مرت تسعة أشهر على تنصيب هيثم بن طارق آل سعيد سلطانًا لعُمان، خلفًا لابن عمه الراحل قابوس بن سعيد، التزامًا بوصية الأخير الذي حكم سلطنة عُمان لنحو نصف قرن.
وتدفع التحولات الكبرى التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط والتغيرات التى أصابت العلاقات بين الممالك الخليجية، نحو التساؤل عن طبيعة دور السلطان الجديد خلال هذه الفترة، وملامح سياسته في الداخل والخارج، وسط هذه الأمواج المتلاطمة، التي تحيط به من كُل الجوانب.
يحاول التقرير التالي التعرف إلى الخطوط العامة لنمط حُكم السلطان هيثم بن طارق آل سعيد، وإذا كانت تتفق أو تختلف مع منهاج حُكم السلطان الراحل، قابوس بن سعيد، الذي عزز دور بلاده وسيطًا في أبرز نزاعات المنطقة.
في الداخل.. تخفيض سلطات هيثم بن طارق
خلال الشهور التسعة الماضية، كشفت سياسة السلطان هيثم بن طارق في الداخل العماني عن تباين كبير بين منهج حُكمه ومنهج السلطان الراحل قابوس؛ إذ طرأ على نمط الحكم تغييرات كُبرى، تحديدًا فيما يتعلق بفكرة استئثار السلطان بكُل الصلاحيات والسلطات.
شرع السلطان الجديد في تجريد نفسه مما يراه البعض «أسلوب الحكم الشخصي»، عبر سلسلة مراسيم جديدة تنازل بموجبها عن مناصب وزير الدفاع، ووزير الخارجية، ووزير المالية، ورئيس المصرف المركزي، ومنحها لمسؤولين آخرين، مع توسيع صلاحيات الوزراء ومساعديهم، إلى جانب استحداث مناصب جديدة بعدد من الوزارات السيادية.
وقبل توزيع سلطات السلطان على نواب له، أصدر في 28 يناير (كانون الثاني) الماضي تعميمًا بإلغاء جميع الألقاب التي تطلق عليه، مثل السلطان المعظم، وجلالته، واعتماد مسمى «سلطان عمان» فقط فى جميع الخطابات الرسمية.
وخلال العقود التي قاد فيها السلطان قابوس حُكم بلاده، كانت عملية صناعة القرار وسلطات بلاده مرتبطة بشخصه؛ فهو صانع القرار الوحيد، الذي يستحوذ على السلطات كافة بشغله مناصب رئيس الوزراء، والقائد الأعلى للقوات المسلحة، ووزير الدفاع، ووزير المالية، ووزير الخارجية طوال فترة حُكمه.
ووفقًا للنمط الجديد، توسعت دائرة الاختيار للمناصب الوزارية المهمة لأشخاص من خارج العائلة المالكة، أمثال سعيد الصقري وزير الاقتصاد، قيس اليوسف وزير التجارة والصناعة وترويج الاستثمار، ليلى النجار وزيرة التنمية الاجتماعية، خلفان الشعيلي وزير الإسكان والتخطيط العمراني. حتى إن وزير الخارجية الذي فوضه السلطان بصلاحيات وسلطات لإدارة سياسة البلاد الخارجية، ينتمي لفرع بعيد عن الأسرة الحاكمة.
ترسم كافة التحولات السابقة صورة أعم لنمط حُكم السلطان الجديد، الذي يسعى من خلال هذه التغييرات لمحو الصورة السابقة عن «أسلوب الحكم الشخصي للغاية الذي كان قائمًا في عهد السلطان الراحل قابوس، والانتقال نحو نموذج أكثر مؤسسية»، بحسب دراسة صادرة عن معهد واشنطن للأبحاث والدراسات السياسية.
ورأت الدراسة، التي كتبتها الباحثة إلينا ديلوجر، أن طبيعة الاختيارات تفسر جانبًا من طريقة تفكير السلطان الجديد في «تقليص حجم الحكومة، وتنصيب حكومة تكنوقراطية ذات خبرة لافتة للنظر، وتفويض صلاحيات كبيرة لبعض الوزراء».
