عند الحديث عن دولتين غالبًا ما يكون الحديث عن حكومتي البلدين وتاريخهما السياسي من الصراع أو التحالف، وأحيانًا يتطرق الحديث للجغرافيا المشتركة، لكن من النادر أن يُذكر شخص واحد بصفته الفردية، خاصةً إذا كان الحديث عن دولتين متناحرتين مثل كوبا والولايات المتحدة الأمريكية، فدائمًا هناك أزمة دبلوماسية بين الطرفين وصراع عميق غني بالأحداث والكلمات.
أبقت الولايات المتحدة على جانبها من القصة الإنسانية، حين احتفظت في مكتباتها الوطنية بالأعمال الكاملة للشاعر والوطني الكوبي خوسيه مارتي، الذي تحدث عن الحياة السياسية والثقافية في الولايات المتحدة، لتظهر أنها قادرة على تجاوز الصراع العتيق وأنها لا تُعادي الشعب الكوبي أو ثقافته، بل تعادي حكوماته المتعاقبة فحسب.
في الجهة الأخرى، احتفظت كوبا باسم هنري ريف، أطلقه الرئيس الكوبي فيدل كاسترو على الوحدة الطبية الأشهر عالميًا في هذه اللحظة، الوحدة التي تُصدر الأطباء الكوبيين لدول العالم في ذروة أزماتهم كما هو الحال عام 2020 في جائحة كورونا الوبائية، حيث حطت الطائرات الكوبية حاملة جنود الجيش الأبيض إلى دول عدة، على رأسهم إيطاليا التي عانت واحدةً من أسوأ سيناريوهات جائحة كورونا.
لكن المختلف أن اسم هنري ريف لا يتكرر كثيرًا، نادرًا هو الوصف الأدق، في الإعلام الأمريكي، فكأنما نسيته الولايات المتحدة أو تريد نسيانه. خاصةً واسمه يتردد مع اسم الوحدة في دول عديدة من العالم، فالوحدة فاعلة منذ تاريخ إنشائها عام 2005، ووفقًا لاعتراف منظمة الصحة الأمريكية، فإن الوحدة حتى عام 2017 كانت قد ساعدت 3.5 مليون شخص في 21 دولة مختلفة تعرضت لكوارث متباينة، مثل الزلازل والفيضانات، وحالات أوبئة سابقة مثل تفشي الإيبولا في غرب أفريقيا عام 2014.
ساكن نيويورك الذي سافر إلى كوبا رغبة في تحريرها
عام 1868 قاد مالك الأرض الكوبي كارلوس مانويل دي سيسبيديس انتفاضة ضد الحكم الإسباني لكوبا، حرر ممتلكاته في الجزء الشرقي من الجزيرة وحرر عبيده وأقام جيشًا لمقاومة الإمبراطورية الإسبانية.
استمرت مقاومته 10 سنوات وكلفت كارلوس حياته، لكن الانتفاضة التي أطلق شراراتها جذبت العديد من المتطوعين الكوبيّين والأجانب، وكان أحدهم من سكان نيويورك ويدعى هنري ريف.
كان هنري ريف مقاتلًا في حرب الاستقلال الكوبية، وُلد عام 1850 في الولايات المتحدة الأمريكية، لكنّه قاتل ضمن صفوف الثوار الكوبيين. يسود حوله اعتقاد كوبيّ أنه بريطاني المولد والجنسية بسبب اشتهاره في الأوساط الكوبية بلقب الإنجليزي، لكنّه كان مجرد لقب أُطلق عليه لتحدثه بالإنجليزية ولم يكن له علاقة بإنجلترا.
قضى هنري 19 عامًا في الولايات المتحدة، حارب فيها ضمن صفوف قوات الشمال الأمريكي، ثم هاجر إلى كوبا على متن السفينة بيريت، وكان فردًا وسط سفينة من المتطوعين في الحرب ضد الإسبان، يقودهم توماس جوردان وفرانسيسكو خافيير سيسنيروس.
