«الآلاف من هؤلاء يختفون في ظروف غامضة، والقليل منهم لهم أسماء بارزة؛ فهم يتمتعون بحساسية مفرطة تجاه الآخرين، وتجاه أنفسهم أيضًا، وهم يراعون مشاعر الآخرين دون الشعور بالضجر، فشجاعتهم ليست من قبيل التباهي، بل هي قدرة على الصمود»
هكذا وصف الكاتب البريطاني، إي. إم. فورستر في كتابه «Two Cheers for Democracy» الشخصية الحساسة، وكيف تعاني خلال مسيرتها، فتختفي أو تتميز، كل بحسب قدرته على الصمود.
حسنًا لا يصمد الكثيرون، وهبة الله حسن، واحدة من هؤلاء، فتقول خلال حديثها لـ«ساسة بوست»: «أنا شخصية حساسة جدًّا، هكذا يصفني الجميع، لأنني أتأثر لأقل فعل أو كلمة، للأسف لا أحد يقدر هذا، والمشكلة الحقيقية، أن الأمور تحدث بشكل عكسي، أتعرض للمضايقة ثم يغضب مني الآخرون، ويلقون باللوم علي، لا أحد يشعر بتلك اللحظة، حين تصدر كلمة أو موقف فأحزن بشدة، الأمر يشبه نيرانًا في صدري، تتعطل حياتي فجأة، لا أستطيع السيطرة على نفسي، وأبكي باستمرار لأبسط الأسباب».
تتحول حياة هبة مع الوقت، سيطر عليها الحزن منذ وقت ليس بالقليل، وصارت تشكو مشكلات جسدية عديدة إلى جانب تلك النفسية: «في المرة الأخيرة طلبت من طبيب الباطنة الذي يعالجني أن يصف لي دواء يعطل الإحساس، صرت أخشى على ابنتَي من بعدي، أخشى أن أنام في يوم فلا أستيقظ لفرط الحزن والتأثر من كلمة هنا أو موقف هناك».
هل هناك ما يسمى فعلًا بـ«الشخصية الحساسة»؟
«هناك من يولدون بهذه الحساسية التي لا شفاء منها تجاه كل ما هو قذر» *أحلام مستغانمي – «ذاكرة الجسد»
ظهر كتاب «الشخصية فائقة الحساسية» لعالمة النفس الأمريكية إلين إن آرون عام 1996، ليصبح خلال سنوات قليلة لاحقة أحد أكثر الكتب مبيعًا حول العالم، ويترجم للغات أخرى، الطبيبة النفسية التي تبلغ حاليًا من العمر 77 عامًا، كانت أول من صاغ المصطلح الذي أسست لأجله لاحقًا مؤسسة كاملة معنية بشأن الشخصية الحساسة حول العالم، بل تساعد أيضًا في التشخيص، عبر ثلاثة اختبارات للشخص نفسه وللأطفال وللأشخاص ذوي الإحساس العالي، فقد جرى وضع اختصار «HSP» ليرمز للشخصيات فائقة الحساسية.
لكن هل مقياس آرون للشخصيات الحساسة، دقيق حقًّا؟ هذا ما حاول مجموعة من الباحثين إثباته لاحقًا عام 2005، عندما جرى إخضاع مقياس آرون للدراسة والتمحيص، ليثبت عبر البحث أنه بالفعل صالح للقياس.
في دراسة لمجموعة من الباحثين، وجد أن هناك ما يسمى بـ«حساسية المعالجة الحسية» وهي سمة مرتبطة بحساسية أكبر واستجابة أشد للبيئة والمحفزات الاجتماعية، وهي «سمة» موجودة في ما يقرب من 10% من البشر وأكثر من 100 نوع آخر، وقد تبين عبر الدراسة أن الأفراد الذين يعانون من ارتفاع حساسية المعالجة الحسية يتأثرون بشدة بمزاج الآخرين.
