شهد القرنان الخامس عشر والسادس عشر الميلاديان صعودًا لافتًا لقوتيْ إسبانيا والبرتغال، خاصة على الصعيد البحري؛ إذ هيمنت أساطيلُهما على أبرز بحار العالم آنذاك، وسيطرت على أكثر خطوط التجارة العالمية بين الشرق والغرب، واحتلَّت معظم المؤاني الإسلامية المهمة في ساحل البحر المتوسط الجنوبي من طرابلس الغرب إلى طنجة المغربية.

وفي هذا السياق تدخل بابا روما عام 1494، تحديدًا لراعية معاهدة توردسيلاس بين القطبيْن الكاثوليكييْن لتسوية النزاعات حول الأراضي المُكتَشفة حديثًا، والتي جعلت كل ما هو شرقي جزر الآزور بالمحيط الأطلسي من نصيب إسبانيا، وهو ما يشمل المغرب الأوسط (الجزائر) والأدنى (تونس)، فيما أصبح المغرب الأقصى حقًا للبرتغال.

وقد تزامن الصعود الإسباني – البرتغالي، والذي عمل بقوةٍ على تطويق العالم الإسلامي، مع صعود لافت للدولة العثمانية التي أصبحت قوة عالمية عظمى بعد ابتلاع الدولة البيزنطية وفتح عاصمتها القسطنطينية في عصر محمد الفاتح عام 1453، ثم السيطرة على أجزاءٍ كبيرة من شبه جزيرة البلقان جنوبي شرق أوروبا حتى أواخر هذا القرن.

كما شهد العقد الثاني من القرن السادس عشر تمكُّن السلطان سليم الأول من مد السيطرة العثمانية إلى منطقة الشرق الأوسط بضم مصر والشام عامي 1516 و1517، وقبلها تمكن من كبح جماح التمدد الصفوي بعد الانتصار الساحق في موقعة جالديران عام 1514، والذي عزَّز الوجود العثماني في الأناضول، والقوقاز، والعراق، والجزيرة الفراتية.

Embed from Getty Images

سليمان القانوني

ثم شهد النصف الأول من القرن السادس عشر الميلادي صدامًا شرسًا لاسيَّما في منطقة البحر المتوسط، بين قُطبيْه الرئيسيْن آنذاك، العثماني بقيادة السلطان سليمان القانوني والذي خلف أباه سليم الأول عام 1520، والثاني هو الإمبراطور شارل الخامس، الكاثوليكي المتعصب، ملك إسبانيا، وزعيم الإمبراطورية الرومانية المقدسة المهيمنة على وسط أوروبا (ألمانيا، وهولندا، وبلجيكا، وأجزاء من النمسا، وإيطاليا) والتي كانت بمثابة الشطر الدنيويّ للبابوبة الكاثوليكية وسيفها ودرعها.

«كانت الجزائر في مطلع القرن العاشر الهجري مرتعًا للحروب الأهلية، وغرَضًا ملحوظًا للأجانب المتوثِّبين، تُعاني الأمرَّيْن من الملوك المتنافسين والرؤساء الجائرين المُتنازعين، والنصارى المُغيرينَ تتميمًا لبرامجهم وخططهِم الصليبية» *عبد الرحمن الجيلاني في كتابه «تاريخ الجزائر العام»

وكان الساحل الجزائري من أبرز نقاط الصدام بين الإسبان والعثمانيين وحلفائهما، لاسيَّما بعد ظهور البحاريْن التركيَّيْن عروج باشا وأخيه خير الدين بربروس، واللذيْن قررا جعل ساحل الجزائر (المغرب الأوسط) معقلًا لجهودهما لمقاومة الاحتلال الإسباني، وكانا في البداية يعملان بشكلٍ شبه مستقل، لخلافهما مع السلطان العثماني سليم الأول، إذ كانا محسوبيْن على أخيه كيركوت الذي قتله سليم في سبيل الصعود على العرش عام 1512.

