يزداد المعدن الأصفر بريقًا؛ يومًا بعد يوم، إذ يواصل الذهب رحلة صعوده بدعم من التشاؤم والخوف، اللذين يسيطران على الاقتصاد العالمي، فوفقًا لبيانات «ماركت ووتش»، ارتفعت أسعار الذهب العالمية خلال عام من الآن بنحو 28%، منها 16% خلال الأشهر الثلاثة الماضية فقط، بأكثر من 210 دولار للأوقية، وأكثر من 100 دولار في أغسطس (آب) الماضي، لكن، هل اقتربت رحلة الصعود من نهايتها؟ وهل وصل المعدن الأصفر إلى ذروته؟

بداية يجب أن ندرك أن الذهب هو أهم المعادن النفيسة وأكثرها انتشارًا، واقتناء الذهب رغبة دائمة لدى الأفراد والدول – متمثلة في البنوك المركزية- كما أنه الجزء الأهم من الاحتياطيات لدى الدول، ونظرًا إلى القيمة المادية والمعنوية التي يتمتع بها المعدن الأصفر، سرعان ما تحتمي البنوك المركزية به، في حال وجود مخاطر اقتصادية أو سياسية.

إضافة إلى ذلك؛ فالذهب هو الملاذ الآمن قديمًا وحديثًا؛ إذ يحتل المعدن الأصفر مكانة كبيرة في الاقتصاد العالمي، وهو المعيار الأمثل لتحديد غنى الأفراد والشعوب، وكان السبب الرئيس في العديد من الحروب، ودائمًا ما يرتبط اللجوء إلى الذهب بالخوف؛ ففي ظل حصول الأزمات السياسية والاجتماعية، مثل الحروب وغيرها، يكون اللجوء فوريًّا إلى الذهب.

فالتوترات السياسة أو الاقتصادية العالمية، تؤثر في ثقة الشعوب والمستثمرين، في استقرار الأوضاع، وهو ما يزيد من الخوف، ومعه يلجأ الجميع إلى المعدن الأصفر، وحاليًا لا يتركز الخوف في منطقة واحدة من العالم، بل إن جميع أنحاء العالم تقريبًا تشهد مجموعة من القلاقل المتفاوتة؛ لذلك سجلت أسعار الذهب العالمية مؤخرًا سلسلة من الارتفاعات.

لأول مرة في 6 سنوات.. الذهب يخترق مستوى 1550 دولارًا

خلال جلسة 26 أغسطس (آب) 2019، الجاري اخترق سعر الذهب مستوى 1550 دولارًا للأوقية (الأونصة)، وذلك للمرة الأولى في أكثر من ست سنوات، مع تهافت المستثمرين على الأصول الآمنة، بفعل تنامي النزاع التجاري بين الولايات المتحدة والصين، إذ يرى كارستن مينكي، المحلل لدى بنك «جوليوس باير» السويسري، أن ما يحدث للذهب بسبب التوترات التجارية، وما يرتبط بها من خطر تباطؤ عالمي، أو ربما ركود عالمي، هو ما يدفع المستثمرين صوب الملاذات الآمنة للاستثمار.

في مثل هذا الوقت من العام الماضي، بنهاية أغسطس 2018، كان  سعر أوقية الذهب في المعاملات الفورية 1201 دولار، بينما الآن نتحدث عن أسعار ما فوق 1500 دولار للأوقية، أي إن أرباح المعدن الأصفر خلال عام من الآن تجاوزت 300 دولار للأوقية، وهو رقم يبدو ضخمًا، ويشير إلى أوضاع غير طبيعية للسوق.

