يتسلل إلى آذانك صوت رشا رزق الشجي مرددًا إحدى أغاني مسلسلات «سبيستون» القديمة، فتغمرك موجات الحنين إلى زمن البراءة وخلو البال، وربما تكون أحد «الأوتاكو» الذين واصلوا اهتمامهم بفن «الأنمي» الياباني مع مرور السنوات متبحرًا فيما أنتجه صنّاعه من أفلام ومسلسلات صارت تنافس حتى أعتى المسلسلات الأمريكية في شعبيتها وتقييمها لدى المشاهدين.
ثم يخبرك «الدحيح» أن فن «الأنمي» لم يكن إلا وسيلة من اليابان لمحو الصورة المترسخة عنها بوصفها دولة دموية شريرة، فتصاب بصدمة ثقافية، هل حقًا يكمن كل ذلك التاريخ الدموي خلف قلب القناص الحساس الذي يحب الخير لكل الناس؟ خلف طيف أم سامي وأخيه وسيم الأنقى وأبقى من زبد الأيام؟
لكن بعيدًا حتى عن الهدف من وراء ذلك الفن، فالنظر في ظروف صناعة فن «الأنمي» بحد ذاته، يخبرنا أن الأمور ليست كما تبدو عليه حتى في تلك الاستراتيجية التي اتبعتها اليابان لإيصال صورة بريئة أو «كيوت» عن ثقافتها، فآلاف الجنود المجهولين من موظفين ورسامين خلف ذلك الفن يعملون في بيئة تختلف تمامًا عن البيئة اليابانية التي عرفناها من خلال أعمالهم، وهي بيئة العمل التي نسعى لاستكشاف ملامحها في هذا التقرير.
احذر: «الأنمي» فيه سم قاتل
تنتج اليابان سنويًا أكثر من 200 مسلسل «أنمي» جديد، فضلًا بالطبع عن مواصلة إنتاج المسلسلات القديمة، وقد تضاعف إنتاج ذلك الفن خلال سنوات الألفية الثالثة، فبعدما كان حجم الصناعة 10 مليار دولار عام 2002، وصل إلى 20 مليارًا (أكثر من 2 تريليون ين ياباني) عام 2017، محققًا ذروة نجاحه وانتشاره الذي دعا قناة «نتفليكس» الأمريكية للانضمام إلى الجهات المنتجة لأعمال «الأنمي».
إلا أن الحقيقة المؤلمة خلف ذلك الازدهار هي أن التوسع في إنتاج «الأنمي» مع الحفاظ على جودته كان يعني ظروف عمل قاسية تتجاوز الحقوق الأساسية للعاملين في ذلك الفن، سواء فيما يتعلق بالأجور أو بساعات العمل وضغوطه التي بلغت حدودًا مرهقة حد الموت أحيانًا.
في عام 2010 انتحر أحد العاملين في شركة «A-1» اليابانية لصناعة «الأنمي»، وتوصلت التحقيقات إلى أن انتحاره كان نتيجة عمله الذي جاوز 600 ساعة خلال شهر واحد، أي بمعدل 20 ساعة في اليوم على مدار الشهر، وفي عام 2017 توفي أحد رسامي بعض أشهر مسلسلات «الأنمي» مثل «ناروتو» و«بليتش» و«أكيرا»، وذلك أثناء إغفائه لبعض الوقت في الاستوديو للحصول على راحة أثناء العمل، ورغم عدم وجود ما يؤكد وفاته نتيجة ضغوط العمل، إلا أن بعض المتخصصين يتوقعون ذلك، وكذلك بعض زملائه الذين أشاروا أثناء نعيه إلى الظروف التعيسة للرسامين في ذلك المجال.
لا توجد إحصائيات واضحة لضحايا العمل في «الأنمي» لكن تلك الظروف ليست نادرة تمامًا، ففي العام الجاري تواجه شركة «Mad House» المنتجة لمسلسلات شهيرة مثل «مذكرة الموت»، اتهامات بتشغيل موظفيها لما يقرب من 400 ساعة خلال شهر واحد، ويقول أحد مساعدي الإنتاج بالشركة إنهم اضطروا لتنفيذ جدول عمل ثلاثة شهور خلال شهر واحد، والعمل لأكثر من خمسة أسابيع متصلة دون إجازات، مما كان يضطره للمبيت في الشركة لأيام متتابعة، مضيفًا أنه انهار في نهاية الشهر وتم نقله إلى المستشفى حيث تم تشخيصه باضطراب عصبي، ورغم ذلك فقد دفع تكاليف المستشفى بنفسه ولم يحصل على إجازة إلا يومًا واحدًا.
