غضب مرتين؛ مرة حين عاد من رحلة علاجه التي استمرت 17 يومًا؛ ليتفاجأ بأنّ حليفه رئيس مجلس النواب عقيلة صالح استغل غيابه، وعقد صُلحًا مُنفردًا مع عدوه الإسلامي خالد المشري رئيس مجلس الدولة الليبي، في خُطوة كادت أن تجمع شتات الشرق بالغرب، لولا أنّ حفتر عاد من الموت؛ ومرة أخرى حين فشلت قواته في السيطرة على مدينة «درنة» العصية التي تأبى على الخضوع لمدة ثلاث سنوات من المحاولات الفاشلة؛ ليضطر المشير إلى الذهاب إلى فرنسا لحضور المبادرة الفرنسية – قبل أسبوعين – التي جعلته يجلس جنبًا إلى جنب مع أعدائه (رئيس حكومة الوفاق فايز السراج، وخالد المشري)؛ ليضطر إلى القبول – شكليًا – ببنود الاتفاقية التي يعترض عليها.

لكن فجأة تتغير الأوضاع، وتسقط مدينة درنة معقل الإسلاميين، وآخر الحصون في الشرق الليبي، ويبسط المشير أخيرًا سيطرته على ثلاثة أرباع المدينة، ثم يبتسم في النهاية، فرغم أنه بلغ 75 عامًا، إلا أنّ حُلمه في الوصول للرئاسة بدأ يقترب من التحقق للتو، وأن انتصاره الأخير لن يجعله يقبل بالجلوس مرة أخرى على مائدة التفاوض مع أحد.

هذا التقرير يوضح لك كيف تدفع التطورات العسكرية الأخيرة إلى رسم مشهد أُحادي لحفتر؛ ليصبح ربما الرئيس الليبي القادم.

درنة ليست طرابلس.. لماذا كل هذه الضجة؟

أعلن حفتر الشهر الماضي بدء معركة السيطرة على درنة، وهي المدينة الوحيدة الخارجة عن سيطرة قوات حفتر في الشرق الليبي، بعدما سيطر على مدينة بنغازي في يوليو (تموز) العام الماضي بعد معارك طويلة، ورغم أنّ درنة ليست بأهمية العاصة طرابلس ولا بنغازي، إلا أنها آخر الحصون الصعبة التي طالما فشل القصف الجوي والعمليات العسكرية البرية في  إخضاعها بسبب ديموغرافيتها الصعبة وموقعها بين الجبال والبحر؛ لكنّ حفتر ظهر قبل ثلاثة أسابيع، وأعلن قائلًا: «قريبون من تطهير درنة»، وهو الخطاب الذي قوبل بالتشكيك، قبل أنّ يُعلن الجيش الليبي التابع لحفتر رسيمًا قبل أيام سيطرته على ثلاثة أرباع المدينة، وهي الصدمة التي فاجأت الجميع.

ويسيطر على المدينة «مجلس شورى مجاهدي درنة»، وهو مجموعة من التحالفات لكتائب إسلامية تكتسب شعبية وحضورًا كبيرًا  على الأرض تناصب حفتر العداء من جهة، ولا تعترف بأي من الحكومات الثلاث التي تتصارع على الحكم في ليبيا من جهة أخرى، وتشكل المجلس في ديسمبر (كانون الأول) عام 2014، بعد ستة أشهر من إطلاق حفتر عملية الكرامة التي استهدفت الإسلاميين في الشرق الليبي بداية من مدينة بنغازي؛ وحفتر يستند إلى مبرر أخلاقي في كل معاركه بشأن محاربة الإرهاب، إلا أنّ المليشيات الإسلامية في درنة تقول إنها دحرت تنظيم الدولة وطردته من المدينة عام 2015، فكيف يتهمها حفتر بدعم الإرهاب، المثير للجدل أنّ الجيش الليبي فتح ممرات آمنة لمسلحي التنظيم بعد خروجهم من المدينة، حيث عبروا مناطق سيطرته على طول مئات الكيلومترات، دون أن يعترضهم أحد.

وظلت المدينة الساحلية صامدة رغم قيام الجيش الليبي بمحاصرتها من الشرق والغرب والجنوب، كما أنهم قطعوا عنهم الإمدادات والغذاء ولكن دون جدوى، وفي فبراير (شباط) عام 2015، قصفت الطائرات المصرية المدينة بدعوى استهداف متطرفين، الأمر نفسه تكرر العام الماضي، وبررت الخارجية المصرية اختراقها الحدود الليبية بموافقة الجيش الليبي، ورغم القصف الجوي المصري الذي تكرر مع وجود اخبار عن مشاركة طائرات إماراتية، إلا أنّ درنة حتى ذلك الوقت كانت حُلمًا صعب المنال، منع حفتر من أن يُعلن نفسه مسيطرًا على الشرق الليبي بأكمله.