فقد تمكن عروج باشا من انتزاع مدينة بجاية شرقَ الجزائر من الاحتلال الإسباني عام 1515، ثم سيطرَ على ميناء شرشال الهام، ثم ضمّ مدينة الجزائر مطلع عام 1516، بإذنٍ من سكانها الرافضين للخضوع للنفوذ الإسباني، وجعلها قاعدةً لقواته، لكنه عجز عن انتزاع قلعة رباط الخيل الإسبانية الحصينة المشرفة على مدينة الجزائر، والتي لم تنقطعْ الإمدادات لها بحرًا بواسطة الأسطول الإسباني القوي، وظلَّت مدافعها تقصف الجزائر، بشكلٍ متكرر حتى نجح خير الدين في السيطرة عليها وقتل حاميتها بالكامل بعد دعمٍ عثماني كبير عام 1529.

 وقُتل عروج عام 1518 في معركةٍ ضد الإسبان وحلفائهم المحليين قرب تلمسان، بقاعدة غرب الجزائر التي حررها في العام السابق، وأرسل شارل الخامس رأس عروج باشا إلى إسبانيا لتأكيد انتصاره، بينما كان خير الدين بربروس، أخو عروج يطلب الانضواء الرسمي تحت الراية العثمانية، ليحصل بالفعل على عفوٍ ودعمٍ كبير بالمال ومئات البحارة والمقاتلين من السلطان سليم الأول، وتضاعف هذا الدعم في عهد خليفته السلطان سليمان القانوني، والذي بدأ في إعادة التوازن لساحة البحر المتوسط بانتزاع جزيرة رودس من فرسان القديس يوحنا الصليبيين عام 1522.

استمرَّ القانوني خلال العقديْن التالييْن في دعم خير الدين بربروس بكل ما يحتاجه من غطاءٍ سياسي، وتعزيزاتٍ من المقاتلين المحترفين، وإمداداتٍ لوجستية وتسليحية، وهنَّأه في منشورٍ تاريخي على النجاح في تدمير قلعة رباط الخيل الإسبانية المشرفة على الجزائر عام 1529.

حسن أغا.. الصعود الهادئ على مسرح التاريخ

«كان حسن آغا الطُّوشي (1486 – 1543) أول أغا يحكم الجزائر بأمر من البايلر باي الأول خير الدين بربروسا، وقد استمر في منصبه المستخلف عليه يعمل على قهر القرصنة الأوروبيَّة، حيث أبلى في سبيل ذلك البلاء الحسن، وصار شخصه في الجزائر مثالًا بارزًا في البطولة، والتَّضحية الإِسلاميَّة في سبيل الدِّفاع عن بلاد الإسلام في الشَّمال الأفريقي» *المؤرخ الليبي علي الصلابي

لكونه عبدًا محرَّرًا قذفت به أحداث الدهر وتقلباته قذفًا إلى متن التاريخ، فإن الجزء المبكر من حياته يكتنفه الكثير من الغموض، لكن أرجح الروايات أنه إيطالي الأصل، من جزيرة سردينيا غرب إيطاليا، وأنَّهُ أُسِر في إحدى الغارات على تلك الجزيرة التي كانت دائمًا في مرمى هجمات القراصنة والأساطيل المغاربية، ثمَّ بيع على أنه «عبد مخصي»، ثم عمل في أسطول خير الدين بربروس، وترقَّى نظرًا لكفاءته، حتى صار من أبرز الضباط في أسطول خير الدين، ومن أقرب مستشاريه ومعاونيه.

يذكر المؤرخ التركي يلماز أوزتونا في كتابه «تاريخ الدولة العثمانية» أنه صدر فرمانٍ مهم من السلطان العثماني سليمان القانوني عام 1534، بترقية البحار خير الدين بربروس إلى منصب القائد العام للبحرية العثمانية، إلى جانب مهامه باعتباره والي الجزائر العثمانية، وانطلاقًا من المنصب الجديد شرع بربروس في بناء عشرات السفن الجديدة، وتحديث هياكل ومدافع السفن القائمة، وذلك رغبة منه في فرض السيادة العثمانية على البحر المتوسط. 

