لا يحتاج الأمر إلى وقت كي يجري تمييز الطفل الـ«هاي نيد» أو الطفل ذي الاحتياجات العالية، يبدو الأمر جليًّا منذ لحظة الولادة، في حالة رقية عبد العظيم، الأم الثلاثينية، كان الأمر واضحًا بعنف: «عقب ثلاثة أيام من ولادتي بدأت المأساة، كان صغيري يصرخ طوال الوقت، ولم أكن من الأمهات اللائي يؤمن بأن الأطفال قد يبكون دون سبب، لذا كنت أواصل التفتيش في ملابسه بحثًا عن سر البكاء عقب انتهائي من تغيير الحفاضة وإرضاعه وحتى تغيير ملابسه كاملة».
تقول رقية: «أقول في نفسي ربما هي شعرة التفت حول إصبع في قدميه، أو ربما نملة تسللت إليه في غفلة مني، إذن هو المغص، هكذا كنت أجوب المنزل بينما جرح الولادة القيصرية الحديث يؤلمني بشدة، لكن طفلي حديث الولادة هو من كان يقرر الطريقة التي سوف يصمت بها».
تصف رقية لنا الأمر كي نتخيله معها: «علي أن أقطع المنزل كاملًا جيئة وذهابًا لوقت طويل وإلا فالويل لي، هكذا صرت أكره الليل، وأكره تلك اللحظة التي سينام فيها الجميع ويتركونا وحدنا، كنت أشعر بهلع، كأن البحر من خلفي والعدو أمامي، هذا الصغير الذي لا يتخطى وزنه ثلاثة كيلوات لن يتركني حتى الصبح.. كان الأمر مخيفًا ومرهقًا إلى حد بعيد».
«ثمة شيء خطأ.. الأمور ليست طبيعية»
كانت الأمور تتفاقم يومًا بعد آخر، حتى صار عمره ست سنوات، المجهود الذي يتطلبه ليس مثل الذي تبذله قريناتها مع أطفالهن، في الواقع هو ليس كالأطفال الآخرين، يبدو الأمر وكأنها تقوم على خدمة 10 أطفال معًا، لكن أحدًا لم يكن يكثرث فهو بنظر الجميع طفل ككل الأطفال، مجرد طفل «متعب».
ليست حالة طبية.. فمن هو «الطفل ذو الاحتياجات العالية»؟
«الدين لا يمحو الغرائز لكن يروضها، والتربية لا تغير الطباع لكن تهذبها» *مصطفى السباعي
لن تعثر في بحث علمي منشور في دورية محكمة على مصطلح «الطفل الهاي نيد»، مع ذلك فإن المصطلح موجود ويجري استخدامه يوميًّا في كتب ومدونات ومقالات ومجموعات خاصة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تزخر بآلاف المشتركين الذين يشاركون تجاربهم حول أطفالهم ذوي الاحتياجات العالية.
بحسب موقع «هيلث لاين» الطبي فإنها «ليست حالة طبية تستحق التدخل الطبي»، لكنها حالة تتطلب تدخل الوالدين من أجل تعديل سلوك الصغير خلال مراحل عمره. فالطفل ذو الاحتياجات العالية هو طفل «صعب» و«متطلب» و«عصي على الإرضاء» لن تراه سعيدًا أبدًا أو شاعرًا بالرضا. الأمر الذي يجعله طوال الوقت سببًا في الإرهاق والإحباط لمن حوله.
في الواقع هو ليس طفلًا يهدأ حين تلبي احتياجاته، ففي اللحظة نفسها سيخلق هدفًا جديدًا، يجعلك تدور في دوائر لا نهائية من أجل تلبية احتياجاته اللانهائية، دون أن يتوقف أو يرضى أو تصل مسؤول الرعاية نظرة رضا واحدة منه.