اللافت للنظر، أنّ المبادرة الفرنسية الأخيرة التي حضرها كافة أطراف الصراع (رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج وقائد الجيش الوطني، المشير خليفة حفتر، ورئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، ورئيس مجلس الدولة خالد المشري)، سلطت الضوء على أحداث درنة، حيث طالب السراج والمشري بتوقف العمليات العسكرية وفتح ممرات آمنة للمدنين، إلا أن الرئيس الفرنسي الذي قدم مساعدات عسكرية لحفتر في معركته الأخيرة، بحسب ما كشفه موقع «أفريكا إنتيليجانس» الفرنسي، تجاهل إدارج المطالب في بنود اتفاقية باريس الأخيرة، بل إنه أعطى شرعية دولية للعمليات العسكرية انتصارًا لحليفه الذي يعلمُ وجهته جيدًا بعد إتمام سيطرته على درنة.

الطريق إلى طرابلس.. طبول المعركة قُرعت قبل عام

بحسب التسريبات التي نقلها موقع «الجزيرة» من صادر عن المبعوث الدولي لليبيا غسان سلامة، فإن درنة لم تكن أولوية لدى حفتر، وأنه كان يرغب في التوجه لمهاجمة طرابلس أولا، يضيف المصدر: «لكنّ مصر هي من أجبرته للزحف نحو درنة»،  ويكمن اختلاف وجهات النظر في أنّ حفتر كان يرى أنّ الحصار البري والبحري الطويل كافيًا لتحقيق أغراضه، دون الوقوع تحت انتقادات الأمم المتحدة بشأن الوضع الإنساني، لذا كان الأسهل له أن يتوجه نحو  العاصمة طرابلس، حيث حكومة الوفاق المعترف بها دوليًا، والتي لا تعترف به لانتزاع اعتراف من مؤسسات الدولة بشرعيته، تمهيدًا للمرحلة المقبلة.

من جهة أخرى كانت وجهة النظر المصرية ترى أنّ حفتر يجب عليه بسط نفوذه على الشرق الليبي لانتزاع درنة أولًا، ثم يتوجه إلى طرابلس؛ ليروج لنفسه بأنه القائد الذي يحارب الإرهاب وينتصر في المعارك، ويصبح صاحب الوجه المقبول دوليًا والمدعوم عربيًا صاحب الحظ الأقرب للفوز بالرئاسة، ولكنّ كيف السبيل إلى ذلك وطرابلس لازالت بعيدة.

حُلم الوصول للرئاسة يداعب حفتر منذ عام 2014، فبعد ثلاث سنوات من الفوضى نجحت الأمم المتحدة في الوصول أخيرًا إلى تفاهمات سياسية الأهم في تاريخ الأزمة، وكان يُسيطر على المشهد وقتها المؤتمر الوطني الليبي (البرلمان المؤقت) المُنتخب، والذي تمثلت صلاحيته حينها باختيار رئيس الوزراء، والاتفاق على الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور، لكنّ حفتر يخشى أن يخرج خاوي اليدين من الاتفاق الدولي، فيقوم بانقلابٍ عسكري في فبراير (شباط) من نفس العام، ويُعلن تجميد عمل المؤتمر الوطني والحكومة، لكنّ الانقلاب يفشل ولا يستطيع المشير أن يدخل طرابلس.

بعد ثلاثة أشهر من محاولة الانقلاب، تأتي لحفتر فكرة ملهمة ستتحول إلى مشروع سياسي طيلة السنوات اللاحقة؛ فيعلن عن إطلاق عملية الكرامة بدعوى محاربة الإرهاب، وإعادة الاستقرار، ورغم نجاحاته العسكرية على الأرض وسيطرته على مساحات شاسعة من الشرق الليبي، إلا أنّه خسر سياسيًا بتوقيع «اتفاق الصخيرات»، وتتشكل حكومة وفاق وطني مُعترف بها دوليًا برئاسة فايز السراج، ويقرر عدم الاعتراف، لا بالاتفاق، ولا بالحكومة، وتبقى قواته مُسيطرة على الشرق الليبي، وعينه على العاصمة، لكن الحكومة أيضًا لا تعترف به قائدًا للجيش.