ثمة محاولات لإدخال الكمبيوتر في عملية رسم «الأنمي»، إلا أن استخدامه حتى الآن يقتصر بشكل رئيسي على مهمة التلوين، أما الرسم فيتم بشكل يدوي بالكامل، ويبلغ متوسط عدد الرسمات للحلقة الواحدة نحو 3 آلاف رسمة (عبر أكثر من 30 ألف إطار تعرض على الشاشة خلال الحلقة)، ويستغرق إعدادها نحو ثلاثة أشهر في بداية عرض المسلسل لكن تلك المدة قد تتقلص إلى شهر واحد في المراحل المتقدمة، ولأن عدد الرسامين المؤهلين لا يتناسب مع حجم الصناعة، ينقسم رسامو «الأنمي» إلى نوعين، الرسامون المفتاحيون والرسامون البينيون.
يضع الرسامون المفتاحيون الرسمة الأولى والأخيرة لحركة جسم ما خلال المشهد، بينما يقوم الرسامون البينيون برسم الإطارات التي تتخلل الحركة الأولى والأخيرة بتوجيه من الرسامين المفتاحيين، حتى يتحرك الجسم على الشاشة بالانسيابية المطلوبة، وعادة ما يكون الرسامون البينيون من المبتدئين في مجال «الأنمي»، ويمثلون نحو ثلثي عدد الرسامين، ويعانون بصورة أكبر لأنهم يعملون بشكل مستقل دون عقود ثابتة على أمل الترقي إلى رتبة «رسام مفتاحي» يومًا ما، ويتقاضون أجورهم بحسب عدد الرسمات التي ينتجونها، أقل من دولارين لكل رسمة، ولأن «الأنمي» الياباني يهتم بشكل دقيق بتفاصيل مثل الهندسة المعمارية والمناظر الطبيعية والطعام، قد تستغرق الرسمة الواحدة أكثر من ساعة.
كيف أصبحت «وظيفة الأحلام» كابوسًا؟
في الشهر الماضي أضرم رجل ياباني يدعى «شينجي أوبا» النيران في استوديو «كيوتو» لإنتاج «الأنمي»، مخلفًا أكثر من 30 قتيلًا في أسوأ عملية قتل جماعي باليابان منذ 2001، وبرر جريمته بأن الاستوديو قد سرق روايته التي كان قد أرسلها إليهم سابقًا لإنتاجها وأخبروه برفضها، ولا شك أن سرقة المجهود الفني أمر مزعج للغاية، ولا شك أيضًا أنه ما من إساءة أو جريمة أدبية تستحق الرد عليها بارتكاب تلك المذبحة، لكن هل كان العمل في صناعة «الأنمي» أصلا هو «وظيفة الأحلام» التي يستحق حرمان «شينجي» منها هذا الغضب العارم؟
مشهد رسمه هنري ثرولو قبل وبعد التلوين – المصدر: مدونته الشخصية
هنري ثرولو فنان رسوم متحركة أمريكي، لم يكن راضيًا عن الفن الذي يشارك في صناعته بالولايات المتحدة رغم أنه كان يوفر له عيشة مرفهة بحسب تصريحاته، كان هنري شغوفًا بـ«الأنمي» منذ طفولته مما دعاه للسفر إلى اليابان للانضمام إلى هذا العالم، ورغم خبرته السابقة فقد ظل يحاول الحصول على عقد عمل دون جدوى لمدة أربع سنوات، كان يسمع في مقابلات العمل أن الوظيفة صعبة، ولكن بعد حصوله عليها وصفها بأنها «ليست صعبة وحسب، بل إنها قاسية بشكل غير قانوني»، مضيفًا أنه كان يضطر أحيانًا للعمل أكثر من شهر ونصف دون يوم واحد عطلة لإنهاء العمل في الموعد المحدد، وفي الظروف الطبيعية كان يعمل 10 ساعات في اليوم لستة أيام في الأسبوع.
