بعد أربع جولات تفاوض خاسرة، ربحت جماعة الحوثي أخيرًا اتفاق جنيف الأخير الذي عُقد برعاية أممية، ووُصف بأنه «الأهم في تاريخ النزاع»؛ إذ قضى باستعادة الحوثيين جيشًا صغيرًا مكونًا من 681 أسيرًا مقابل 400 أسير من قوات التحالف العربي بينهم 19 عسكريًا سعوديًا، بينما رفضت الجماعة إدراج القياديين الحكوميين الأربعة المشمولين بقرار مجلس الأمن الدولي ضمن المرحلة الأولى، وهم وزير الدفاع اليمني، وشقيق رئيس الجمهورية، ولواء بارزٌ في الجيش، وقيادي في حزب التجمع اليمني للإصلاح، وتتمسك بهم كأوراق ضغط لانتزاع مكاسب قادمة بعدد من الملفات.

الوضع ميدانيًا على الأرض يشهدُ أيضًا انتصارًا سياسيًا أيضًا لصالح الحوثيين، ففي الوقت الذي تنتظر محافظة مأرب النفطية ومركز العمليات العسكرية للتحالف مصيرها الأخير للسقوط على يد قوات الحوثي، أعلنت عدة قبائل من داخل المحافظة ولاءها لصنعاء، في تحولٍ دفع السعودية للاستنجاد بواشنطن، لوقف هجوم الحوثي، خوفًا من سيناريو «ما بعد سقوط مأرب».

ماذا يعني سقوط مأرب بالنسبة للحوثيين؟

بعد أكثر من خمسة أعوامٍ على حرب اليمن التي أطلقتها السعودية عقب سيطرة جماعة الحوثي على العاصمة صنعاء في سبتمبر (أيلول) عام 2014، وانقلابها على الحكومة الشرعية، شهد الصراع تصعيدًا مُختلفًا، تغيرت معه الخريطة العسكرية للحرب، عقب التحوّل الميداني الأخير الذي جاء لصالح الحوثيين بعد استعادتهم مواقع إستراتيجية هامة خسروها في عام 2016.

Embed from Getty Images

تسيطر الجماعة حاليًا على المناطق الأهم والأكثر كثافة سكانية داخل اليمن، وأبرزها العاصمة صنعاء ومدينة الحديدة الساحلية غربًا، التي تضم مينائين دوليين، بالإضافة لسيطرة مطلقة على محافظات عمران، وذمار، وإب، والبيضاء، ومديرية نهم الإستراتيجية، شرقي صنعاء وغالبية مناطق محافظة الجوف. حشدت الجماعة جهودها بشكلٍ شبه كامل لإسقاط محافظة مأرب – شمال شرق صنعاء – آخر حصون الشمال اليمني، والمعقل الرئيس للقوات الحكومية اليمنية، والمحافظة الغنية بالنفط، التي يسعى الحوثيون لضمّها إلى مناطق سيطرتهم التي تفتقر إلى أي مصدر للثروات الطبيعية.

استفاد الحوثيون من هدنة أممية في مدينة الحديدة، إلى جانب جمودٍ عسكري في جبهات القتال في تعز وحجة والمناطق الحدودية التي ترابط فيها قوات التحالف العربي، ثم قاموا بشنّ هجومٍ على محافظة مأرب التي كانت محمية طوال سني الحرب، وبات ثُلث مديريات المحافظة حاليًا في قبضة الحوثي.

سيناريو سقوط المحافظة يعني فعليًا انتهاء حرب اليمن بالنسبة للحوثيين على أكثر من جانب؛ فالسيطرة على منابع النفط في الشمال، هي آخر الأهداف العسكرية للحوثيين الذين لا يسعون للسيطرة على اليمن الجنوبي، بالإضافة إلى أنّ الانتصار نفسه يعني عودة اليمن إلى ما قبل 2015، حين سيطر الحوثيون سيطرة كاملة على 12 محافظة من أصل 22.

حاولت السعودية الدخول مع الحوثيين في محادثات سلام بعدما تشكلت قناعة رسمية بأنَّ استمرار الحرب ليس في صالحهم، وأنّ سقوط مأرب سيشكل واقعًا جديدًا لن يمكن مواجهته، بحسب ما كشف مسئول سعودي لصحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية.

وبعدما حقق الحوثيون تقدمًا في مأرب واقتربوا من معسكر السعودية، هددت وزارة الخارجية الأمريكية عبر بيان لها طالبت فيه بسرعة وقف الهجوم على مأرب، بدعوى وجود نحو مليون نازح في المدينة، بينما جاء التهديد الثاني عبر التليوح بتصنيفهم جماعة إرهابية، وهو ما يُهدد مشروعهم السياسي بالمشاركة في حكم اليمن.

