في الوقت الذي تستعر فيه الحرب السورية وتزداد جنونًا، تعمل العديد من المنظمات الحقوقية الدولية على توثيق «جرائم الحرب» المرتكبة بحق المدنيين في سوريا من قبل مختلف أطراف النزاع، والتي نال منها النظام السوري نصيب الأسد بمعية تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وجبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقًا).
وعلى غرار الأنظمة السياسية العربية، ارتكب النظام السوري العديد من «الأعمال الوحشية» بحق المدنيين في سوريا، في صراعه مع المعارضين لحكمه منذ الاستقلال إلى اليوم، علاوة على سيطرة عائلة الأسد على مقاليد الدولة ومقدراتها، شأنها شأن الديكتاتوريات التقليدية العربية، التي تأبى أخذ العبرة إلى الآن من ثورات «الربيع العربي» المدمرة للأخضر واليابس.
أحداث حماة والإبادة الجماعية
في عام 1973، خرج سكان حماة في مظاهرات حاشدة، يقودها إسلاميون، للمطالبة باستعادة مادة تضمنها دستور 1950، والتي تنص على أن «رئيس الجمهورية يجب أن يدين بدين الإسلام»، ما اضطر الرئيس حافظ الأسد آنذاك إلى إضافة المادة من جديد.
منذ تلك اللحظة زاد التوتر بين النظام السوري وحركة الإخوان المسلمين، التي كانت أبرز المعارضين لحكم حافظ الأسد وأكثرهم نشاطًا، بلغ أوج هذا التوتر عند محاولة إسلاميين اغتيال حافظ الأسد.
وكانت جماعة الإخوان المسلمين في تلك الفترة، تعمل على تأسيس سرايا شبابية مسلحة تابعة لها في كل من مصر والأردن وبلدان أخرى، وأسست في سوريا أحد التنظيمات الإسلامية العسكرية، الممثل في تنظيم الطليعة، الذي اتهمه النظام بتنفيذ اغتيالات وأعمال عنف في سوريا، من بينها قتل مجموعة من طلاب مدرسة المدفعية في حزيران 1979، في مدينة حلب شمال سوريا.
ومن ثمَّ شنّ النظام السوري حملة واسعة لتصفية واعتقال كوادر الجماعة في كافة المدن السورية، فلاذ الكثير منهم بالفرار إلى مدينة حماة، التي كانت آنذاك معقل الإسلاميين في سوريا، بعد أن فقدوا القدرة على التحرك في باقي المدن.
ويقال إن حوالي 350 مسلحًا تمركزوا في حماة، فحاصرت حينها، في الثاني من فبراير (شباط) 1982، قوات عسكرية من الجيش السوري مقدرة بـ12 ألف جندي، المدينة، وأُعطيت لهم صلاحية واسعة بتصفية المعارضين والمتعاطفين معهم.
بعد أيام، بدأت كتائب الجيش السوري مع أرتالها العسكرية بدخول المدينة، إلا أنها جوبهت بمقاومة مسلحة من مليشيات إسلامية، فما كان منها إلا أن جهزت راجمات الصواريخ بأطراف المدينة، وبدأت حملة مسعورة لدك المدينة بمدنييها ومسلحيها، فحولت البلدة الآهلة بالسكان خلال يومين إلى منطقة منكوبة، اختلطت فيها جثث الناس بالبيوت المهدمة.
واقتحم الجنود المدينة، لينفذوا فيها سلسلة مجازر وإعدامات ميدانية فيمن تبقوا أحياء، ونهبوا محلاتها المتبقية، تحت تعتيم إعلامي بعد قطع الاتصالات والمواصلات، حتى لا تصل صورة الوضع إلى خارج البلاد.
أسفرت المذبحة التي تواصلت على مدار 27 يومًا عما بين 10 آلاف إلى 40 ألف قتيل من أصل 350 ألف نسمة، وفُقد أكثر من 15 ألف شخص بين معتقل ومُغيّب، بالإضافة إلى تهديم مئات المباني السكنية.
ويذكر تقرير اللجنة السورية لحقوق الإنسان حول «أحداث حماة» الذي صدر عام 2003، أن «حافظ الأسد عمد إلى مكافأة العسكريين المشتبه في تورطهم فيها، أو الذين كان لهم ضلع مباشر في أعمال القمع»، وطالبت اللجنة حينها بفتح تحقيق دولي لمعاقبة المتورطين العسكريين والسياسيين «كمجرمي حرب».