حين تقرأ أكثر عن مواصفات الشخصية الحساسة، تتذكر فورًا وصف الطبيب النفسي الشهير الدكتور عادل صادق في كتابه «حكايات نفسية»، حين قال: «أما الألم النفسي فهو خبرة ذاتية جدًّا، شديدة الخصوصية، خبرة تختلف من إنسان إلى آخر، خبرة مرتبطة بنوعية الشخصية ودرجة الحساسية والثقافة، بل مرتبطة بطفولة الإنسان، خبرة مرتبطة بكيمياء المخ، التي تختلف درجة ونوعية الخلل الذي يصيبها من إنسان لآخر».
عمومًا تبين عبر سلسلة من سبع دراسات أن هناك مجموعتين متميزتين من الأفراد ذوي الحساسية العالية، المجموعة الأولى وهي مجموعة صغيرة تتميز بطفولة غير سعيدة وما يتصل بها من متغيرات، أما المجموعة الثانية وهي الأكبر، فحساسيتهم معتدلة، خاصة لدى الرجال.
كيف تعرف أنك شخصية حساسة؟
«يميل الناس إلى اعتبار سرعة التأثر أمرًا سيئًا، لكن هذا غير صحيح، تذكرنا الحساسية بإنسانيتنا» *جودي بلانكو من كتاب «أرجوكم لا تسخروا مني»
بحسب نظرية آرون، هناك مجموعة فرعية من الأشخاص يتمتعون بدرجة عالية من الحساسية أكثر من غيرهم، هؤلاء الذين تتوفر فيهم مجموعة من السمات البارزة منها:
- إدراك التفاصيل الدقيقة من حولهم.
- تأثير الحالة المزاجية للآخرين في الشخص الحساس.
- وصف الناس للشخص بأنه حساس وخجول.
- المحاولة بجهد لتجنب الوقوع في الأخطاء أو نسيان الأشياء.
- الشعور بالجوع الشديد يخلق رد فعل قويًّا ويعطل التركيز والمزاج.
- التغييرات في الحياة غير مقبولة وتهز الشخصية الحساسة بعمق.
- الاستثارة بشكل مزعج حين تحدث الكثير من الأمور حولنا.
- حياة داخلية غنية ومعقدة لا يعلم أحد عنها شيئًا.
- أن يكون ترتيب الحياة أولوية قصوى لتجنب المواقف المزعجة والمفاجئة.
- الانسحاب من الحياة الاجتماعية للاستمتاع بالخصوصية والراحة.
- من السهل أن تزعجهم أمور مثل الضوء الساطع، والروائح القوية.
- لا يحتملون المشاهد العنيفة في الأفلام والعروض التلفزيونية.
- لا يحتملون فكرة أن يكون لديهم الكثير ليفعلوه في فترة قصيرة.
بحسب دراساتها، فقد توصلت آرون بصحبة فريقها البحثي إلى أن 70% من الأشخاص الحساسين هم انطوائيون اجتماعيًّا، والمقصود بهذا عدم التحدث كثيرًا، وعدم الرغبة في مقابلة أشخاص جدد، وفي مقال لها بمجلة «سيكولوجي توداي» تقول آرون: «حساسيتهم تمتد لأن يكونوا حساسين للألم والكافيين، والضوضاء العالية، ولا يروق لهم الضغط وسيلةً للتحفيز».
وكيف تنجو؟
«إنها من الطراز شديد الحساسية والتوتر، كتلة أعصاب تمشي على قدمين، لا يوجد جهاز عصبي يتحمل كل هذا القلق» *أحمد خالد توفيق
عبر صفحتها الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي، قررت سارة محمد أن تخاطب كل من يعرفها لتخبرهم أكثر عنها لعلها تتمتع بوضع أفضل «أنا شخصية حساسة جدًّا، يمكن لتصرف بسيط أن يضايقني أو يؤذيني، دون أن يلاحظ حتى الآخرين أنهم فعلوا، تصرفات أو أحاديث عفوية يمكن أن تبقيني لياليَ طويلة أفكر في كم ضايقني ذلك، قد لا يظهر هذا للآخرين».