لكن.. كيف أعرف أن طفلي من ذوي الاحتياجات العالية؟
يتميز الطفل «الهاي نيد» ببعض السمات التي قد تصل إلى 12 صفة، بحسب دكتور بيل سيريس، الطبيب والكاتب الشهير في مجال التربية، وهي السمات التي تُمكِّن مسؤول الرعاية أو تعديل السلوك من التعرف إليه بوضوح، والتي من أبرزها:
1- لا ينام.. يغفل بصعوبة ويستيقظ بسرعة البرق
تقول رشا عبد القادر، وهي أم لطفلة من «ذوي الاحتياجات العالية»: «ظللت لوقت طويل أعاني من مشكلات صحية بسبب تقطع النوم، صغيرتي لا تنام كبقية الأطفال. يتطلب الأمر الكثير من المجهود والمحاولات والترتيبات وبمجرد أن تغفو وأحاول أن أستأنف حياتي، تصحو من أقل صوت، فهي لا تصل إلى مرحلة النوم العميق الذي يعطلها عن الاستيقاظ، تصحو بسرعة البرق».
يفترض بحسب الدراسات أن ينام الطفل حديث الولادة من 14 لـ17 ساعة في اليوم، وينام حتى عمر 11 شهر من 12 لـ15 ساعة في اليوم. نتحدث عن نوم ليلي متصل مع قيلولات متقطعة، لكن الطفل «الهاي نيد»، طفل لا يعرف القيلولة، ينام بصعوبة ويستيقظ سريعًا خلال 20 لـ30 دقيقة على الأرجح، ولأنه نوم غير مريح فهو عادة يستيقظ صارخًا وغاضبًا.
2- يعاني من قلق الانفصال بصورة مرعبة.. «ظل أمه»
سنوات طويلة من الإجهاد مع فترات نوم قصيرة وبكاء متواصل دفعت حكمت سامح، الأم الثلاثينية إلى محاولة إيداع طفلتها الأولى حضانة كي تتمكن من رعاية شقيقتها حديثة الولادة، لكن الأمر لم يكن سهلًا بالمرة، تقول حكمت: «لا أستطيع ترك طفلتي أبدًا لدى أحد من أقاربي أو أصدقائي أو حتى والدها. تبكي وتلتصق بي باستمرار، وحين حاولت إيداعها حضانة تحول الأمر إلى مأساة».
مصدر الصورة: parenting.firstcry
التجربة ذاتها مرت بها رقية عبد العظيم مع ابنها: «لن أنسى تلك المرة حين قررت أن أكون حاسمة وأودعه حضانة وليحدث ما يحدث، لكنهم اتصلوا بي عقب رحيلي بثلث ساعة فقط، وبمجرد أن وصلت المنزل وطلبوا مني العودة سريعًا لأن ابني لم يكف عن الصراخ ثانية ويخشون عليه أن يصيبه مكروه من شدة البكاء»، وهي الأمور التي تتطابق مع سمات الطفل ذي الاحتياجات العالية.
3- لا يهدأ أبدًا.. شعلة طاقة لا تخفت
«أجهشت بالبكاء في أحد المطاعم مرة حين رأيت سيدة تجلس بهدوء تتناول طعامها بينما صغيرها الذي يماثل عمره ابني يجلس بهدوء إلى جوارها يبادلها النظرات بهدوء ويبتسم دون ضجيج، لم أتجرأ يومًا على وضع صغيري في كرسي مماثل، هو لا يهدأ. يومها أخذني زوجي لتناول الطعام بالخارج بعد أن عجزت عن طهي الطعام بسبب الالتصاق الغريب والبكاء المتواصل من طفلي، أراد تهدئتي لكنني انهرت حين رأيت المشهد»، تواصل رقية عبد العظيم حكيها عن صغيرها الذي يمتلك 10 سمات من صفات الطفل الهاي نيد.
4- يعجز عن التهدئة الذاتية.. وساعات متصلة من البكاء المستمر
ما زالت سمر أحمد تتساءل كيف مرت بكل ذلك الوقت دون أن تدرك أن ابنتها «هاي نيد» إلا مؤخرًا، تقول: «انضممت أخيرًا إلى مجموعة عبر موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» للأطفال ذوي الاحتياجات العالية، كانت السمة الأبرز لدى ابنتي عجزها عن تهدئة نفسها ما يجعلها تنفجر لحظيًّا كي أتدخل لتهدئتها، إذا نزل والدها من المنزل، إذا أخذت من يدها شيئًا مؤذيًا، إذا وجهتها إلى أي شيء».