رافق هنري ثوار كوبا لأنه يؤمن بما يؤمنون به، مناهضة الاستعمار ورفضه تحت أي مسمى، وأيضًا رفض مبدأ توقيع العقوبات من دولة على دولة أخرى لإخضاعها سياسيًا.
بتلك المبادئ قاتل أيضًا في الحرب الأهلية الأمريكية، إلا أن روايةً أخرى تقول إنه كان أصغر من المشاركة في الحرب الأمريكية، أو حتى لينضم إلى جيش الاتحاد مقاتلًا فيه، لكن ما اتفقت عليه جميع الروايات أنه عمل لفترةٍ في عزف الطبول في جيش الاتحاد إبان الحرب الأهلية الأمريكية، وأنه خرج من تلك الحرب ناقمًا على عقوبة الإعدام وعلى قاهري العبيد، ولما كان الإسبان أسوأ من يُعامل العبيد فكان كرهه لهم أشد.
وفاة عازف الطبل الأمريكي وولادة المقاتل الكوبي
أذاب إيمان هنري بثورة الكوبيين فارق اللغة والعادات سريعًا بينه وبينهم، فتأقلم على الأجواء والعادات وتكيّف مع الجزيرة، وأتقن الإسبانية كما لو كان كوبيًا أصيلًا. وإذا أضفنا خبرته الحربية التي اكتسبها سريعًا، لن يكون مفاجئًا أن يستطيع بعد سبع سنوات وثلاثة أشهر من دخوله جيش التحرير الكوبي أن يصل لرتبة عميد، وهي الترقية التي ستصبح أمرًا بديهيًا حين تعلم أنه شارك في 400 معركة منذ وصوله، وأًصيب أكثر من 10 مرات، وفقد إحدى قدميه تقريبًا.
إحدى تلك الإصابات، وأولها، هي حادثةٌ تتناقلها الأجيال الكوبية المتعاقبة بنبرةٍ يمتزج فيها الرعب مع الإعجاب، حين وقع هنري بعد دخوله كوبا بأسبوعين في يد فرقة إعدام إسبانية بالقرب من لاس كازابلاس عام 1869، أطلقوا عليه 4 رصاصات استقرت جميعها في جسده فسقط فورًا فاقدًا للوعي، فرّ الجنود الإسبان قبل أن يتأكدوا من موته، والمفاجأة أنه لم يزل على قيد الحياة.
لم تكن الرصاصات قاتلة فاستعاد وعيًا ضبابيًا بعد بضعة ساعات، وظل يتجول في الغابة على غير هدى ينتظر الموت جراء فقد الدم أو الاغتيال إذا رآه الإسبان مرة أخرى، لكن عثر عليه المقاتلون الكوبيون فأخذوه ومنحوه الرعاية الطبيّة اللازمة حتى استعاد عافيته.

الطابع البريدي التذكاري لهنري ريف
يقول الكوبيّون إنه في تلك اللحظة وُلد هنري المامبي، و«مامبي» هي الكلمة التي كانوا يشيرون بها لمقاتل الاستقلال الكوبي. إذ تقول رواية أخرى أن هنري لم يأت لكوبا ثائرًا أو مقاتلًا بل مستكشفًا فحسب، وجاءت حادثة فرقة الإعدام الإسبانية لتجعله يُغيّر مساره تمامًا.
وإذا صحت تلك الرواية، يكون الإسبان أنفسهم، بحادثة القتل تلك، هم من حوّلوا هنري من شاب وسط جموع عديدة لاسم مميز لفت انتباه زعيم الاستقلال الكوبي إجناسيو أجرامونتي، ليطلب الزعيم اللقاء به.
ابن العشرين يروي أسطورته بالدم
أُعجب الزعيم بمبادئ الشاب المتجاوزة للقوميات والساعية لتحرير الدول مهما كان توجهها فعيّنه عضوًا في هيئة الأركان العامة، ليصبح هنري ركنًا أساسيًا في حرب الاستقلال الكوبية التي استمرت 10 سنوات.