سقوط مأرب الوشيك يفتحُ شهية الحوثي على محافظة حضرموت النفطية المجاورة، وهي المحافظة النفطية الثالثة التي سعى الحوثيون للسيطرة عليها منذ عام 2014، وتشهد حاليًا احتجاجاتٍ واسعة تخشى السعودية معها من استغلال الحوثيين لها للتواصل مع قبائلها وإجراء اتفاقاتٍ معها في حال أقدمت الجماعة على التقدم صوب المحافظة في المستقبل القريب.

عربي

منذ 3 سنوات
تجربة حفتر تتكرر في اليمن.. ماذا لو سيطر الحوثيون على النفط؟

وسيناريو إسقاط مأرب لا يعني للحكومة اليمنية سوى أن يُصبح حسم الحرب حُلمًا صعب المنال؛ لأنها تُمثل حائط صد لمحافظات الجوف وصعدة وعُمران وصنعاء من جهة، بينما تشكل خطرًا وتهديدًا مُباشرًا على المحافظات النفطية المجاروة من الشرق (حضر موت، وشبوة) المتاخمتين لها.

كيف ستتضرر السعودية في حال سقطت مأرب؟

يُراهنُ الحوثيون على أن التسوية السياسية لحرب اليمن ستعتمد على ما يمتلكه كل طرفٍ من موازين القوى، لذا فهم يبحثون من خلال المعارك عن حلٍّ نهائي لوجودهم وتمثيلهم السياسي في زمن ما بعد الحرب، وهو الشرط الذي ترفضه السعودية التي تعترف بتنامي القدرات العسكرية للحوثيين بما يشكلُ نوعًا من الصعوبة في المفاوضات التي لم تخرج منها الرياض بأي مكسب إستراتيجي.

Embed from Getty Images

وسبق أن منحت الأمم المتحدة شرعية الاعتراف بالحوثيين بداية من اتفاق «ستوكهولم» عام 2018، والذي أصبح الحوثيون بموجبه طرفًا أساسيًّا في المفاوضات، نهاية بمسودة «الإعلان الشامل» التي رفضتها الحكومة اليمنية كونها تُثبت المناطق التي سيطر عليها الحوثيون تحت شرعية دولية.

وخلال هجوم مأرب الأخير، آخر معقل حكومي في الشمال، طالبت السعودية من الأمم المتحدة بإلغاء اتفاق «ستوكهولم» الذي كان وُقّع بالأساس بغرض التهدئة في عموم اليمن، لكنّ الحوثيين – بحسب اتهاماتٍ – استغلوه وقاموا بتحويل قواتهم في السيطرة على جبهات أخرى، مثل مدينة نهم الإستراتيجية شرق صنعاء، ومحافظة الجوف، لذا تأتي المطالبة بإلغاء الاتفاق من أجل إزالة الضغط العسكري الذي ينفذه الحوثيون على مأرب.

استهداف مأرب تحديدًا ليس سببه فقط كونها المعقل الأخير للحكومة الشرعية في الشمال، فالاستيلاء على المحافظة النفطية يُمكّن الجماعة من الاستفادة من مدخراتها النفطية الضخمة في عمليات القتال، واللافت أنّ السعودية سبق واستعادت مأرب كاملةً في سبعة أشهرٍ فقط بعد أن اندلعت الحرب في مارس (أذار) عام 2015، بينما بقيت قوات التحالف العربي على تخوم صنعاء لنحو أربع سنوات.

لذا تسعى الحكومة اليمنية ومن ورائها قوات التحالف العربي في منع سقوط مأرب، ليس فقط لكونها تضم مقرات وزارة الدفاع ورئاسة هيئة الأركان، بل يمثل فقدانها خسارة أهم الموارد الاقتصادية التي تحصل عليها الحكومة الشرعية من النفط والغاز.

ويعتبر النفط المحرك الرئيس لاقتصاد اليمن، ويمثل 70% من موارد الموازنة، و63% من الصادرات، و30% من الناتج المحلي، ويتركز الإنتاج النفطي في ثلاث محافظات (شبوة، ومأرب، وحضر موت) شكلت إلى حدٍ كبير خريطة التحركات العسكرية للتحالف العربي.