تقول سمر خلال حديثها مع «ساسة بوست»: «تنفجر ذات الثلاث سنوات كما اعتادت منذ لحظة الولادة وحتى الآن بطريقة تحطم أعصابي، ولا تهدأ إلا حين أهدهدها وألبي طلبها، وإلا فالبكاء الهيستيري سوف يطاردني بلا توقف، وقد يستمر ساعات حتى ينقطع نفسها ويتحول وجهها إلى اللون الأزرق؛ ما يضطرني إلى التدخل فورًا وتنفيذ رغباتها».
5- طفل يتطلب اللمس باستمرار.. لا يمكن الابتعاد عنه حرفيًّا
لم يكن صغير رقية ينام إلا وهو يلامس وجهها أو كتفها، وبالرغم من أن هذه العادة منتشرة بين الأطفال الرضع، فإن صغير رقية عبد العظيم، لم يتوقف حتى عقب فطامه عن هذه العادة، إذ لا ينام إلا عقب أن تطول يداه ملامح وجهها: «منذ لحظة الولادة لم يكن يهدأ كبقية الأطفال بالتقميط واللف في بطانية مع إحكام جسده، الطريقة الوحيدة لتهدئته هي حضنه ولمسه وحمله على مدار الساعة دون توقف، ما أصاب حياتي بالشلل تقريبًا». الأمر الذي يؤكده متخصصون في التربية، فالطفل ذو الاحتياجات العالية، يرغب دائمًا في التلامس الجسدي والالتصاق بمسؤول رعايته الأول.
6- يتغذى على الضوضاء.. مؤثرات الصوت والتجمعات تطلق لنوبات غضبه العنان
ربما تلك هي السمة الأكثر وضوحًا في الأطفال ذوي الاحتياجات العالية، إذ أنهم لا يهدأون حين تقوم بتشغيل الضوضاء البيضاء الخاصة بتنويم الأطفال، وحين تخرج بهم وسط الزحام لن يناموا كبقية الأطفال، كما أنهم لن يشعروا بالإحراج في وجود الغرباء كبقية الأطفال، العكس صحيح، تزداد الحركة والبكاء والصراخ، يتحفز الطفل ذو الاحتياجات العالية في وجود مؤثرات وضوضاء؛ ما يجعلهم أكثر حركة وانفعالًا في وجود غرباء أو وسط التجمعات، لا يحتملون التغيير في محيطهم فيصيرون أكثر عصبية وانفجارًا عما هو عليه الحال في الظروف العادية.
والقبول بداية الحل
في مقاله بمجلة «سيكولوجي توداي» يروي الطبيب بنيامين هاردي تجربته في التعامل مع أطفال من ذوي الاحتياجات العالية قائلًا: «الحل يبدأ حين تتعامل مع ما يحدث على أنه عادي، وأن تعثر على الأمور المفرحة فيما يحدث، بحيث تعيد تشكيل أحداث يومك مع صغيرك بوصفها أمورًا طبيعية يمكن التعامل معها، بل ورائعة».
في كتابهما الأكثر مبيعًا «الطفل المتعب: التربية من الولادة وحتى سن الخامسة» يقول الزوجان ويليام ومارثا سيرس، من واقع تجربتهما مع أطفال من ذوي الاحتياجات العالية، إن وجود طفل بهذه الأوصاف أحيانًا ما يهدد الزواج من أساسه؛ ما يتطلب في هذه اللحظة التخلي عن الحرص المفرط، من أجل الحفاظ على كيان أكبر هو الزواج إذا ما تعارضت العناية بالطفل ذي الاحتياجات العالية مع استمرار الزواج.
قد يكون إنجاب طفل من ذوي الاحتياجات العالية متعبًا للغاية، وكذلك تربيته، لكن الشيء الإيجابي في الأمر أنه طفل ذكي ومضحك ولطيف حين يكون في مزاح جيد، كما أن النوبات السيئة على صعوبتها لا تدوم 24/7، بحسب مقال حول الأطفال ذوي الاحتياجات العالية؛ فإن المعايير العالية التي يتطلبها الصغير الـ«هاي نيد» قد تكون سببًا في حياة أفضل مع تقدمه في العمر؛ إذ لا يتنازل الفرد من تلك النوعية أبدًا عن معايير بعينها لشكل حياته.
