بعد معركته الفاصلة التي لم تدم سوى نهار واحد، أعلن اللواء المتقاعد خليفة حفتر استعادته الكاملة لمنطقة الهلال النفطي -شمال شرق ليبيا- من قبضة عدوه إبراهيم الجضران، قائد حرس المنشآت النفطية الذي كان قد وعد حكومة الوفاق بتسليمها إدارة مينائي السدرة ورأس لانوف -أهم موانئ تصدير النفط- لكنّ «الجضران» لم يتلق دعمًا سياسيًا لا من حكومة طرابلس، ولا من المؤسسة الوطنية للنفط المعترف بهما دوليًا، لتنهزم قواته لاحقًا ويلوذُ هو بالفرار، ورغم رحيله إلا أنّ الأمور لم تسر على ما يرام بعد انتهاء المعركة.
فبعدما استعاد حفتر الهلال النفطي، فاجأ الجميع -أو غدر بهم بحسب بعض الروايات- وأعلن تسليم موانئ الهلال النفطي للحكومة المؤقتة في الشرق، بدلًا من حكومة الوفاق، وهي الخُطوة التي تقود كافة أطراف الصراع إلى مشهد مُعقّد لصالح حفتر بامتياز. التقرير التالي يوضح لك الأبعاد السياسية والعسكرية والاقتصادية للقرار الأخير، وكيف يُغير حفتر خريطة الصراع في ليبيا لصالحه.
الهلال النفطي.. كواليس المسرح أعظم من ويلات الحروب
التزمت حكومة الوفاق الوطني الصمت حيال عملية «الاجتياح المقدس» التي أطلقها حفتر، حتى أنّ فايز السراج هاجم إبراهيم الجضران وطالبه بالانسحاب من منطقة الهلال النفطي رغم وعود الأخير بتسليم المنطقة له بعد هزيمة قوات حفتر، حتى أنّ المؤسسة الوطنية للنفط الموجودة في طرابلس. هاجمت «الجضران» بعدما تعرضت نصف صهاريج التخزين في «راس لانوف والسدرة» إلى التدمير وفقدت نحو 400 ألف برميل من النفط، ليس هذا فقط؛ فوكالة «الأناضول» نقلت عن مصادر أن قوات عسكرية تابعة لحكومة الوفاق الليبية تمركزت على الطرق الصحراوية المحيطة بمدينة سرت -شرق طرابلس- لقطع إمدادات «الجضران»، ما يعني أنّ حكومة السراج التي ربما عقدت صفقة في السر بالتزامها الصمت، تعرضت على الأرجح لتآمر واضح في العلن.
والإقليم المُمتد في الشمال الليبي لمسافة 250 كم من بنغازي شرقًا إلى سرت غربًا يحوي في باطنه 80% من احتياطي النفط الليبي، ويمثل نحو 90% من مصادر الدخل موردًا شبه وحيد للاقتصاد الليبي، وسبق للكاتب الصحافي المصري محمد حسنين هيكل أن حرّضالحكومة المصرية على احتلال الشرق الليبي والسيطرة عليه بدعوى القضاء على المتشددين.
قصة السيطرة على الهلال النفطي تبدأ أواخر عام 2013؛ فالفوضى التي وصلت إلى اقتحام الوزارات الليبية على أيدي المُسلحين الذين جمعهم السلاح وفرقتهم العصبية القبلية والمطالب، حتى أنّ المؤتمر الوطني الليبي (البرلمان) الذي تصدر المشهد وقتها سيطر عليه التيارات الإسلامية التي أقصت أمامها جناحي الليبراليين والوسط، لتبدأ الدعوات الانفصالية والتحركات السريعة لإنشاء فيدراليات مستقلة، وكانت البداية بتشكيل حكومة برقة– شرق ليبيا- المكونة من «أجدابيا وبنغازي والجبل الاخضر وطبرق»، ونجح الزعيم القبلي «إبراهيم الجضران» الذي انضم للدعوات الانفصالية في السيطرة على الهلال النفطي، وفي تلك الأثناء قرر المؤتمر الوطني -الذي أقرّ الشريعة الإسلامية– مدّ ولايته لمدة عام، لكنّ «الجضران» انشق عن الحكومة المؤقتة وشرع في تصدير النفط لحسابه الخاص، قبل أن يقرر مجلس الأمن منع خروج النفط من البلاد بطريقة غير مشروعة، لتتوقف نصف صادرات البلاد، وتدخل ليبيا في أزمة اقتصادية خانقة.