 

وقد اضطر تراكم المهام والمسؤوليات السياسية والعسكرية الكبرى خيرَ الدين بربروس أن يبدأ في توزيع بعضها على خاصة رجاله ومعاونيه، وكان حسن أغا واحدًا من أخلص مساعدي بربروس، فلم يكن مُستَغربًا أن يُسنِد إليه بربروس واحدة من أخطر المسؤوليات السياسية والحربية الموكولة إليه في تلك الأيام العصيبة التي تلت الهزيمة الموجعة التي نالها بربروس وقواته في تونس عام 1535، أمام حملةٍ عسكرية ضخمة قادها شارل الخامس لاستعادة تونس بالتحالف مع تابعه الملك الحفصي المخلوع مولاي حسن.

في كتابه «حرب الثلاثمائة عام بين الجزائر وإسبانيا» يذكر توفيق المدني أن حسن أغا أصبح الحاكم الفعلي بالوكالة لولاية الجزائر منذ ديسمبر (كانون الأول) 1535م، وذلك لانشغال خير الدين بالأعمال البحرية ضد الأساطيل الإسبانية والأوروبية، وعلق المدني على حكم حسن أغا لهذه الولاية المهمة بالقول أنه حكمه يظهر أنه رجل الإدارة ورجل الحرب معًا.

ولم يكتفِ حسن أغا بتثبيت أركان الأمن، وترتيب الأوضاع الإدارية والاقتصادية في الجزائر وجوارها، إنما قام بأدوارٍ حربية قوية لإزعاج الإسبان في غرب البحر المتوسط، وفي عقر دارهم، فشنَّ في سبتمبر (أيلول) عام 1539 هجومًا بالغ الجرأة، تسلَّل خلاله بـ13 سفينة، و1300 بحار ومقاتل إلى منطقة جبل طارق في أقصى جنوب إسبانيا.

وقد باغت به العديد من القرى والبلدات الإسبانية في تلك المنطقة، وعاد محمَّلا بالغنائم والسبايا، لكن اعترض طريق عودته إلى الجزائر أسطول إسباني كبير، فدارت معركة بحرية شرسة تعرَّض فيها الجانبان لخسائر مؤثرة؛ إذ غرقت بضع سفن من الأسطوليْن، وقُتِل ما يقارب 800 إسباني، لكن نجح الأسطول الإسباني في استعادة ما يقارب 700 أسير كانوا بحوزة قوات حسن أغا، والذي نجح في العودة إلى الجزائر بباقي الأسطول في سلام.

أما خير الدين فمع اطمئنانه على أحوال الجزائر في ولايةِ مساعدِه الأمين، فقد تفرَّغ لإعادة بناء أسطوله وقواته، ونجح في شنَّ غارة قوية على جزر البليار الإسبانية غربي البحر المتوسط، ثم في عام 1538 ألحق أسطول خير الدين بربروس هزيمةً ساحقة بأسطول صليبي ضخم اشتركت فيها إسبانيا والبندقية، أكبر قوتيْن بحريَّتيْن في المتوسط آنذاك، قرب منطقة بريفيزا على السواحل اليونانية.

تاريخ

منذ 3 سنوات
معركة بريفيزا 1538.. أحد أكبر الانتصارات الإسلامية البحرية في البحر المتوسط

وأدت تلك الهزيمة البحرية المدوية إلى اتخاذ شارل الخامس قرارًا حاسمًا باجتياح مدينة الجزائر نفسها، باعتبارها مُرتكز المقاومة الرئيسة ضد إسبانيا في المتوسط، وحشد لذلك حملةً عسكريةً ضخمة العدد والعتاد من إسبانيا ومن كافة أرجاء أوروبا، وقرَّر أن يقودها بنفسه، بعد أن فشل في إقناع خير الدين بربروس في نزع ولائه من العثمانيين، مقابل أن يجعله شارل الخامس ملكًا تحت سلطانه على المغرب الإسلامي كاملًا.

