغجر من هؤلاء الأطفال المخطوفين، وأطلق عليها الإعلام لقب «الملاك الأشقر» بسبب لون شعرها، وتبين لاحقًا أنها طفلة من الغجر من أصل بلغاري.

اليوم تحاول قطاعات واسعة من الأجيال الشابة من غجر الروما الاندماج في المجتمع الفرنسي مع الحفاظ على تراثها الغجري، ونقل مبادئ وفلسفة حياة الأجداد إلى أطفالهم في قالب يتوافق مع نمط الحياة السائد في القرن الحادي والعشرين، إذ لم تعد هيئتهم غريبة أو مميزة كما كانت تبدو في السابق، يسكنون الشقق ويذهب أطفالهم إلى المدارس، لكن الأطفال يتعلمون هذا الدرس مبكرًا حتى لا يتعرضوا للتمييز؛ «لا تفصح أبدًا عن انتمائك للغجر». 

 

 

 

المصادر

تحميل المزيد