وفي هذا الصدد، قاد محامون دوليون حملة جدية لمتابعة الرئيس حافظ الأسد بالمحكمة الجنائية الدولية، منهم دانيال ماكوفر، الذي اعتبر أحداث حماة، ترتقي «لجريمة ضد الإنسانية»، بسبب إشراك المدنيين في القتل الجماعي على نحو ممنهج ومقصود.
تمكن نظام حافظ الأسد خلال تلك الفترة، في ثمانينات القرن الماضي، من حماية نفسه من المتابعة الجنائية الدولية، بعد انقشاع حجم الكارثة لوسائل إعلام العالم، وذلك لأن سوريا لم تكن منضمة بعد للمحكمة الدولية الجنائية آنذاك؛ مما حال دون رفع قضايا «جرائم حرب» لدى محكمة لاهاي، كما تم مع المتورطين في حرب البوسنة، والصرب، والحرب الأهلية في رواندا.
معتقلات الموت في سوريا
ترتبط السجون العربية عامة بالتعذيب الوحشي، والإهمال التام، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالمعارضين السياسيين، ولم تكن السجون السورية استثناءً، ويعد سجن «تدمر» أحد أخطر السجون عالميًّا، بالنظر إلى سجله الحافل بالمجازر، وأعمال التعذيب.
وكانت إحدى هذه المجازر عام 1980، في ذلك العام تعرض رئيس سوريا آنذاك حافظ الأسد إلى محاولة اغتيال فاشلة، وحمّل جماعة الإخوان المسلمين المسؤولية، فتوجهت في اليوم التالي وحدات كوماندوز من سرايا الدفاع، تحت قيادة رفعت الأسد نحو سجن تدمر، الذي كان يكتظ بالمعتقلين الإسلاميين، وتقول منظمة هيومن رايتس ووتش إنهم نفذوا إعدامات مباشرة لنحو ألف سجين.
وصفت حينها لجنة حقوق الإنسان التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، المجزرة بأنها تتعدى حدود جرائم القتل العمد المعاقب عليها بموجب قانون العقوبات السوري. وظلت هذه الجريمة محفوظة بالرغم من مناشدات اللجنة السورية لحقوق الإنسان بفتح تحقيق دولي بعد كشفها عن أسماء الضحايا، والمتورطين.
ومع بداية عام 2013، قام أحد المكلفين، الملقب بـ«قيصر»، بالتقاط الصور للمعتقلين الذين ماتوا تحت التعذيب في السجون السورية، بتهريب آلاف الصور خارج سوريا وإيصالها للكاتبة الفرنسية، جارانيس لوكين، التي ألفت كتاب «عملية القيصر»، الذي يوثق ضحايا جرائم التعذيب في سجون سوريا. قبل أن تظهر الصور على شبكة الإنترنت.
تعود الصور للمعارضين والمتظاهرين الذين اعتقلتهم السلطات السورية في 2011، إبان اندلاع الثورة السورية.
ورغم إدانة المجتمع الدولي للجرائم البشعة التي توثقها الصور المسربة، إلا أنه لحد الساعة لم تفتح المحكمة الجنائية الدولية قضايا في هذا الصدد، لكن بالمقابل هناك محاولات من محامين دوليين لتجهيز ملفات جنائية لمتابعة المتورطين بالمحاكم الدولية، كما يجري تحريك الملف من قبل القضاء الفرنسي.
تفسر جارانيس لوكن هذا الصمت، بأن «المجتمع الدولي يرى أن التدخل في سوريا مسألة معقدة جدًّا، فبالنسبة للمجتمع الدولي، سوريا دولة ذات سيادة، والأسد رئيس منتخب، وحتى وهو غير منتخب ديمقراطيًّا، فهو يحارب داعش وجبهة النصرة»، مُضيفة أن «سوريا القديمة تفككت بالفعل، فجزء من البلد يحكمه ممثلون عن النظام، وجزء آخر يحكمه الإسلاميون، وجزء آخر يحكمه الأكراد، وجزء صغير محكوم من المجموعات الثورية المسلحة المعتدلة».
وكانت الأمم المتحدة قد أصدرت تقريرًا، بمعزل عن صور قيصر المتعلقة بالتعذيب الممنهج في السجون السورية، أكدت فيه حدوث التعذيب والقتل.