أثار قرار تمديد المؤتمر الوطني ولايته غضب حفتر الذي قام بمحاولة انقلاب فاشلة بداية عام 2014، لكنه فجأة غيّر خططه وتحالف مع «الجضران» الذي يُسيطر على مصافي النفط ويشاركه العداء ضد إسلاميي الغرب، لكنّ التحالف سُرعان ما انتهي بالخذلان، فحفتر رفض مساعدة الحضران في التصدِّي للهجوم الذي شنه «تنظيم الدولة الإسلامية» في ليبيا على مصافي النفط، لكنّ قوات حرس المنشآت النفطية تمكنت في النهاية من هزيمة التنظيم، وفي يوليو (تموز) من عام 2016، توّصل الجضران إلى اتفاق مع حكومة الوفاق الوطني المدعومة دوليًا برئاسة فايز السراج برعاية الأمم المتحدة، يقضي باستعادة الحكومة السيطرة على موانئ النفط وبدأ تصديره مرة أخرى في مقابل قيام الحكومة بدفع رواتب شهرية لأفراد قوات حرس المنشآت النفطية التي أصبح لها وجود رسمي مُعترف به.
وبعد شهرين فقط في سبتمبر (أيلول)؛ انتقم حفتر وأعلن سيطرته على منطقة الهلال النفطي، لكنّ المثير أنّ اللواء المتقاعد الذي يمتلك حقلًا نفطيًا واحدًا في مدينة طبرق يحتاج إلى الهلال النفطي لدفع تكاليف عملياته العسكرية سلّم الموانئ النفطية لحكومة الوفاق، واستمرت عمليات تصدير النفط من دون أن يحصل على أي مكاسب اقتصادية؛ لكنّ الأوضاع تغيرت منذ العام 2011، وحتى الآن؛ فبعدما أصبح يسيطر على الشرق الليبي بكامله لم يعد هناك سبب لكي يفي بوعوده.
حكومة الوفاق.. ماذا تبقى بعد خسارة النفط؟
قرار حفتر من شأنه أن يزيد المشهد تعقيدًا؛ والخريطة الليبية لكي تتضح أكثر لا بد أن نذكر أنّ هناك بنكين مصرفيين، ومؤسستين وطنيتين للنفط إحداها في طرابلس معترف بها، والأخرى موازية في بنغازي وتابعة لحفتر؛ إضافة إلى ثلاث حكومات تقاتل فيما بينها لانتزاع شرعية الحُكم؛أولها حكومة الوفاق الوطني المُعترف بها، برئاسة فايز السراج، وتحظى بدعم الأمم المتحدة بعد توقيع اتفاق الصخيرات عام 2015، والحكومة المؤقتة في طبرق -أقصى الشرق- المنبثقة عن البرلمان، ويترأسها عبد الله الثني، وتضع ولاءها تحت قيادة المشير حفتر، وفي الغرب حكومة الإنقاذ التي يترأسها خليفة الغويل وانبثقت عن المؤتمر الوطني، ويُسيطر عليها الإخوان المسلمين.
(رئيس حكومة الوفاق فايز السراج)
وبحسب قرار الأمم المتحدة، فإنّ المؤسسة الوطنية في طرابلس برئاسة مصطفى صنع الله، هي الجهة الوحيدة المخولة بإدارة المرافق النفطية، وهي جهة سيادية تابعة لحكومة الوفاق، لذا اعتبرت المؤسسة الوطنية إقدام السلطات الموازية في حكومة طبرق على تصدير النفط من منطقة الهلال النفطي أمرًا غير قانوني، كما حذرت حكومة الوفاق من أنها ستلجأ لمجلس الأمن لوقف أية عمليات تصدير لأنها الجهة الوحيدة المخوّل لها إبرام العقود والصفقات.
ورغم أنّ قرار حفتر يخالف القانون الدولي، إلا أنه يستند في قراره إلى كون عائدات النفط تذهب في النهاية بحسبه إلى المليشيات المُسلحة التي يُقاتلها ضمن عملية الكرامة، وهو مبرر أخلاقي في نظره يزيد الأمور تعقيدًا، لأنّ المؤسسة النفطية في طرابلس مُعترف بها لدى «أوبك»، ما يعني أنّ حفتر لن يكون قادرًا على تصدير النفط عبر الطرق الشرعية، من جهة أخرى ستكون حكومة الوفاق في أزمة اقتصادية كبرى نتيجة توقف عمليات التصدير التي تمثل عائداتها نحو 88% من الدخل القومي، أي أنّ حكومة الوفاق من المنظور السياسي فقدت جزءًا من شرعيتها بعد خسارة النفط رغم الاعتراف الدولي.
أزمة الاستحواذ على النفط ليست جديدة؛ فسبق للجضران أن تسبب في توقف تصدير النفط نحو أكثر من عامين، حتى أجبر الأمم المتحدة وحكومة الوفاق على الاعترف به قائدًا لحرس المنشآت النفطية، إضافة لدفع رواتب قواته التي أصبح لها وجود رسمي، مقابل استعادة موانئ النفط وبدء تصديره مرة أخرى، لكنّ طموح حفتر يتجاوز الهلال النفطي، وسبق له أن حاول في عام 2016 بيع نحو 300 ألف برميل بشكل مستقل لكنه فشل بعد تدخل الأمم المتحدة، ما يعني أنّ خطوته الحالية لم يكن يقصد بها في الأساس السيطرة على النفط بالمعنى الاقتصادي، لأنها معركة سيخسرها بسهولة في حال تدخل مجلس الأمن، خاصة بعد تنديد ست دول بمعركته الأخيرة هي الولايات المتحدة وألمانيا وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا، لكن يبدو أنّه درس خُطواته جيدًا، رغم اتهامات أعدائه له.
لن يكون أمام حكومة الوفاق سوى البدء بالوساطات العربية؛ فبعد ساعات من القرار، طار وزير الخارجية التونسي – المقرب من حكومة طرابلس- إلى طبرق في محاولة للوصول لتسوية، وفي نفس التوقيت كان أحد أعضاء حكومة الوفاق قد كشف أنّ مصر طلبت من المشير حفتر التراجع عن قراره بخصوص الهلال النفطي، لكنّ تسريباته سُرعان ما بدت غير منطقية، بعدما رحّب الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط بنجاح العملية العسكرية في الهلال النفطي متجاهلًا القرار الأخير والأزمة التي ترتبت عليه، ما بدا أنه ترحيب واصطفاف عربي بمحاذاة قائد الجيش الليبي.
وبالنسبة لحكومة الوفاق، فلا يبدو أنها تمتلك ورقة ثمينة سوى استصدار قرار إدانة من مجلس الأمن لمنع حفتر من تصدير النفط، وهو الذي سيؤثر أيضًا عليها خاصة أنها ليست مدعومة من دول عربية وأجنبية مثل اللواء المتقاعد، إضافة إلى الأزمة الاقتصادية الحالية بسبب تمديد العقوبات المفروضة على ليبيا حتى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الحالي.
الرابحُ يبقى وحيدًا.. كيف أطاح حفتر بكافة المبادرات السياسية؟
عندما تحوّلت إدارة المنشآت النفطية من المؤسسة الوطنية في طرابلس إلى الكيان الموازي لها في بني غازي، فهذا يعني أنّ حفتر ضرب ببنود المبادرة الفرنسية الأخيرة عرض الحائط، وهي التي نصت على الاتفاق على الحل السلمي للأزمة، وإنهاء المؤسسات الموازية إضافة للاعتراف بالدستور الذي صاغته الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور، ووقف إطلاق النار، وتوحيد الجيش الليبي والوصول إلى إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية قبل نهاية العام الجاري.
حفتر أيضًا بهذا القرار، قد أطاح فعليًا بحكومة الوفاق الوطني، وباتفاق الصخيرات الذي نص على أن تكون المؤسسة الوطنية للنفط في طرابلس هي الجهة الوحيدة المسؤولة عن المصافي النفطية، ويجب التوضيح أولًا أنّ اتفاق الصخيرات -المبادرة السياسية الأهم في تاريخ الأزمة الليبية- تم توقيعه عام 2015 في المغرب، وشمل معظم أطراف الصراع الليبي برعاية الأمم المتحدة، وانتهى بتوقيع برلمانيين وبعض أطراف الصراع على اتفاق ينص على تشكيل حكومة توافق وطني تقود مرحلة انتقالية من عامين، وتنتهي بإجراء انتخابات تشريعية؛ وهو ما أسفر عن تشكيل حكومة فايز السراج الحالية، والتي تحظى بدعم الأمم المتحدة، لكنّ الاتفاق في نفس الوقت يعترض عليه المشير حفتر الذي لا يتعرف أصلًا بوجود حكومة السراج، كما أنّ المجلس الرئاسي ورئيس البرلمان الليبي له تحفظات عليه.