نخبة حُكم جديدة بخلفية تجارية.. ونجل السلطان على بداية الطريق لولاية العهد
دفع السلطان هيثم بن طارق بوجوه جديدة في مناصب رسمية بسلطات واسعة؛ ساعيًا من ورائها لتشكيل طبقة حُكم جديدة بعيدة عن الوجوه التي ارتبطت بحقبة السلطان الراحل قابوس، الذين كان بعضهم على خلاف واسع مع السلطان هيثم.
كان على رأس من دفع بهم السلطان للواجهة، شقيقه شهاب بن طارق، الذي اختاره نائبًا لرئيس الوزراء لشؤون الدفاع، بسلطات واسعة تجعله وزيرًا فعليًّا، بعدما أحال بدر بن سعود البوسعيدي للتقاعد، وهو الذي شغل المنصب نفسه.
ويرتبط اسم بدر بن سعود بأخي السلطان غير الشقيق، أسعد بن طارق، الذي كان نائب السلطان قابوس لشؤون العلاقات والتعاون الدولي، وصاحب العلاقات الوثيقة مع القبائل والمتمتع بموقع نافذ داخل الأسرة الحاكمة، والمُرشح الأول لخلافة قابوس قبل أن يصعد هيثم بناء على وصية السلطان الراحل، ليهمِّش من صلاحياته كافة بعد تصعيد وزير جديد في الخارجية، ويزيد من هذا التهميش بإطاحة بدر بن سعود، والد زوجته، وصاحب النفوذ الأكبر في القوات المسلحة.
صعد أيضًا للواجهة في نخبة الحُكم الجديدة بدر بن حمد البوسعيدي، لينال منصب وزير الخارجية الجديد بديلًا ليوسف بن علوي، أحد أبرز رجال السلطان قابوس، الذي ظل مهندسًا لسياسة بلاده الخارجية لنحو 23 عامًا، وحظي بحضور نافذ في الأوساط الحاكمة، وثقة كبيرة من السلطان الراحل.
«خنجر السياسة العمانية»، كما ذاع صيت يوسف بن علوي، لم يستمر في منصبه في عهد السلطان الجديد، الذي أصدر قرارًا بإقالته.
وتعددت التكهنات حول أسباب إقالته، من الخلافات القديمة بينه وبين السلطان عندما كانا في وزارة الخارجية، إلى انتشار تسجيلات نُسبت إلى الوزير ابن علوي اتُهم على أثرها بما وصف بـ«التآمر» ضد دول خليجية.
ويقول مارك جوناثان سييفرز، السفير الأمريكي في عُمان حتى العام الماضي، إن التغيير الأكثر بروزًا فيما يتعلق بواشنطن، هو استبدال ثلاثة مسؤولين خدموا لفترة طويلة واعتادوا مرافقة السلطان قابوس في لقاءاته مع مسؤولي أمريكا وبريطانيا، وهُم يوسف بن علوي، درويش البلوشي، علي السنيدي، الذين احتلوا مواقع مهمة في وزارات الخارجية، المالية، التجارة والصناعة بالترتيب في ولاية السلطان قابوس.
وتُعد السمة الأبرز للشهور الماضية لفترة حُكم السلطان الجديد هي الدفع بوجهين شابين من الجيل الثاني من العائلة الحاكمة.
أولهما ابن أخيه، تيمور بن أسعد (39 عامًا)، الذي عُين رئيسًا لمجلس محافظي البنك المركزي، بدرجة وزير. ويُعتقد على نطاق واسع أن هذا الاختيار مرتبط بشكل أساسي برغبة السلطان هيثم في تعزيز دور أفراد الأسرة الحاكمة المنخرطة في الأعمال التجارية ممن تربطهم به روابط مالية، وتحديدًا من كانوا يفضلونه عن بقية المرشحين، بسبب خلفيته الاقتصادية، وشهرته في الانخراط في المشروعات التجارية.