إذ أراد شارل الخامس استغلال اهتزاز التحالف العثماني-الفرنسي، بعد تراجع فرانسوا الأول ملك فرنسا، بضغطٍ من بابا روما، عن تنفيذ اتفاقه مع سليمان القانوني لشن هجومٍ متزامن ضد شارل الخامس في إيطاليا عام 1538 في أعقاب هزيمة بريفيزا الساحقة.

معركة الجزائر 1541.. حين نصرتنا العواصف

لعلَّ أخطر دورٍ لعبه حسن أغا هو مسرح الأحداث هو قيادة الدفاع عن مدينة الجزائر ضد الحملة الصليبيية الضخمة التي قادها شارل الخامس بنفسه لاحتلال الجزائر في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1541 مستغلًا ابتعاد خير الدين بربروس عن الجزائر، وانشغاله بمهامه العامة باعتباره قائدًا عامًا للأسطول العثماني.

ويُقدِّر المؤرخ التركي يلماز أوزتونا عدد القوات التي حشدَها الإمبراطور شارل الخامس لغزو الجزائر، بأكثر من 36 ألف مقاتل وبحار، مُزوَّدين بترسانةٍ قوية من البنادق والمدافع الحديثة، تحملهم أكثر من 516 سفينة، منها 65 مُدمِّرة بحرية عملاقة.

إذ أراد شارل أن يستنسخَ تجربة نجاحه قبل ست سنواتٍ عام 1535 في استعادة السيطرة على تونس، وإعادة تنصيب ملكها الحفصي الموالي له، بعد عام من عزله على يد القوات الجزائرية العثمانية بقيادة خير الدين بربروس.

في المقابل كان المجموع الكلي للقوات المدافعة عن الجزائر لا يزيد عن 6 آلاف مقاتل، وكان العصب الرئيس لهم مكونًا من أقل من ألف من الإنكشارية العثمانيين، جيدي التدريب والتسليح، وحوالي 5 آلافٍ من المقاتلين الأندلسيين المُتحرِّقين دائمًا للانتقام من المحتلِّين الإسبان الذي استولوْا على وطنهم الأندلسي، يضاف إلى القوات السابقة المئات من المتطوعين ومقاتلي القبائل المختصين بحروب الكر والفر.

فما أن وصلتْ أخبارُ اقتراب الحملة الصليبية حتى أخذَ حسن أغا يحشد ما استطاع من القوات والذخائر، وأرسل إلى المناطق المجاورة لمدينة الجزائر يدعو القبائل إلى الجهاد في سبيل الله، كما راسل على وجه السرعة رئيسَه المباشر خير الدين بربروس، قائد الأسطول البحري العثماني، ينذرُهُ بالخطر الوجودي المُحدِق بالجزائر:

«لقد وصل العدو عليكم ليسبي أبناءكم وبناتكم، فاستشهدوا في سبيل الدين الحنيف. هذه الأراضي فتحت بقوة السيف ويجب الحفاظ عليها، وبعون الله النصر حليفنا، نحن أهل الحق» حسن أغا في خطبته بحامية الجزائر أثناء هجوم شارل الخامس الكبير عليها

وفي يوم 23 أكتوبر من نفس العام، كانت القوات الصليبية قد أكملت تطويق مدينة الجزائر برًا وبحرًا، ونصبت مدافعها على التلال الإستراتيجية خارجها، بينما اشتدَّت هجمات الكر والفر ضدهم، لاسيَّما من المتطوعين ومقاتلي القبائل الجزائرية.

بينما تحصّنت القوة المدافعة خلف أسوار المدينة المنيعة، وقلاعها الدفاعية، والمزودة بأكثر من 50 مدفعًا من أعيرة مختلفة، تتوزع في كافة الجهات، وكان قرار حسن أغا هو الانتظار لأطولِ وقتٍ مُمكنٍ قبل الخروج والهجوم لفك الحصار، وذلك لاستنزاف قوات شارل الخامس أولًا وخلخلة طرق إمداداتها عن طريق حرب العصابات، وكذلك لتوفير قواته وذخائره لإطالة المعركة إلى حين وصول الإمدادات مع خير الدين بربروس.