في 8 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1871 شارك هنري جنبًا إلى جنب مع أجرامونتي في عملية إنقاذ خوليو سانجيلي، عميد كوبي أسره الإسبان، وتُعتبر تلك العملية من أجرأ العمليات في التاريخ الكوبي المعاصر، إذ استطاع هنري وأجرامونتي بجانب 34 جنديًا آخر أن ينقذوا قائدهم من قبضة 120 جنديًّا إسبانيًّا.
وبعد العملية ظل هنري بجانب الزعيم خطوةً بخطوة حتى عام 1873. وفي 11 مايو (آيار) عام 1873 قتل الإسبان الزعيم أجرامونتي في معركة جيماجيو، وكان هنري بجوار رفيقه في لحظاته الأخيرة، وحينها أقسم ألا يغادر الأراضي الكوبية إلا منتصرًا أو مقتولًا، والأهم أن يثأر لرفيقه قبل أي شيء.
تطلق كوبا على بعثاتها الطبية التي ترسلها وقت الأزمات الصحية والأوبئة «كتائب هنري ريفس».
ازداد نشاط هنري واشتعلت حماسته، حتى دوّن ذلك زعيم الاستقلال ماكسيمو جوميز في مذكراته الحربية. ويحكى أنه في إحدى العمليات قفز فوق بطارية مدفعية إسبانية ليحث جنوده على مواصلة العملية؛ رفع هنري معنويات المقاتلين الكوبيين، لكنه أصيب بجروح خطيرة في ساقه.
قال الأطباء إنه لن يستطيع المشي أو ركوب الخيل مرةً أخرى، لكنّه تمكن من المشي باستخدام العكازات المعدنية، واعتاد ركوب الخيل بعد ربط جسده بحامل خشبيّ يجعل جسده منتصبًا على الحصان.
برصاصه لا برصاص الإسبان
تحولت الأمور عند هنري لثأر خاص يسعى له بأي ثمن، فمرةً أخرى، جدّد الإسبان دوافعه لمواصلة قتالهم.
في 4 أغسطس (آب) عام 1876 في معركة سابانا دي ياجواراماس أصيب ريف بثلاث رصاصات، ولم يعد قادرًا على الفرار من أرض المعركة، كما كانت نجاته من الموت احتمالًا ضئيلًا لذا قرر أن يُطلق النار على نفسه من مسدسه.
قرار إطلاقه النار على نفسه لم يثبت بشكل قاطع، إنما هي روايات يتداولها الكوبيون وتتفق معهم معظم المصادر الأجنبية، لكنها تبدو خاتمةً مناسبةً لرجل لم يتخل عن مبادئه لحظةً، ولم يستسلم رغم ما واجهه من شدائد، وأراد أن تنتهي حياته بمسدسه هو لا برصاص الإسبان، وربما تكون خاتمةً وضعها الكوبيون لتضفي مزيدًا من الأسطورية على حياة هنري ريف.
سيرةٌ تبدو موجزة، لا تفاصيل فيها عن زواجٍ وأولاد، أو تقلبّات فكرية أو تتبع لحياة هنري داخل الأراضي الكوبية وسرد تفاصيل أكثر عن حياته هناك، لكن كل ذلك سيبدو منطقيًا حين تعلم أن هنري مات وقد بلغ لتوّه 26 عامًا فحسب، فلم يتسع له المقام ليؤرخ لحياته ولم يعش في فترات السلام الكوبيّة كي يهتم المؤرخون بتتبع حياته، ولم تنل كوبا استقلالها إلا بعد وفاته بـ20 عامًا.
أغلب ما يعرفه الكوبيون المعاصرون عن هنري هو أسطورته، ومعهم أدلة رسمية بسيطة على وجوده مثل الطابع البريدي الذي أصدرته الحكومة يوم وفاته عام 1876 تكريمًا له. ثم لاحقًا في سبتمبر (أيلول) 2005 أصدر فيدل كاسترو قرارًا بإنشاء وحدة من الأطباء المتخصصين في الكوارث والأوبئة الخطيرة، وسماها كتائب هنري ريف الدولية تخليدًا لذكراه.