أسس تيمور بنك العز الإسلامي وأصبح رئيسه، وحقق البنك أرباحه الأولى في عام 2018م، بعد خمس سنوات من بدء العمليات في سبتمبر (أيلول) 2013م، ويدخل شراكة مع صندوق الاستثمار الإماراتي ممثلًا في رجل الأعمال الإماراتي محمد العبار، ويُشار إلى نفوذه المالي والتجاري الواسع داخل السلطنة.
أما الوجه الثاني والشخص الأبرز في هذه المجموعة الجديدة، فهو ذي يزن بن هيثم، نجل السلطان ذو الثلاثين عامًا، الذي دفع به في منصب وزير الثقافة والرياضة والشباب، ليصبح أصغر وزير عماني. وعمل نجل السلطان دبلوماسيًّا بوزارة الخارجية العُمانية منذ عام 2013م، فتنقل بين سفارات بلاده، وكانت آخر محطة له هي سفارة بلاده في لندن، التي شغل فيها منصب سكرتير ثانٍ.
ويعتقد باحثون غربيون على اتصال بدوائر الحُكم في عُمان أن هذا الاختيار يُمهد لتصعيد نجله الشاب، خريج جامعة أكسفورد، لمنصب ولي العهد لعرش القصر بعد نهاية سنوات حُكم والده.
خارجيًّا.. تقارب محتمل مع السعودية والإمارات بسبب الأزمة الاقتصادية
تعهد السلطان هيثم بن طارق، في أول تصريحات علنية له بعد توليه الحكم، بدعم السياسة الخارجية لسلفه، متبعًا في ذلك السلطان الراحل، و«المبادئ التي أكدها للسياسة الخارجية لبلدنا، والتعايش السلمي بين الأمم والشعوب، وسلوك حسن الجوار بعدم التدخل في شؤون الآخرين».
غير أن عدم الارتداد عن سياسة السلطان قابوس، وتصريحات السلطان الجديد لا تنفي وجود بعض المؤشرات والتحديات التي قد ترسم الخطوط العامة لسياسة السلطان الجديد الخارجية، واحتمالية حدوث بعض التغير فيها.
أول هذه المؤشرات هو الترحاب اللافت من جانب السعودية بقرار إقالة يوسف بن علوي وتعيين بدر البوسعيدي وزيرًا للخارجية العمانية، وهو ما قد يرجح احتمالية تخلي عمان عن سياسة الحياد والتوازن في العلاقات مع دول الجوار وإيران، واستثمار هذا التوازن بطرح نفسها دومًا وسيطًا سياسيًّا محل ثقة الغرب وواشنطن.
انعكس هذا الترحاب فيما كتبه عضوان الأحمري، الكاتب السعودي المُقرب من ولي العهد، في تغريدة منشورة على حسابه بموقع «تويتر»: «يوسف بن علوي خارج الواجهة السياسية في عمان منذ 23 عامًا. السلطان الجديد، هيثم بن طارق، يميل لتقارب أكثر مع السعودية وموازنة العلاقة مع إيران. تسجيلات القذافي والتي ظهر فيها ابن علوي متجاوبًا مع أحاديث عن أمن المملكة هزَّت صورته في الشارع السعودي والخليجي، وكانت الإقالة متوقعة».
ويُشكل سوء الأوضاع الاقتصادية في عمان عاملًا أساسيًّا في هذا التقارب المحتمل مع السعودية؛ إذ أدى انخفاض أسعار الطاقة إلى ضغوط كبيرة على السلطنة، التي يُمثل كُل من النفط والغاز حوالي 70% من إيراداتها و60% من صادراتها، فضلًا عن ارتفاع معدلات البطالة لما يزيد على 13%، وسط توقعات من وكالة «فيتش» ببلوغ العجز المالي لعُمان نحو 20% هذا العام، وبلوغ الدين الحكومي 80% من الناتج المحلي الإجمالي.