وخلال الشهر الجاري أقرت الحكومة اليمنية لأول مرةٍ بوجود اختراقات لجماعة الحوثي في الأطراف الجنوبية لمحافظة مأرب على المستوى العسكري، وهو ما أيّد رواية الحوثيين بشأن وجود ارتباطاتٍ مسبقة مع قبائل المحافظة، تزامنًا مع اعتراف إيران لأول مرة بأنها وضعت تقنيات إنتاج الصواريخ والطائرات المسيرة تحت تصرف الحوثيين مقابل صفقاتٍ مدفوعةٍ، وليست مجانية.

وخلال المواجهات الأخيرة، فقدت قوات التحالف العربي والجيش اليمني خسائر بشرية كبيرة في معارك مأرب وجبهات أخرى، بينهم قادة عسكريون بارزون، وسبق أنّ استهدفت الجماعة أيضًا اجتماع قادة عسكريين سعوديين.

عربي

منذ 3 سنوات
«لا أحد يعرف عدوَّه!».. دليل «ساسة بوست» لفهم تعقيدات المشهد اليمني

لذا عمدت السعودية مؤخرًا لتحريك المياه الراكدة، وتفعيل اتفاق الرياض الموقع في نوفمبر (تشرين الثاني) العام الماضي، بين الحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي الجنوبي، والذي قضي بتقاسم الجانبين السلطة وإعادة الحكومة لعدن، بهدف توحيد الأراضي تحت سُلطة مركزية موحدة، حتى تُصبح الحكومة اليمنية – بعد دمج الانفصاليين فيها – مؤهلة ومدفوعة للتفاوض مع الحوثيين في أي عملية سياسية، أو حتى قرار عسكري، لكن كل الخُطط باتت متوقفة الآن انتظارًا لما يمكن أن يحدث في مأرب.

في حال سقطت مأرب.. ما هو السيناريو الأرجح لمستقبل اليمن؟

قادت السعودية مؤخرًا مشاوراتٍ مكثفة بهدف بحث تشكيل حكومة يمنية مرتقبة ضمن أبرز بنود اتفاق الرياض منعًا لتأثير سير العمليات العسكرية في مأرب على المجريات السياسية في الجنوب، حيث سبق أن فتحت معارك الشمال شهية المجلس الانفصالي، مع التحركات الانفصالية للمجلس الانتقالي الجنوبي، الذي أعلن بالقوة فرض الإدارة الذاتية للجنوب في المناطق الواقعة تحت سيطرته بعد إحكام قبضته على العاصمة المؤقتة عدن، في يونيو (حزيران) الماضي.

وفي حال سقطت عدن قبل انتهاء مشاورات الحكومة، فمن المتوقع – بحسب مراقبين – أن يُطالب المجلس الانتقالي بحصة أكبر كونه بات يمتلك اليد السياسية والعسكرية العُليا بعد سقوط معقل الحكومة الرئيس في الشمال.

سقوط مأرب نفسها تُطيل عسكريًا أمد الحرب إلى سنواتٍ طوال قد تدفع الأطراف الإقليمية بالاعتراف بحق تقرير المصير لتلك المناطق، خاصة أنّ الرئيس هادي نفسه بات يتجه مؤخرًا لتلك الفكرة عبر تشكيله لجنة رئاسية لصياغة نموذج فيدرالي، على اعتبار أنه الحل الوحيد لإنهاء الحرب.

وفي عام 2014 وقبل نحو عامٍ من اندلاع الحرب، اعتمدت حكومة هادي صيغة من ستة أقاليم للدولة اليمنية الاتحادية؛ بحيث تكون اثنان منها في الجنوب (عدن، وحضر موت)، وأربعة في الشمال (أزال، وسبأ، والجند، وتهامة).

عربي

منذ 3 سنوات
بعد ليبيا.. هل تنقل تركيا ساحة معاركها إلى اليمن؟

لكنّ هذا المشروع الذي طُرح قبل الحرب، لم يكن ليكتمل إلا بالشروع في إقرار دستور جديد للبلاد، تتم صياغته والاستفتاء عليه في غضون سنة قبل أن تنظم انتخابات رئاسية وتشريعية عامة، ومن المفترض أن ترعاه حكومة جديدة تشكلها السعودية وفق توافقٍ وطني، وهو السيناريو الذي ليس من الممكن تحقيقه في القريب العاجل في ظل تمدد الحوثي، الذي بات عسكريًا وسياسيًا وباعتراف أممي شريكًا مستقبليًا في حُكم اليمن، لذا فالمعارك الدائرة في الجوف ترسم إلى حدٍ بعيد مستقبل الفصل الأخير للحرب، التي يعتبرها الحوثيون نهاية حرب اليمن عسكريًا بالنسبة لهم.

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد