في ما يرجح أن يكون آخر كتبه، يحاول وزير الخارجية السابق هنري كيسنجر تبرير كل ما اتخذه من مواقف.
بلا شك يعتبر هنري كيسنجر حالة فريدة في السياسة المعاصرة بجمعه بين عمق التفكير وسجل حافل كرجل دولة. وإذا اتخذت الطبيعة مجراها، فإن أحدث كتبه (النظام العالمي) سيكون آخر كتاب يؤلفه، أخذًا في الاعتبار أنه يبلغ من العمر 91 عامًا.
يعتبر كتاب النظام العالمي محاولة من كيسنجر لتوحيد كل ما عمل عليه يومًا في إطار نظري واحد. فالكتاب بمثابة بحث عن النظام العالمي الجديد الذي يمكنه أن يشمل كل الأنظمة الإقليمية القائمة، ولكنه أيضًا محاولة منه لتبرير كل ما اتخذه من مواقف أثناء حياته كسياسي والتي امتدت نحو سبعة عقود.
على مساحة 84 صفحة فقط، يلخص كيسنجر تاريخ أوروبا منذ 474 بعد الميلاد وحتى يومنا هذا. وبالنسبة له كان السلام في ويستفاليا عام 1648 الذي وضع حدًا للحرب التي استمرت ثلاثين عامًا بين الكاثوليك والبروتستانت وانتهت باتفاق يقضي بعدم تدخل كل من الطائفتين في شؤون الطائفة الأخرى. فبدلاً من البحث عن نظام كوني واحد مثل ما حدث في الصين الإمبريالية أو في أوائل ظهور الإسلام، طورت أوروبا نظاما أحاديًا لدول تتنافس مع بعضها. وجرى الحفاظ على النظام العالمي عبر توازن القوى.
تغطي فصول الكتاب المتعاقبة مفهوم النظام العالمي في بداية ظهور الإسلام وفي بلاد فارس وفي آسيا وأخيرًا إلى النهج الأمريكي.
يعيب الكتاب محاولته اللحاق بالتطورات الحالية، على سبيل المثال محاولته تغطية صعود تنظيم داعش، لكن قيمة كيسنجر تكمن في وجهة نظره في التاريخ. كما أن الكتاب غير مقنع في ما يخص مستقبل القارات الخمس.
يقول كيسنجر إننا أمام نقطة تحول تاريخية. فانهيار الاتحاد السوفييتي لم يؤدِ إلى نهاية التاريخ وقبول العالم بالقيم الغربية. ولكن بدلًا من ذلك، تواجه العالم الحر تحديات من قوى جديدة صاعدة. يعتقد كيسنجر أن التهديد الرئيس مصدره صعود الصين وصدامها مع القطب الأوحد وهو الولايات المتحدة. فالصين ترفض أن تلعب دورًا في نظام عالمي لم تشارك في تشكيله، ولا تقبل بقواعد لم تساهم في وضعها.
يعتقد كيسنجر أنه يمكن تجنب تكرار التاريخ لنفسه عبر تدشين علاقة جديدة بين القوى العظمى مبنية على نظام ويستفاليا وتوازن القوى، وأن يجري تطبيقه على نطاق عالمي وليس إقليمي. ما يجعل الكتاب ذا أهمية، هو أن كيسنجر يحاول تبرير الأفكار الثلاثة الرئيسية التي حكمت حياته السياسية وطريقة تفكيره.
تتمثل الفكرة الأولى في التنافس الدبلوماسي بين الواقعيين والمثاليين. ويظهر موقفه بجلاء عبر اختياره لشخصيات مثل ريتشيليو وتاليراند وميترنيتش وتيدي روزيفلت. كما يهاجم بشدة وودرو ولسن، مؤسس تيار المثاليين في السياسة الخارجية الأمريكية. فهو يؤمن بأن الإفراط في التفكير المثالي يشكل خطرًا على السياسة الخارجية.
الفكرة الثانية هي إعجابه الكبير بتوازن القوى كنظام لإدارة العلاقات بين الدول. يعتقد كيسنجر أن هذا النظام يتجاوز الحدود الزمانية والمكانية. وبالطبع كانت أعظم إنجازاته في السياسة الخارجية هي إمالة ميزان القوى نحو أمريكا من خلال فك الارتباط بين الصين والاتحاد السوفييتي عام 1972.
تتمثل الفكرة الثالثة في مبدأ عدم التدخل. يتحدث كيسنجر بإعجاب عن هذا النظام في آسيا الحديثة، والمقصود به هو أن أية خلافات تنشأ بين الدول يتم حلها بهدوء دبلوماسيًا عوضًا عن الحرب.
من الصعب الاتفاق مع ما طرحه كيسنجر من أن إقامة نظام عالمي جديد يتطلب منا العودة إلى النظم التي كانت مطبقة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. فقد تغير العالم، وبالكاد أتى على ذكر الإرهاب رغم أنه أكبر تحدٍ يواجه العالم اليوم. يحاول كيسنجر تجنب اندلاع تنافس بين الأيديولوجيات، لكن هذا ما نحن فيه الآن، فالنظام العالمي كما تراه الصين لا يشابه النظام العالمي الذي يراه الغرب.