لا تندلع حرب في البلدان النامية إلا وتظهر مجموعات مسلحة رديفة للقوات النظامية فيها، والعراق ليس استثناء، فلم يكن أحد ليتوقع أن تتوحد الفصائل المسلحة الشيعية تحت راية واحدة، خاصة إذا ما علمنا أنها تتبع أحزابًا وتوجهات مختلفة تمام الاختلاف حتى وإن كانت تتبع مذهبًا واحدًا، لكن سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على الموصل في التاسع من يونيو (حزيران) 2014 وتمدد التنظيم خلال أيام ليصل إلى مشارف العاصمة بغداد، كان كفيلًا بتوحيد هذه الفصائل والمليشيات وجمعها تحت راية واحدة، راية الحشد الشعبي.
هذا التوحيد جاء نتيجة فتوى دينية صدرت عن المرجع الشيعي الأعلى في العراق آية الله علي السيستاني بوجوب الجهاد الكفائي وحماية المقدسات لتنطلق نواة الحشد الشعبي، الذي ما لبث أن تحول إلى قوة عسكرية شبه نظامية تضم عشرات الآلاف من المقاتلين وبمعدات عسكرية تصل إلى مستوى تسليح الجيوش.
فتوى الجهاد الكفائي.. ألم ينته مبرر النشأة؟
ثلاثة أيام كانت فاصلة بين سقوط الموصل وإعلان الجهاد الكفائي، يوم الجمعة 13 يونيو (حزيران) 2014، وكان ذلك تاريخ إطلاق فتوى الجهاد الكفائي الذي دعت من خلاله المرجعية الدينية العراقيين من الذين يستطيعون حمل السلاح إلى التطوع للقتال دفاعًا عن العراق، وكان إطلاق الفتوى على لسان ممثل السيستاني عبد المهدي الكربلائي خلال خطبة الجمعة في كربلاء والذي قال حينها: «إن العراق وشعبه يواجه تحديًا كبيرًا وخطرًا عظيمًا، وأن الإرهابيين لا يستهدفون السيطرة على بعض المحافظات كنينوى وصلاح الدين، بل صرحوا بأنهم يستهدفون جميع المحافظات لا سيما بغداد وكربلاء والنجف، فهم يستهدفون كل العراقيين».
Embed from Getty Images
المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني
فتوى دينية كانت مؤطرة بظروف طارئة مر بها العراق، فهل ستنتهي نهاية فعالية هذه الفتوى مع نهاية الذريعة التي جاءت من أجلها؟ خاصة أن العراق أعلن النصر النهائي على «داعش»، يقرأ هذا التقرير حيثيات حل الحشد الشعبي وإمكانية ذلك في ظل أسباب ثلاثة.
1- ماذا لو شارك الحشد في الانتخابات التشريعية المقبلة؟
يعد عام 2018 في العراق عام الحسم في نظر كثير من المراقبين، وأهم ما سيحسم فيه قضيتا مشاركة فصائل الحشد الشعبي والأحزاب المسلحة في الانتخابات المقبلة التي ستجرى في 15 مايو (أيار) المقبل.
يشير الكاتب الدكتور عبد الخالق حسين إلى وجود سجال في الأوساط السياسية فيما يتعلق بنية بعض قادة الحشد الشعبي المشاركة في الانتخابات المقبلة، وأن هذه المشاركة ستكون في قائمة خاصة بالحشد تدعى «تحالف المجاهدين»، لكن هذه النية في المشاركة تصطدم مع مطالب أخرى من الحشد ذاته تطالب بعدم حرق ملف الحشد سياسيًا، وأن على من يرغب بالمشاركة في الانتخابات الانسحاب من الحشد أو عدم المشاركة باسمه، وأبرز من حذر من زج الحشد في الانتخابات هو القيادي البارز في منظمة بدر، كريم النوري الذي حذر من مخاطر جمة قد تنتج عن مشاركة الحشد في الانتخابات.
Embed from Getty Images
رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي
وعن مشاركة الحشد في الانتخابات وإمكانية ذلك من عدمه، يقول أستاذ العلوم السياسية محمد علي لـ«ساسة بوست» إن شارك الحشد في الانتخابات مع احتفاظه بالسلاح، فذلك سيقود إلى ما لا يحمد عقباه، وخاصة داخل البيت الشيعي، بحسب علي، ويضيف أن هذه المشاركة فيما لو تمت فإنها ستكون البذرة الأولى لحل الحشد الشعبي داخليًا، عازيًا ذلك إلى الرفض الأمريكي لهذه المشاركة التي قد تزيد من نفوذ إيران بحسبه، فضلًا عن الخلافات الداخلية بين مكونات الحشد.
تصريحات رئيس الوزراء العراقي حول عدم إشراك أي حزب سياسي يمتلك ذراعًا عسكريًا كان موجهًا للحشد أيضًا، وردة الفعل على الأرض لم تتأخر كثيرًا حيث استوعب التيار الصدري ذلك جيدًا وهو الذي يملك جناحًا عسكريًا خاصًا به يدعى «سرايا السلام» وهو في الوقت ذاته أحد أبرز وأهم مكونات الحشد الشعبي، إذ أعلن زعيم التيار الصدري «مقتدى الصدر» عن حل سرايا السلام وتحويلها إلى مؤسسة خدمية مدنية، وأمرها بتسليم السلاح إلى الدولة فضلًا عن تسليم مقراتها إلى الأجهزة الأمنية في غضون 45 يومًا.
2- هل سينتهي الحشد الشعبي مع انتهاء حقبة «داعش» بضغط أمريكي؟
أسدل الستار على ثلاث سنوات من الصراع الدامي في العراق الذي بدأ في يونيو (حزيران) 2014 وانتهى رسميًا في ديسمبر (كانون الأول) 2017، حرب شاركت فيها الولايات المتحدة وقادت تحالفًا دوليًا أدى في نهاية المطاف إلى استعادة العراق لكافة أراضيه، لكن ومع نهاية حقبة «داعش»، هل سينتهي كل ما جاء مع «داعش»؟
يقول أستاذ العلوم السياسية محمد علي لـ«ساسة بوست» لا يمكن أن ينتهي كل ما جاء مع «داعش» بين ليلة وضحاها، وخاصة التغييرات السياسية والعسكرية التي انبثقت في هيكلية الدولة العراقية المدنية منها والعسكرية، وإنه من غير الممكن حل تشكيلات الحشد الشعبي أو إدماجها في مؤسسات الدولة سريعًا، وعزا محمد علي ذلك إلى أنه في حال حل الحشد الشعبي سريعًا فإنه سيؤدي إلى فراغ أمني كبير خاصة في المناطق التي استعادتها القوات العراقية مؤخرًا، وأضاف علي أن الولايات المتحدة تدرك ذلك جيدًا، بحسبه، وعن الضغوط الأمريكية الموجهة صوب الحكومة العراقية فيما يخص إدماج الحشد الشعبي في المؤسسات المدنية أو العسكرية أو تسريح بعض المقاتلين، يضيف علي أن الولايات المتحدة تدرك جيدًا أن معالجة مثل هذا الأمر يستغرق بعض الوقت، وأن رئيس الوزراء العبادي لا يريد إدماج الحشد في المؤسسة العسكرية خوفًا من الانتقادات الدولية والحقوقية التي ستطاله.
Embed from Getty Images
وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيليرسون
وزير الخارجية الأمريكي، ريكس تيلرسون، قال في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي أن الميليشيات المدعومة من إيران التي حاربت «داعش» فى العراق يجب أن تعود إلى ديارها حيث تقترب المعركة من نهايتها، وأضاف تيلرسون أن جميع المقاتلين الأجانب يجب أن يغادروا العراق ويتركوا أبناءه ليعيدوا بناء بلادهم، في إشارة إلى بعض المقاتلين الإيرانيين المنضوين ضمن فصائل الحشد الشعبي.
تصريحات تيلرسون أعقبها بعد قرابة الشهر تصنيف الكونجرس الأمريكي حركة النجباء على أنها منظمة إرهابية، حيث صنف الكونغرس الأمريكي في منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي حركة النجباء أحد أبرز فصائل الحشد الشعبي تنظيمًا إرهابيًا، ودعا الكونجرس الرئيس دونالد ترمب لتطبيق القرار واتخاذ الإجراءات اللازمة لذلك خلال فترة لا تزيد عن 90 يومًا.
في تقرير لموقع «ALMONITOR» جاء فيه «إنّ معركة التصنيف الإرهابيّ التي تريد واشنطن خوضها ضدّ بعض فصائل الحشد الشعبيّ، ستفتح جبهة جديدة في الصراع داخل الأراضي العراقيّة، إن لم يكن ذلك أمنيًّا وعسكريًّا، فسيكون سياسيًّا، لكن هذه المرّة بمؤشّرات خطرة، منها ردّ فعل تلك الفصائل والموقف الذي يمكن أن تتّخذه من حكومة العبادي». تصنيف الولايات المتحدة لحركة النجباء على أنها إرهابية جاء أيضًا بعد أقلّ من شهر على وصف المتحدّثة باسم الخارجيّة الأمريكيّة «هيذر ناويرت»، نائب رئيس هيئة الحشد الشعبيّ أبو مهدي المهندس بـ«الإرهابي».
3- هل ستسهم الانقسامات الداخلية في تفكك الحشد الشعبي؟
في دراسة لمركز كارنيغي للشرق الأوسط نشر في أبريل (نيسان) الماضي، صنف المركز الحشد الشعبي إلى ثلاث مجموعات متمايزة، وجاء تصنيف المركز للحشد استنادًا إلى ولاءاتها المختلفة بين كل من آية الله الخامنئي في إيران، والمرجع الشيعي في العراق آية الله علي السيستاني، وزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر.
الحشد الشعبي الذي يتكون من نحو 50 فصيلًا يضم نحو 110 آلاف مقاتل، حسبما اعترف بذلك البرلمان العراقي، وتضيف دراسة مركز كارنيجي للشرق الأوسط أنه «من المحتمل أن تخدم البنية المشاكسة للحشد الشعبي باعتبارها صمام أمان لضمان ألا تُستخدم المنظمة أي الحشد باعتبارها منصة للاستيلاء على الدولة، فالجماعات المُنضوية تحت لواء السيستاني والصدر ستجتهد لمنع قيادة الحشد المتحالفة مع المالكي من استعمال نفحة القداسة التي تُضفى على الحركة لإعادة السيطرة على السلطة، والحال أن الاختلافات بين الأجنحة تشي بطبيعة الصراع الدائر للإمساك بزمام الدولة العراقية»، حسبما جاء في التقرير.
الخلافات داخل الحشد الشعبي بدأت تظهر للعلن، إذ تصاعدت حدة المنافسة داخل أروقته، وسعي شخصيات نافذة داخل الحشد إلى المشاركة في الانتخابات القادمة، وأنهى رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض مهمة النائب أحمد الأسدي ناطقًا رسميًا باسم الحشد، وكان الخلاف بين الاثنين قد نشب نتيجة رفض أحمد الأسدي إعلان رئيس هيئة الحشد فالح الفياض تشكيل حركة «عطاء» السياسية لخوض الانتخابات المقبلة، دون أن يستقيل من مناصبه الأمنية باعتباره رئيسًا للهيئة ومستشارًا للأمن الوطني في آن معًا، وهو ما عدّه أحمد الأسدي مضرًا بسمعة وهيبة الحشد الشعبي، وإحراجًا للأخير أمام المجتمع العراقي والدولي.
مشكلة أخرى لا تقل عن سابقتها تبرز بين مكونات الحشد الشعبي، إذ يقول أحد أعضاء مجلس النواب العراقي لـ«ساسة بوست» والذي فضل عدم الكشف عن اسمه، إن خلافات كبيرة ظهرت للعلن بين اثنين من أكبر قادة الحشد الشعبي وهما أبو مهدي المهندس وهادي العامري، ويضيف السياسي العراقي أن هادي العامري يدرك جيدًا ما يجول في أروقة السياسة الأمريكية ويفضل التماهي معها وعدم الاصطدام، بينما يصر المهندس على المضي قدمًا في ما تخطط له إيران وبقوة.

قيادات الحشد الشعبي هادي العامري وقيس الخزعلي وأبو مهدي المهندس – المصدر: موقع عصائب أهل الحق
الانقسامات الشيعية – الشيعية ليست داخل الحشد الشعبي فقط، بل امتدت إلى التحالف الوطني وهو أكبر كتلة برلمانية شيعية في البرلمان، إذ تشير المصادر إلى وجود خلافات وانقسامات كبيرة داخل أروقة التحالف ما بين مؤيد لبقاء الحشد الشعبي ومعارض لبقائه وداعيًا إلى حله، ما ينذر باحتمالية أن يستخدم سلاح الحشد ذاته في الصراع الشيعي – الشيعي، وهذا ما ذهب إليه الخبير الأمني حسن العبيدي الذي تحدث لـ«ساسة بوست»، والذي أشار إلى أن المرحلة القادمة قد تشهد صراعًا دمويًا داخل البيت الشيعي، وهذا ما تدفع أمريكا باتجاهه.
وأضاف العبيدي أن العراق شهد حربًا ضروسًا ضد «داعش» استقرت على إثرها المناطق السنية لصالح الولايات المتحدة إلى حد كبير فضلًا عن قبول شعبي سني بالتواجد الأمريكي، وهذا ما كان عليه الوضع عام 2003 لكن في مناطق الوسط والجنوب الشيعية، والآن انعكست الآية، وختم العبيدي حديثه لـ«ساسة بوست» بالقول إن الأشهر الأربعة القادمة ستحدد مصير الحشد الشعبي ومناطق الوسط والجنوب بصورة عامة.