وفي هذه الأثناء خدمت الأقدار حسن أغا بشكلٍ استثنائي؛ ففي مساء يوم 24 أكتوبر اندلعت عواصف وأمطار شديدة دمَّرت الكثير من سفن الأسطول الصليبي، وأتلفت كميات كبيرة من ذخائر، وبارود، وبنادق الجيش الغازي، وحوَّلت الأراضي حول مدينة الجزائر إلى وحلٍ ومستقعات تعوق الأعمال البرية الهجومية، وحركة المدافع لقصف أسوار الجزائر. 

وفي مرونةٍ خططية تُحسَب له لم يُضِع حسن أغا الفرصة السانحة، فباغتت قواته بعد صلاة الفجر القوات الصليبية الأقرب للأسوار، والتي انسحبت بشكل مضطرب، وتعرَّضت لخسائر كبيرة، وما أن بدأت النجدات تصل من باقي القوات الصليبية حتى انسحب الجزائريون على الفور إلى وراء الأسوار بسرعة وبنظام؛ ليتعرَّض الصليبيون إلى نيرانٍ مكثفة من مدافع الأبراج الجزائرية، ومن الرماة الأندلسيين على الأسوار، والذين قنصوا المئات بسهامهم بعيدة المدى، وكانت حالة الذخيرة بالجزائر أفضل في المخازن المحصَّنة من المياه.

وفي الأيام التالية أكلمت العواصف تدمير الكثير من سفن النقل والإمداد الصليبية، وحملت الأمواج محتوياتها إلى الساحل فغنمها الجزائريون، وفي هذه الأثناء قام الأسرى المسلمون لدى الصليبيين بعمل انتحاري بطولي، إذ كان الآلاف من المسلمين يعملون جدّافين في السفن الحربية الصليبية بالإكراه، فاستغلوا العاصفة، وتمرَّدوا، وتوقفوا عن التجديف، فجرفت الأمواج العاتية سفنهم، واستشهد منهم المئات داخلها، بينما نجحت قوات حسن أغا في إنقاذ أكثر من 1400 من هؤلاء الأسرى المسلمين، وكذلك استمرت هجمات الكر والفر في إيقاع خسائر ثقيلة بقوات الحصار المرتبكة والمُشتَّتة.

«في عام 1541م، بيعَ بعض العبيد المسيحيين في أسواق الجزائر بسعرٍ أقل من سعر ثمرة من الثوم» *روجر كراولي، كتاب «إمبراطوريات البحر» 

وبالفعل أقرَّ شارل الخامس بهزيمته، وقرَّر التعجيل بالانسحاب من الجزائر بما بقى من الأسطول، قبل أن يداهمه أسطول خير الدين وهو في تلك الحالة المزرية، واكتمل الانسحاب السريع بحلول الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) 1541.

وبينما استشهد بضع مئاتٍ من مقاتلي الجزائر وسكانها وقبائلها، كانت خسائر قوات شارل الخامس ثقيلة، إذ سقط ما يقارب 12 ألفًا من الجنود والبحارة بين قتيلٍ وأسير، وغرق ما يقارب 200 سفينة، منها 30 سفينة حربية، كما دُمِّر وفُقِد أكثر من 200 مدفع، وأنعم السلطان العثماني سليمان القانوني على حاكم الجزائر حسن أغا برتبة «باشا» تقديرًا لقيادته الناجحة لمعركة الجزائر.

وبعد الانسحاب الصليبي بدأ حسن أغا في الاستعداد لجولة أخرى من الصراع حول الجزائر؛ إذ عملت قواته على انتشال وترميم أكبر قدر ممكن من مخلفات الغزاة لاسيَّما المدافع والسفن، وبدأ في طلب الإمداد من بالمال والرجال من المناطق الجزائرية الأخرى لاسيَّما تلمسان، وفي جلب المواد الخام اللازمة لصناعة السفن والذخائر، وكذلك استغلَّ زخم انتصار ولاية الجزائر العثمانية، وضمَّ العديد من المناطق الداخلية إلى نفوذ الجزائر، وانتقم من بعض القبائل التي قدمت العون لجيش الغزاة، استعدادًا للمحطة القادمة من الصراع.