بلغ الإرهاق والمرض بهنري أنه دخل المستشفى ثلاث مرات، نتيجة ضغوط وظيفة لم يكن يتقاضى عنها في ذلك الوقت أكثر من 100 دولار شهريًا، قبل أن ينتقل للعمل في استوديو أكبر بلغ دخله الشهري فيه نحو ألف دولار، ورغم ذلك فلم يندم الفنان الأمريكي على تجربته، حيث اعتبر أن الأعمال التي كان يشارك بها في الولايات المتحدة رديئة، أما عمله في صناعة «الأنمي» فقد كان مُرضيًا للفنان الذي بداخله.
لكن شينغو أداتشي، وهو رسام مفتاحي ومصمم شخصيات بمسلسلات شهيرة، يرى أن وظيفة رسام «الأنمي» لا يمكن أن تكون وظيفة أحلام، فحتى الرسامون المفتاحيون لا يتلقون أجورًا جيدة، مهما كانت أعمالهم ناجحة عالميًا مثل مسلسل «الهجوم على العمالقة»، ويعتبر أداتشي أن المشكلة بنيوية في صناعة «الأنمي».
طوابع بريد يابانية تحمل صورة أوسامو تيزوكا الملقب بـ«إله المانغا» – المصدر: مدونة «Japan Society»
يعود تاريخ المشكلة إلى ستينيات القرن الماضي، عندما صنع أوسامو تيزوكا الملقب بـ«إله المانغا» مسلسل آسترو بوي بوصفه أول مسلسل «أنمي» كامل، في ذلك الوقت لم ترغب شبكات التلفاز بالمخاطرة والرهان على نجاح مسلسل رسوم متحركة، مما دعا «تيزوكا» لطرح المسلسل بسعر زهيد حتى يحصل على فرصة لعرضه في التلفاز، وبحسب مايكل كراندول، أستاذ الدراسات اليابانية بجامعة ليدن، كان «إله المانغا» يخسر من عرض المسلسل بذلك السعر، لكنه خطط لتعويض تلك الخسارة بالمنتجات التجارية القائمة على شخصية آسترو بوي مثل الألعاب والتماثيل والحلوى، لكن المشكلة أن تيزوكا أرسى بذلك قاعدة جعلت من المستحيل على كل من يتبع خطاه الحصول على أجر مجزٍ.
صناع «الأنمي» تحت خط الفقر
بحسب آخر إحصائيات «جمعية المبدعين اليابانيين للرسوم المتحركة»، ارتفع متوسط الأجر السنوي لرسام «الأنمي» في العشرينات من عمره من 1.1 مليون ين ياباني (10 آلاف دولار) عام 2015 إلى نحو 1.5 مليون ين (14 ألف دولار) في العام الجاري، وبالنسبة للرسامين من سن 30 إلى 34 ارتفع المتوسط من 29 ألف دولار سنويًا إلى نحو 33 ألفًا هذا العام، ورغم ذلك التحسن يبقى رسام «الأنمي» تحت خط الفقر النسبي باليابان حتى الخامسة والثلاثين من عمره، كما تؤكد بيانات الجمعية أن متوسط ساعات عمل رسام «الأنمي» في الأيام العادية يبلغ نحو 10 ساعات يوميًا، وأنه يحصل على خمسة أيام عطلة فقط خلال الشهر، ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى اعتماد الشركات على الرسامين المستقلين الذين لا تحميهم قوانين العمل.
تعمل تيرومي نيشي مصممة ألعاب إلى جانب عملها رسامة «أنمي مستقلة»، وتجني معظم دخلها من تصميم الألعاب لتتمكن من الاعتناء بوالديها، وتؤكد أن دخلها من رسم «الأنمي» قد لا يكفي حتى لإطعام نفسها، ورغم أن متوسط دخل رسام «الأنمي» بعد الخامسة والثلاثين يتجاوز متوسط دخل الفرد الياباني عمومًا، لكن الوضع لا يتحسن بشكل جذري حتى لدى أولئك المخضرمين، حيث يقول تايكي نيشيمورا، وهو مدير فني ذو خبرة 20 عامًا في صناعة «الأنمي»، إنه يحصل على ما يعادل 900 دولار شهريًا لقاء كل أنمي يعمل عليه، موضحًا أنه يود العمل على مسلسل واحد فقط حتى يمكنه التركيز عليه، لكنه يضطر إلى العمل على مسلسلين على الأقل ليتمكن من توفير دخلٍ كاف.