ومع اختراق مستوى 1500 دولار، الذي يعد مستوى مقاومة أساسي للسعر، بات السؤال عن اتجاه المعدن الأصفر في المستقبل القريب ملحًّا؛ فهل سيكمل الذهب رحلة الصعود؟ أم أنه قد وصل إلى الذروة؟ وفي الواقع لا يبدو هذا السعر هو الذروة بالنسبة لبنك «يو بي إس جروب»، الذي يتوقع أن يواصل المعدن النفيس مكاسبه في ظل تأثير النزاع التجاري بين الولايات المتحدة والصين سلبًا في النمو.

وعدل محللو البنك، رؤيتهم لتداول الذهب خلال الأشهر الثلاثة القادمة، إلى مدى يتراوح ما بين 1450 دولارًا و1600 دولار للأوقية، بينما يرى البنك أن السعر قد يستقر عند 1600 دولار بعد ستة أشهر، ثم 1650 دولارًا للاثني عشر شهرًا القادمة.

هل يمكن أن يصل الذهب إلى 2000 دولار حقًا؟

لا يرى محللو «جولدمان ساكس» أن اختراق مستوى 1500 دولار كان نهاية صعود الذهب، بل هي مجرد بداية، فبحسب ما ذكرت وكالة «بلومبرج» يتوقع المحللون في البنك الأمريكي أن ترتفع الأسعار إلى 1600 دولار للأوقية، على مدار الأشهر الستة المقبلة، وذلك في ظل التوترات التجارية المتزايدة بين الولايات المتحدة والصين، وجاذبية الذهب بصفته تحوطًا للاضطرابات المالية.

لكن يظل شرط استمرار المخاوف هو الأساس في استمرار رحلة الصعود، خاصة أن حيازات الذهب بصناديق الاستثمار المتداولة في البورصة تواصل تسجيل أعلى مستوياتها، في ظل موجة خفض أسعار الفائدة، التي اجتاحت عشرات البنوك المركزية في العالم.

مايكل ويدمر من بنك «أوف أمريكا ميريل لينش»، ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ إذ قال إن المعدن الأصفر قد يرتفع سعره  لنحو ألفي دولار في العامين المقبلين، مع ميل البنوك المركزية الكبير نحو خفض الفائدة، المصحوب بزيادة الأصول ذات العوائد السلبية، وهي عوامل توفر خلفية جيدة، يمكن أن تدعم الارتفاع لهذا المستوى، الذي اقترب منه في 2011، عندما وصل المعدن إلى 1921.17 دولار.

العالم والاقتصاد

منذ 3 سنوات
وصلت 13 تريليون دولار عالميًا.. لماذا ينتعش سوق السندات المالية السالبة؟

ويستند ويدمير في توقعاته إلى اعتقاده بأن هناك المزيد من التخفيضات المقبلة في أسعار الفائدة، بينما يرى محللون آخرون أن البيئة الحالية مواتية لمزيد من الارتفاع في أسعار الذهب؛ وذلك لأن الدول التي كانت تهيمن على اقتصاد العالم قد فقدت السيطرة، بسبب الحرب التجارية والتوترات الجيوسياسية.

هل يكون الدولار المحرك الرئيسي لسعر الذهب حاليًا؟

ويقول مازن سلهب، الخبير المالي والرئيس التنفيذي، والمؤسس لشركة «ماس» للاستشارات، إنه عندما ارتفع الذهب بقوة إلى مستويات قياسية بلغت نحو 1920 دولار في عام 2011، لم يكن بفعل الأزمة المالية، أو تراجع الأسهم، أو حالة الركود، بل كان بسبب ضعف الدولار الأمريكي نتيجة تريليونات التحفيز الكمي، وسياسة الفائدة القريبة من الصفر التي اتبعها الفيدرالي.

الأمر نفسه تكرر العامين الماضيين؛ ففي 2017، عندما سجلت أسعار الذهب أكبر زيادة سنوية في سبعة أعوام، لتنهي العام على مكاسب قدرها 13%، تزامنت الزيادة مع هبوط العملة الأمريكية، التي سجلت أسوأ عام لها منذ 2003، لكن الأمر انعكس في 2018، ففي الوقت الذي حققت العملة الأمريكية أقوى أداء سنوي في ثلاثة أعوام، بارتفاع المؤشر 4.4%، كانت أسعار المعدن الأصفر تسجل أول انخفاض سنوي لها منذ 2015.