الصراع على تلمسان.. نهاية النفوذ الإسباني

كانت منطقة تلمسان (في دولة الجزائر الحالية) ساحة لصراعٍ شرس بين زعاماتها المحلية لاسيّما من بني زيَّان، على السلطة، ففي كتابه «تاريخ الجزائر العام»، يسرد عبد الرحمن الجيلاني وقائع الصراع في تلمسان، وتذبذب زعمائها بين الولاء للعثمانيين أو للإسبان خلال النصف الأول من القرن السادس عشر الميلادي (العاشر الهجري) حتى ضمّها العثمانيون في نهاية المطاف عام 963هـ (1554م)، بعد جولاتٍ من الصراع ضد الإسبان وحلفائهم المحليين، ثم ألغوْا دولة بني زيّان نهائيًا، وضُمّت تلمسان إلى ولاية الجزائر العثمانية.

Embed from Getty Images

شارل الخامس

ويذكر المدني أنه بعد استعادة النفوذ الإسباني على تلمسان عام 1518، ووفاة الملك حمو الثالث الموالي للإسبان، حاول ملوك تلمسان المتتابعون أن يأخذوا موقعًا وسطًا بين النفوذيْن العثماني والإسباني، وتقلَّب ولاء بعضهم بين الطرفين وفقًا لمد وجزر القوتيْن في تلك المنطقة الملتهبة الصراع.

وفي هذا السياق فرض الإسبان معاهدةٍ مُذلّة الإسبان على ملك تلمسان محمد السابع عام 1535، مستغلين اهتزاز قوة خير الدين بربروس بعد هزيمة تونس في نفس العام؛ إذ أعلن ولاءه التام لشارل الخامس، والتزامه بتسليم كل المتعاونين مع بربروس، وأن يدفع جزية سنوية باهظة إلى الخزانة الإسبانية. 

وبعد انتصار الجزائر عام 1541 حاول محمد السابع التقرُّب من المنتصرين، فمنح إحدى القلاع التابعة لتلمسان إلى حسن أغا باشا، لكن هذا لم يمنعْ حسن أغا من التحالف مع الأمير أبي زيان أحمد أخي محمد السابع، والذي طلب دعمًا جزائريًا للانقلاب ضد أخيه، وبالفعل جاءه حسن بالمئات من القوات، وهزموا محمد السابع الذي لجأ إلى القاعدة الإسبانية في وهران المحتلة، وطلب مددًا إسبانيا كبيرًا، لكن حسن أغا وحليفه نجحا في إيقاع هزيمة ساحقة بمحمد السابع والإسبان، ونجا الملك المخلوع بصعوبة إلى وهران مطلع يناير (كانون الثاني) 1543.

لكن بحلول عام 1544 أرسل شارل الخامس حملة عسكرية ضخمة يقودها حاكم وهران الإسباني، وانضم إليها الآلاف من أتباع محمد السابع، ونجحوا في اقتحام تلمسان واستباحتها لأيام، وتنصيب محمد السابع ملكًا تابعًا لإسبانيا.

ولم يكد يهنأ بالملك حتى أعاد أبو زيان أحمد الكرَّة بدعمٍ من حسن أغا، وهزم محمد السابع، ونصَّب نفسه ملكًا على تلمسان مجدّدًا، بينما قُتِل محمد السابع أثناء محاولته حشد القبائل مجددًا لدعمه، وانشغل شارل الخامس آنذاك بالحرب مع فرنسا، وضد التمرد البروتستانتي في ألمانيا، فلم يرسل حملةً عاجلة جديدة إلى تلمسان، وما كاد ملف تلمسان الشائك يستقر إلى حين، حتى توفي حسن أغا باشا، وحلَّ محلَّه في ولاية الجزائر الأمير حسَّان بن خير الدين بربروس.

المصادر

تحميل المزيد