إبادات جماعية واستعمال للكيماوي
في 21 أغسطس (آب)، وقعت إحدى أسوأ مجازر الحرب السورية المستعرة منذ اندلاعها، بريف دمشق، وتحديدًا في الغوطة الشرقية، ذهب ضحيتها مئات الأطفال والنساء.
في ذلك اليوم تعرض سكان المنطقة إلى قصف بصواريخ محملة برؤوس كيماوية، تسببت في مقتل نحو 1450 شخصًا، موثّقين بالاسم والصورة، معظمهم مدنيون من الأطفال والنساء، في زملكا والمعضمية وكفر بطنا ودوما وجسرين وعربين، قضَوا نحبهم بسبب الغازات السامة، بعد أن حصدهم الموت على حين غرة وهم نيام دون أن يشعروا، بالنظر إلى أن هذه الصواريخ لا تصدر صوتًا، ولا تحدث تدميرًا.
تقول منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير لها حول الحادثة، إن «كل صاروخ كان محملًا بـ55 ليترًا من غاز السارين»، وذكرت أن هناك صورًا لهذا النوع من الصواريخ بحوزة الجيش السوري، ما يؤكد بالنسبة إلى المنظمة، وبما لا يدع مجالًا للشك، أن النظام السوري هو من استخدم هذه الصواريخ. وتؤيدها في ذلك العديد من المنظمات الحقوقية.
بالمقابل، نفى النظام السوري مسؤوليته عن الجريمة، واتهم المعارضة «بالتسبب في الحادثة من أجل جلب تدخل عسكري خارجي».
بينما اكتفى تقرير المفتشين الدوليين التابعين للأمم المتحدة الذي صدر في 16 سبتمبر (تشرين الأول) 2013، بوصف الهجوم بأنه «جريمة خطيرة»، وشدّد على ضرورة تقديم المسؤولين عنها إلى العدالة في أقرب وقت ممكن، لكنه لم يحمل أي جهة مسؤولية الهجوم.
خلف الهجوم الكيماوي غضبًا سياسيًّا شديدًا لدى الإدارة الأمريكية وحلفائها الغربيين، حتى أن أصواتًا عديدة ارتفعت وسط الكونغريس الأمريكي، طالبت بضرورة التدخل العسكري لإسقاط نظام بشار الأسد، وبالفعل كاد التدخل العسكري أن يحدث لولا الصفقة التي حدثت بوساطة روسية، والتي مفادها نزع الأسلحة الكيماوية لدى النظام السوري، وهو ما رآه البعض تهربًا للإدارة الأمريكية من متابعة الجريمة.
ترى جارناس لوكين أن أوباما ارتكب خطأ بعدم تدخله في 2013 بعد ضربة الكيماوي، مفسرة ذلك بأنه «حرص على تنفيذ وعده الانتخابي بإنهاء التدخلات الأمريكية في الشرق الأوسط»، مضيفةً أن عدم التدخل كان له نتائج كارثية، حيث استغله «تنظيم الدولة» بتسويق نفسه كمدافع وحيد عن السنة؛ مما رفع بشكل كبير من أعداد جنوده وأتباعه.
وتستمر الحرب السورية المستعرة في حصد أرواح المدنيين حتى اليوم، حيث وصلت حصيلة ضحايا الحرب منذ انطلاق الثورة السورية إلى 450 ألف قتيل، ما يقارب المائة ألف منهم مدنيون، بينهم نساء وأطفال، وأكثر من مليوني سوري قد أصيبوا بجراح مختلفة وإعاقات دائمة، فضلًا عن تشريد نحو 12 مليونًا آخرين منهم، بين مناطق اللجوء والنزوح، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان.
في الوقت الذي فيه المجتمع الدولي ما يزال عاجزًا عن حل الأزمة السورية، بعد صعود نجم تنظيم الدولة وجبهة النصرة إلى الواجهة، ودعم روسيا لنظام بشار الأسد، وتورط الأطراف الإقليمية في حرب بالوكالة داخل سوريا، ليبقى المدنيون السوريون هم الخاسرون في هذه
علامات
editorial, إخوان سوريا, الأسد, الأسدب, التعذيب في سجون سوريا, الحرب السورية, بشار الأسد, تاريخ, حافظ الأسد, حلب, حماة, رفعت الأسد, سوريا, عائلة الأسد, مجازر الأسد, مذابح الأسد