حاليًا مع توقعات انخفاض الدولار، بعد أن خفض المركزي الأمريكي الفائدة في نهاية يوليو (تموز) الماضي، للمرة الأولى منذ عام 2008، وترك الباب مفتوحًا أمام مزيد من التخفيضات، فإن ما حدث في 2017 قد يتكرر ولكن بصورة أشد، وهذا السبب سيدعم الذهب، حتى لو تراجعت المخاوف العالمية بفعل اتفاق تجاري صيني أمريكي مثلًا.

374 طنًا مشتريات البنوك المركزية من الذهب في 6 أشهر.. ماذا يعني ذلك؟

تقول وكالة «بلومبرج» إن البنوك المركزية أضافت 374.1 طنًّا في الأشهر الستة الأولى من 2019، وهو ما ساعد على رفع إجمالي الطلب على السبائك إلى أعلى مستوى خلال ثلاث سنوات، وفقًا لمجلس الذهب العالمي، بينما من المتوقع أن يستمر هذا الاتجاه، بعد أن أظهر استطلاع حديث للبنوك المركزية أن 54% من المشاركين يتوقعون أن ترتفع الحيازات العالمية في الاثني عشر شهرًا المقبلة.

هذا الاتجاه يعني أنه من المرجح أن تستمر فورة شراء البنوك المركزية الذهب في السنوات القادمة، إذ إن البيئة الحالية، وسط ارتفاع الشك في عملات الأسواق الناشئة، ستكون سببًا وجيهًا لمواصلة دول مثل روسيا، وتركيا، وكازاخستان، والصين تنويع محافظها الاستثمارية، والاعتماد على الذهب؛ إذ إن صافي مشتريات القطاع من المرجح أن يبقى أعلى من 650 طنًا هذا العام.

وتمثل مشتريات البنوك المركزية من المعدن الأصفر حوالي 10% من الاستهلاك العالمي، وفقًا لمجموعة «أستراليا ونيوزيلندا المصرفية المحدودة»، ويقول «دويتشه بنك إيه جي» الألماني في تقرير له إن تراكم الذهب لدى البنك المركزي يعطي مجالًا أكبر للتشغيل، مستشهدًا بعوامل تشمل الهجرة التدريجية للأصول الاحتياطية مبتعدة عن الدولار.

ويجيب جيف كوري، الرئيس العالمي لأبحاث السلع في تلفزيون «بلومبرج» عن سؤال: لماذا تشتري البنوك المركزية في الأسواق الناشئة المعدن الأصفر؟ قائلًا: «لأنهم لا يريدون امتلاك الدولارات مع مخاطر العقوبات، والمخاطر الجيوسياسية، ومخاطر الحرب التجارية؛ لذلك فالحصول على الذهب ربما يكون الأكثر أمانًا».

ختامًا، لا يبدو مع هذه المعطيات أن المعدن الأصفر سيتخلى عن مكاسبه، حتى لو ذهب خطر الحرب التجارية، وتوقعات الركود، فهناك عوامل أخرى تدعم تماسك المعدن النفيس، وبحسب نيكولاس فرابل، المدير العام في «إيه. بي. سي بوليون»، فإن المعدن الأصفر يستمد القوة من الانطباع بأن المواقف التجارية تزداد تصلبًا، وأن الصين من المرجح أن تصبح أقل مرونة، بعد الطريقة التي غير بها الرئيس ترامب مواقفه وتصريحاته، على مدار الأيام القليلة الماضية.

العالم والاقتصاد

منذ 4 سنوات
الأرقام لا تكذب عادةً.. 2019 موعد الأزمة المالية الجديدة

المصادر

تحميل المزيد