وتُعد كُل من السعودية والإمارات الأكثر ملاءمة سياسيًّا وماليًّا لدعم عمان في أزمتها الاقتصادية؛ إذ تمثل الدولتان معًا ما يقرب من ثلاثة أرباع الناتج المحلي الإجمالي لدول مجلس التعاون الخليجي، بينما يتمثل ثمن هذا الدعم في استخدام نفوذهم للضغط على عُمان للانضمام إليهم بشكل أوثق في ثلاث قضايا رئيسية: هي الحرب على اليمن، مقاطعة قطر، والتقارب مع إيران.
وقد يُعزز من سيناريو التقارب المحتمل بين عمان والمحور السعودي الإماراتي الدعم المالي الذي قدمته أبوظبي لمسقط الشهر الماضي، بمنح بنك «أبوظبي الأول» قرضًا بقيمة ملياري دولار للحكومة العُمانية.
ويقول بايلي ويندر، الباحث الأمريكي المتخصص في الشأن الخليجي، إن من مصلحة أمريكا الاستراتيجية أن تحافظ عمان على استقلال سياستها الخارجية، مؤكدًا أنه إذا جرى انتخاب جو بايدن رئيسًا، فمن المحتمل أن تتبنى الولايات المتحدة نظرة جديدة تجاه دول مجلس التعاون الخليجي، تكون أكثر توازنًا وتُعزز موقع العمانيين وسيطًا، وتحول بينها وبين الضغط السعودي الإماراتي.
ويوضح ويندر، الذي عمل من قبل بوزارة الخارجية الأمريكية، أن التحالف السعودي الإماراتي يسعى إلى استغلال حاجة عمان إلى الموارد المالية للحد من استقلال سياستها الخارجية.
تظل إحدى نقاط الاتفاق بين السلطان هيثم بن طارق وسلفه كما هي، وهي استمرار العلاقات الجيدة مع واشنطن، في ضوء الانطباع الأمريكي عن وزير الخارجية العماني الجديد بأنه رجل «محبوب جدًّا، مُحاوِر جاد ومركِّز ومميَّز، وشريك جيد للولايات المتحدة»، وهو مؤشر على علاقة جيدة دون توتر أو خلافات واسعة، واستعادة محتملة لدورها وسيطًا مُحتملًا لصالح واشنطن في نزاعها مع طهران، خصوصًا إذا فاز جو بايدن، المرشح الديمقراطي في الانتخابات الأمريكية.
وتأتي قضية التطبيع مؤشرًا مهمًّا لقياس حجم التغير في سياسة السلطان الجديد الخارجية؛ إذ عمل سلفه على توطيد علاقات بلاده مع تل أبيب، التي كان أبرز مظاهرها استقباله رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في رحلته التاريخية إلى مسقط، تحت شعار «تعميق العلاقات مع دول المنطقة».
اختلفت التكهنات حول موقف السلطان الجديد من التطبيع مع إسرائيل، بعد إقالة ابن علوي من منصبه، التي أتت عقب اتصال هاتفي أجراه الأخير مع وزير خارجية إسرائيل، أعرب خلاله عن تأييد بلاده لقرار الإمارات العربية المتحدة بشأن العلاقات مع إسرائيل، ودعمه لعملية السلام.
وفي حين خرج المفتي العام للبلاد ليصف السلام بأنه خيانة، أعلن بيان الخارجية العمانية «تأييد السلطنة قرار الإمارات بشأن العلاقات مع إسرائيل». لكن لم يخرج تصريح لافت للسلطان أو وزير خارجيته الجديد حول قضية التطبيع دون ذلك، وهو ما قد يكون مؤشرًا محتملًا لإعادة النظر في اللحاق بركب التطبيع، أو الانتظار بعض الوقت حتى انتهاء الانتخابات الأمريكية.
علامات
إيران, اقتصاد, الإمارات, التطبيع مع إسرائيل, السعودية, السلطان قابوس, دول الخليج العربي, سياسة, عُمان, هيثم بن طارق