وبشكلٍ عام يوضح استطلاع أُجري عام 2016، أن 53% من رسامي «الأنمي» يتلقون دعمًا ماديًا من عائلاتهم، منهم 35% يعيشون بالفعل في منزل العائلة، كما أفاد الاستطلاع أن 58% من الذين لا يعيشون مع عائلاتهم يعتمدون على مدخراتهم لاستيفاء احتياجاتهم اليومية، وقد أكد جميع المشاركين أن عملهم لم يكن مصدر الدخل الرئيسي للعائلة.
«آيري ياسوهيرو»، مخرج أنمي والمدير التنفيذي لجمعية المبدعين اليابانيين للرسوم المتحركة
ربما يكون شغف الرسامين هو السبب الرئيسي لبقاء صناعة «الأنمي» قائمة، حيث إن العمل بوظائف أخرى لا تتطلب موهبة مثل العمل في «ماكدونالدز» أو حتى متجر عادي يمكنه أن يوفر دخلًا أكبر بكثير في اليابان، ويحذر «آيري ياسوهيرو»، مدير «جمعية المبدعين اليابانيين للرسوم المتحركة» وأحد مخرجي «الأنمي»، من خطورة تلك الأوضاع، قائلًا إن الشركات ينبغي عليها تجنب مشكلة استقالة العديد من رسامي «الأنمي» نتيجة عدم حصولهم على دخلٍ يسمح لهم بالبقاء على قيد الحياة، وكذلك مشكلة عزوف الشباب الياباني عن الانضمام لذلك المجال أصلًا بسبب تدني الأجور فيه، وإلا فلن يكون هناك رسامون خلال 10 أو 15 عامًا.
هل تنقذ اليابان ثروتها القومية؟
يطرح ممثلو «جمعية المبدعين اليابانيين للرسوم المتحركة» مقترحات للحل من بينها أن تسعى الشركات إلى الحصول على ميزانيات أكبر عند التفاوض مع الرعاة بما يسمح لها بالدفع للرسامين بشكل مناسب، وأن تبحث كذلك عن رعاة خارج اليابان مثل «نتفليكس» و«أمازون» التي بدأت بعض الشركات العمل معهما بالفعل وارتفعت ميزانية تلك الأعمال بأكثر من 30%، كما أن على الحكومة تقديم دعمٍ أكبر لصناعة «الأنمي»، نظرًا للأهمية القومية لذلك الفن، واقترحت الجمعية كذلك نقل استوديوهات «الأنمي» من العاصمة اليابانية طوكيو -التي تستحوذ وحدها على 75% من إنتاج «الأنمي»- إلى مناطق أخرى تقل فيها تكلفة المعيشة.
هناك مقترحات أخرى خرجت من صناع «الأنمي» مثل ربط ميزانية الإنتاج بالمعايير الغربية، كما تقوم إحدى المنظمات بتكوين شبكة أمان تسعى لدعم الرسامين الجدد ماديًا من خلال توفير سكن بأسعار معقولة، وتدور بعض المقترحات حول تنظيم نقابات أو اتحادات عمالية لصناع «الأنمي»، وقد واجهت «جمعية المبدعين اليابانيين للرسوم المتحركة» انتقادات لأنها تأسست باعتبارها جمعية عامة بدلًا من كونها نقابة أو اتحادًا عماليًا، لكن آيري ياسوهيرو يدافع عن ذلك بأن الجمعية تم تأسيسها ليتمكن أعضاؤها من مواصلة عملهم في صناعة «الأنمي» بالتوازي مع محاولة تحسين ظروف العمل، أما إدارة الاتحاد فتحتاج إلى تفرغ كامل.
وتعترف الحكومة اليابانية بسوء ظروف صناعة «الأنمي» بما يهدد استمرار الصناعة، وقد حاولت وزارة الاقتصاد اليابانية مواجهة المشكلة من خلال اجتماع عقدته مع 100 ممثل لشركات «الأنمي» تحت عنوان «الدليل الرقمي لإنتاج «الأنمي»، والذي سعت الوزارة من خلاله لتبني خطة للاعتماد على الكمبيوتر في إنتاج الرسومات البينية في «الأنمي»، حيث ترى الوزارة أن عائدات إنتاج «الأنمي» لا يحصل عليها هؤلاء الرسامون، بينما يشكك بعض العاملين في مجال «الأنمي» في تلك الخطة لأنها يمكن أن تؤدي إلى خروج الرسامين من سوق العمل.