صحيح أن التعامل معهم صعب، لكنه أيضًا ليس مستحيلًا، بحسب موقع دكتور سيرس، هناك مجموعة من التدابير التي يمكن من خلالها التعامل مع الطفل الـ«هاي نيد»، أهمها:
احسب حسابًا لنفسك
يجبرك الطفل الهاي نيد على الركض باستمرار؛ ما يدفعك رغمًا عنك لنسيان نفسك، تكتشفين فجأة أمورًا عديدة وقد سقطت منك، حتى إنك يمكن أن تنسي الاستحمام أو أخذ قسط من الراحة. تكتشفين مع الوقت أنك لم تعودي تنامين جيدًا رغم أنه تخطي عامه الثاني، وسط دوامة الطلبات اللانهائية تحتاج الأمهات بالذات لأن يتذكرن أنفسهم، ويحصلن على قسط من الراحة، هذه ليست رفاهية هذه ضرورة للبقاء على قيد الحياة.
دعيه يغضب.. لا بأس
ترغب كل الأمهات في أن يصير أطفالهن سعداء مبتسمين على الدوام، ولأجل ذلك يبذلن كل ما في استطاعتهن، لكن مهلًا، الطفل ذو الاحتياجات العالية لا يشعر بالرضا في الغالب. لا بأس من ممارسة تلك المثالية في الشهور الأولى، لكن عقب السنة الأولى يجب أن تبدئي في منحه مساحة كافية كي يكتشف نفسه وحدوده وقدراته، وأن يطور ردود أفعاله، لا بأس من تركه غاضبًا وساخطًا وباكيًا ما دام السبب غير قابل للتلبية وغير ضروري، تصرفي بدون كلام وبمنتهى الهدوء.
نامي فورًا حين ينام
صحيح أن لديك الكثير من المهام في المنزل وربما العمل، تنتظرين لحظة نومه بفارغ الصبر كي تتخلصي من الغضب والصراخ المتواصل، لكن في حالة الطفل ذي الاحتياجات العالية، سوف تكونين بحاجة إلى النوم فورًا حين ينام، لأنه بمجرد أن ينام يبدأ في استعادة طاقته بينما تفقدين أنت مزيدًا من الطاقة في الأعمال المنزلية والمهام اللانهائية؛ ما يجعل احتمال الصراخ والطلبات العديدة حين يستيقظ صعبًا.
اكتبي أكثر عن تجربتك
تجربتك ليست سهلة، يصل بك الطفل الهاي نيد عادة إلى الحافة حيث لا طاقة أو استيعاب، أنت بحاجة إلى الحصول على فاصل ومحاولة استيعاب الموقف، أبعديه عنك قليلًا في حضانة أو في رعاية الوالد أو أحد الأقارب وابدئي في الكتابة عن طفلك وتحديدًا صفاته والجوانب الإيجابية فيه، سوف يساعدك وجود دفتر يوميات مماثل على مساعدتك على تذكر كيف تمر الأوقات الصعبة جدًّا، وكيف يتطور طفلك ويتطور عامًا بعد عام، كما أنها سوف تذكرك بالأمور الجيدة بشأنه، كي تتمكني من التعامل معه.
توقفي عن مقارنته بأطفال الصديقات
طفلك ليس كالآخرين، مقارنة انفعاله المتواصل بهدوء ولطف الأطفال الآخرين سيشعرك بشعور مؤذٍ، الحل يبدأ حين نتخلى عن كل الأفكار المسبقة.
ما يحدث ليس خطأك
في مذكراته يحكي دكتور سيرس عن أن التطور الأكبر في شخصية صغيرته حدث حين بدأ يتقبلها كما هي، وليس بوصفها شيئًا خطأ عليه إصلاحه، أو باعتبارها غلطة يجب تصحيحها.
أنت أيضًا أم ذات احتياجات عالية!
المفاجأة أن أمهات الأطفال ذوي الاحتياجات العالية هن أمهات ذوات احتياجات عالية أيضًا، يحتجن مزيدًا من التفهم، ومزيدًا من التشجيع، ومزيدًا من المساعدة، وقليلًا من الانتقاد، فلا مانع من أن ترفعي صوتك بهذه الاحتياجات.