ورغم كل المبادرات العربية والدولية التي سعت للتقارب بين الرجلين، إلا أنها كلها باءت بالفشل، وسبق لحفتر في يوليو (تموز) العام الماضي أن أعطى المجلس الرئاسي لحكومة السراج مهلة ستة أشهر لعودة الاستقرار للبلاد، وحين رد عليه السراج بأنه لا يستطيع دخول طرابلس، أجابه حفتر: «أنت لا تملك المدينة ولا تسيطر عليها»، وكان المشير صادقًا في النصف الثاني من تحذيره، فانتشار السلاح وانقسام الميليشيات المُسلحة المسيطرة فعليًا على العاصمة، إضافة إلى الوضع الاقتصادي المتأزم تزامنًا مع صعود تيار الإسلام السياسي ممثلًا في أتباع نهج جماعة الإخوان المسلمين، دفع السراج ذا الخلفية الليبرالية لتقديم عرض للرجل العسكري مفاده  تقاسم السلطة مناصفة بين الطرفين، وتشكيل حكومة أزمة مصغرة ويحتفظ حفتر فيها بمنصبه، ويبقى الرجلان في طرابلس، لكنّ الأخير رفض عرضه، بحسب تسريبات.

ولم يتبق الآن أمام الطموح الحفتري، سوى أن يبسط سيطرته بالكامل على «درنة»، ثم يتوجه لاحقًا بجيشه صوب طرابلس، وأسباب المعركة مُعلنة منذ العام الماضي،«إسقاط الحكومة والبرلمان ومحاربة الإرهاب وإنقاذ الشعب الليبي» وفي حال نجح فإن موازين القوى الليبية ستنقلب لصالحه.

المبادرة الفرنسية وطموح حفتر.. من يُطيح بالآخر؟

 ليبيا ليست مستعدة بعد للديمقراطية *حفتر

في حديثة  لمجلة «جون أفريك» الفرنسية أكد قائد الجيش الليبي أنه عازم على توحيد ليبيا تحت سلطته، قائلًا: «حتى ولو اقتضى الأمر إلى القوة»، المثير أنّ الرجل الذي يسيطر على جيش قوامه 35 ألف مقاتل يعتقد أن ليبيا ليست مستعدة للديمقراطية بعد، وعلى الأرجح أنه يعتقد أن التصعيد العسكري هو الحل الأسهل لتحقيق طموحه.

Embed from Getty Images

ويجب التوضيح أنّ الانقسام السياسي والصراع العسكري في ليبيا لم يحسم لصالح الطرف الأقوى بعد سبع سنوات من الثورة؛ فحفتر لم يستطع دخول طرابلس، كما فشل في القضاء على التيارات الإسلامية، والأراضي الليبية الآن باتت مُوّزعة بين ثلاث حكومات تقاتل فيما بينها لانتزاع شرعية الحُكم؛ ففي العاصمة طرابلس تُسيطر حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًا منذ عام 2016، كما أنها تحظى بدعم الأمم المتحدة، ويرأسها فائز السراج المنتمي لتحالف القوى الوطنية، هناك أيضًا حكومة الإنقاذ التي يترأسها خليفة الغويل، عضو حزب «العدالة والبناء»، الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين، ورغم أنها لا تحظى بدعم دولي، إلا أنها تسيطر على أجزاء كبيرة من غرب وجنوب ليبيا، وفي أقصى الشرق توجد حكومة طبرق، ويترأسها عبد الله الثني، وتضع ولاءها تحت قيادة المشير حفتر، كما يوجد برلمانان متنافسان، وبنكان مركزيان، وعشرات الجماعات المسلحة التي تدعم أطرافًا على حساب آخرين، ولا يوجد دستور للبلاد حتى الآن.

الأزمة السياسية تعاقبت عليها الأمم المتحدة، وحملت ليبيا الملف الليبي لسنوات لكنها عجزت عن إنهاء الوضع بسبب تقاطع المصالح الدولية في ليبيا؛ ومؤخرًا حملت فرنسا عبء المفاوضات، ففي مايو (أيار) الماضي نجح الرئيس الفرنسي في جمع الفرقاء للتوصل إلى اتفاق حول موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية لتكون في سبتمبر (أيلول) القادم، كما أنهم اتفقوا على أنّ يكون حل الأزمة الليبية سياسيًا فقط، وهي نفسها الشروط التي لا يقبلها حفتر، وهي من جهة أخرى اتفاقية غير ملزمة له؛ لأنه لم يوقع عليها، كما أنّها أتي برعاية فرنسية، وليس من الأمم المتحدة مباشرة.