وقبل المبادرة الفرنسية التي عقدت في مايو (أيار) الماضي، لم يكن قائد الجيش الليبي فعليًا يحظى بأي اعتراف دولي بخلاف عملية الكرامة التي أكسبته دعمًا دوليًا محدودًا، لكنه عندما ظهر جنبًا إلى جنب بجوار أطراف الصراع رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، ورئيس مجلس الدولة خالد المشري، أصبح حفتر لأول مرة يحظى بشبه اعترافٍ دولي نادر بوجوده رغم أنه لم يكن ضمن اتفاق الصخيرات، وما حدث في النهاية أن أطراف الأزمة اتفقوا «شفاهةً» على عدة بنود لم يُنفذ منها أي وعدٍ حتى الآن.
وبعدما ذهبت إدارة الهلال النفطي إلى حكومة طبرق، التي تحظى بدعم 21 حكومة ومنظمة دولية، ما يجعل إسناد عمليات تصدير النفط إلى المؤسسة الموازية في بنغازي كيانًا أكثر تهديدًا لاتفاق الصخيرات ولحكومة الوفاق التي ستقف عاجزة أمام القرار، إضافة للمبادرة الفرنسية التي كان حفتر هو الرابح الوحيد فيها كما يبدو حتى الآن، والأزمة الحالية تزيد الشكوك من احتمالية تنفيذ الوعود بإقامة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية نهاية العام الجاري، وبذلك أطاح حفتر بكافة المبادرات الدولية بعدما قام بانقلاب نظيف على حكومة الوفاق.
كيف سيبدأ الفصل الأخير في قصة الصراع الليبي؟
كان الهلال النفطي بحوزة حفتر منذ أواخر عام 2016، لكنه لم يكن قادرًا على اتخاذ قراره الأخير قبل السيطرة على مدينة درنة -معقل الإسلاميين في الشرق- وهو الآن بات على مشارف أمتار من تحرير المدينة، ليصبح الشرق الليبي بعد تعزيز صلاحيات حكومة طبرق وبسط سيطرة الجيش الليبي مُستعد لطموح حفتر.
تشير التوقعات، إلى أنّ حفتر لن يتجه إلى طرابلس محطته الأخيرة التي أعلن مرارًا أنه يُخطط لدخولها، لكنه في مقابل ذلك عليه السيطرة على الجنوب الليبي أولاً إلى جانب الشرق، وتأجيل المنطقة الغربية لتكون المحطة الأخيرة والفاصلة، ويسيطر حفتر على عدة مدن في الجنوب أبرزها سَبها والكفرة والجفرة، بالإضافة إلى المناطق الحدودية مع مصر والسودان وتشاد، ومؤخرًا أطلق الجنرال الليبي عملية «فرض القانون» لاستعادة ما تبقى في الجنوب الليبي بمساعدة مصرية إماراتية فرنسية، بحسب تسريبات.
ولم يعد يتبقى في الخريطة سوى المناطق التي تسيطر عليها حكومة طرابلس في الغرب الليبي بداية من سرت -شرق طرابلس- التي كانت معقلًا لتنظيم الدولة مرورًا بالعاصمة طرابلس ومصراتة وحتى حدود تونس، ولا ينازعها في تلك المناطق سوى «حكومة الإنقاذ الوطني» الإسلامية التي تسيطر على مساحات صغيرة، إضافة إلى وجود بعض المناطق خارج سيطرة الجميع، ويوجد أيضًا قوات خارج نطاق السيطرة أبرزهم «مجلس شورى أجدابيا» -أكبر مدينة في الهلال النفطي-، و«سرايا الدفاع عن بنغازي».
ورغم أنّ المبادرة الفرنسية حددت سابقًا بعد اتفاق الأطراف سير العملية السياسية في ليبيا، إلا أنّ العمليات العسكرية التي يقودها حفتر تمهيدًا لفرض نفسه بسياسة الأمر الواقع قبل الانتخابات الرئاسية تحكي الفصل الأكثر واقعية والأخير في القصة.
علامات
السراج, المؤسسة الوطنية للنفط, المبادرة الفرنسية, الهلال النفطي, حفتر, حكومة الوفاق, حكومة طبرق, درنة, طرابلس, فرنسا, ليبيا