قد يتصور البعض أن الأمر متعلق بالناحية النفسية فقط، لكن مشكلة الحساسية، قد شخَّصها علماء المخ والأعصاب أيضًا، وقد ظهر هذا بوضوح عبر دراسة استخدمت الرنين المغناطيسي لملاحظة التغيرات في أدمغة الأشخاص ذوي الحساسية الفائقة؛ إذ تبين وجود نشاط قوي لمناطق الدماغ المعنية بالوعي، فسجل الأشخاص الحساسون استجابة ووعيًا أقوى من أقرانهم للمثيرات الحسية من حولهم.
عمومًا فإن الحساسية لا تتوقف عند المعاناة الشخصية والاجتماعية، لكنها ترتبط بمتاعب صحية ونفسية، الأمر الذي يتطلب مجموعة من المهارات للتعايش والتعامل مع الأمر، حتى لا تتفاقم المعاناة.
الطبيبة الحاصلة على جوائز في مجال الطب النفسي، سوزان بيالي، تقدم مجموعة من النصائح للشخصية الحساسة من أجل النجاة؛ إذ يصبح التدرب على التعامل مع الحساسية الزائدة تدربًا على البقاء على قيد الحياة، أهمها:
- الحصول على قسط كافٍ من النوم؛ إذ يؤدي قلة عدد ساعات النوم إلى التهيج والنكد، وانخفاض التركيز والإنتاجية لدى الأشخاص العاديين، أما بالنسبة للـ«HSP» فإن قلة النوم تصبح كابوسًا، وتصبح الحياة لا تطاق، مع حواس منهكة حساسة لا تحتمل أي شيء.
- تناول الأطعمة الصحية ليس رفاهية بالنسبة للشخصيات الحساسة، فالجوع الشديد يزعج ويفسد الحالة المزاجية والتركيز ويثير أعصاب الـ«HSP»؛ لذا يصبح تناول وجبات خفيفة صحية ومتوازنة، ومكملات زيت السمك الأوميجا 3 يوميًّا أمرًا واجبًا لتحسين أداء الدماغ والأعصاب، وكذلك الأداء العاطفي للمرء.
- الابتعاد عن الضوضاء، سواء باستخدام سماعات رأس أو الابتعاد عن المشتتات.
- تخفيف الضغط اليومي، بما أن الـ«HSP» لا يحبون الجداول الزمنية المزدحمة أو مفرطة التعقيد، يكون من المفيد أن تُخفف الضغوط عن الجدول اليومي، مع الوضع في الحسبان المواقف التي سيكون بها تحديثات وضوضاء كالوجود في حفل أو مكان مزدحم، فيتطلب ذلك البقاء لاحقًا في مكان هادئ للاسترخاء وفك الضغط.
- العثور على ملجأ، إن كانت الشخصية الحساسة تتشارك مكانًا مع آخرين، سيكون من الضروري أن يكون هناك ملجأ، غرفة أو حتى حمام مضاء بالشموع، كي تتمكن الشخصية الـ«HSP» من استعادة نفسها.
- إن لم يمنحك الآخرين وقتًا فامنح لنفسك الوقت، مثلًا اعتد الاستيقاظ قبل أفراد الأسرة، للحصول على وقت كافٍ من الهدوء والاستمتاع بالذات قبل بدء الصخب.
- الحد من الكافيين، والشيكولاتة الداكنة لأنها تساهم في زيادة استثارة الحواس ومن ثم افتقاد الهدوء والتركيز والشعور بضغط نفسي أكبر.
- إبقاء الأضواء منخفضة، فالضوء الساطع مؤذٍ للشحصية الحساسة، مع تجنب الدخول إلى الأماكن الساطعة كالمولات والحفلات وغيرها من الأماكن المبهرجة.
- إنجاز المهام في غير ساعات العمل، وعيش الحياة خارج الجدول الزمني، من أجل تجنب الازدحام وعسر الإنجاز.
- منح الذات فرصة للاستمتاع بالجمال، عبر وضع زرع أكثر في البيت، والتخلص من الفوضى، وقضاء وقت أكبر من المشي في الطبيعة والاستمتاع بهدوء الطبيعة وجمالها.