ليس هذا فقط، المشير خليفة حفتر يرفض أيضًا قرار المحكمة الإدارية العليا – أعلى هيئة قضائية في البلاد – والتي حددت أن الدستور سيسبق الانتخابات، وفي الوقت الذي جلس فيه حفتر على مائدة واحدة مع السراج وخالد المشري، إلا أنه لا يعترف برئيس الحكومة، ويرى السراج المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين بأنه أحد الإرهابيين الذين يجب القضاء عليهم من وجهة نظره، لذا فبمجرد أن يصل الجيش الليبي إلى طرابلس، فإنّ كل الاتفاقيات ستتحطم، وسيكون في مواجهة مباشرة مع الإسلاميين في الصراع على المدينة.

ويجب التوضيح أنّ المليشيات الإسلامية التي تُسيطر على غرب ليبيا رفضت حضور المبادرة الفرنسية بدعوى أنها توطن حكم العسكر وضد مدنية الدولة، لذا ففي كل الحالات ستفشل المبادرة التي وافق الجميع عليها شفاهة حتى الآن، لكنّ أحدًا لن يرفضها علانية، سوى حفتر حين يتخذ القرار السهل ويُحّرك قواته نحو العاصمة، وهو ما سيضعه في مواجهة مباشرة مع الإسلاميين، وأبرزهم قوات البنيان المرصوص التي تحمي حكومة السراج.

كيف تتغير خريطة ليبيا بانتصارات حفتر؟

حين طالت الرحلة العلاجية لحفتر في فرنسا، وظنّ الجميع أنه مات، بدت على الساحة تقاربات سياسية كانت مستحيلة من قبل؛ فرئيس البرلمان الليبي في طبرق عقيلة صالح أبرز حلفاء المشير، قام بلقاء خالد المشري في المغرب، ورغم أنّ مجلس النواب الليبي في طبرق لا يعترف بالمجلس الأعلى للدولة في طرابلس، إلا أن اللقاء جرى بنجاح؛ حيث جرت تفاهمات بشأن قضايا محورية أبرزها تعديل المجلس الرئاسي، وتشكيل حكومة جديدة، وإصدار قانون الاستفتاء على الدستور من البرلمان، كما أنه تم الاتفاق على أن أن يعود الجانبان لطرح نتائج الاجتماع في جلستين عامتين منفصلتين لكل من المجلس الأعلى ومجلس النواب.

وبعد عودة حفتر انتهت كل التقاربات، لكنّ المشري جدد دعوته مؤخرًا لرئيس النواب بشأن استكمال المسار السياسي بعد الفتور الذي ضرب حفتر وصالح، من جهة أخرى يبدو السراج في حاجة لترتيب أوراقه والتعاون أكثر مع جماعة الإخوان المسلمين التي تنتقد علانية أية محاولة للتقارب بين حفتر أو السراج.

في الوقت الذي يرى فيه حفتر ضرورة القضاء على التنظيمات الإسلامية، كان رئيس حزب العدالة والبناء الليبي، قد توصل الشهر الماضي إلى توقيع ميثاق شرف للعمل السياسي بين عدد من التنظيمات والأحزاب السياسية بينهم تحالف القوى الوطنية – يتبعه السراج – حيث اتفقت على مبادئ منها «مدنية الدولة، والتداول السلمي على السلطة، والاحتكام لصندوق الانتخاب وتحييد المؤسسة العسكرية»، ما يبدو أنه تحالف موازي ضد تحركات المشير حفتر.

والتقارب بين التيارات السياسية يبدو أكثر مرونة وتفاهمًا من التعاون مع الجنرال العسكري، ورغم أنّ الليبراليين يسيطرون على حكومة الوفاق، بينما الإسلاميون يسيطرون على حكومة الإنقاذ، ورغم اتهامات الإرهاب التي تُتهم بها الجماعة، إلا أنّ التيارات الليبرلية لم تتخذها ذريعة للاعتراض على نتائج انتخابات المجلس الأعلى للدولة في ليبيا التي فاز بها خالد المشري، رئيس المكتب التنفيذي لحزب «العدالة والبناء» للإخوان المسلمين؛ وفي الوقت الذي يدفع فيه حفتر أعداءه خارج المشهد، لا يبدو أنه سينتصر بالحل السياسي.

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد