ترتبط الهند في أذهان الكثيرين بالمهاتما غاندي، الداعي إلى السلام واللاعنف، وهو ما جعل الكثيرين يظنون أن الديانة الأكثر شيوعًا في الهند، الهندوسية، تتميز بهذا النوع من التعايش السلمي، فيما ترتبط في أذهان البعض الآخر باضطهاد المسلمين وجرائم العنف ضدهم، والتي قد ترقى إلى «جرائم إبادة»، وعند النظر إلى ما يحدث على أرض الواقع، نلاحظ وجود قدر كبير من العنصرية والتعصب لدى الهندوس تجاه المسلمين في الهند، وهو ما يجعلنا نتساءل عن الخلل في هذه المفارقة.
لكن ما لا يعرفه البعض أن الهندوسية ليست ديانة واحدة متجانسة، بل لها عدة أفرع داخلية، كما أن هذه الديانة طرأت عليها العديد من التغيرات على مدى قرون حتى وصلت لشكلها الحالي، ليس هذا فحسب، بل إن الهندوسية تتميز بأنها ديانة ذات نظام داخلي يمكن وصفه بالعنصرية والطبقية، نحن لا نتحدث هنا عن العنصرية مع المسلمين أو غير الهندوسيين، بل العنصرية داخل النظام الاجتماعي الأساسي للهندوسية.
وفي هذا التقرير نتطرق إلى ذلك الوجه «غير المسالم» للهندوسية، والذي يمكن من خلاله فهم طبيعة تفكير الهندوس وتعاملهم مع الديانات الأخرى وخصوصًا الإسلام.
غاندي والهندوسية.. رجل السلام ليس نبيَّ الهندوس
بالعودة إلى ما ذكرناه سابقًا من ارتباط غاندي بالسلام لدى الكثيرين، نجد أنه نفسه ليس هندوسيًّا تقليديًّا، إذ كانت عائلته تتبع فرعًا من أفرع الهندوسية الأربعة، يسمى الفيشنافية، والتي تغيرت من خلال تأثرها بالمبادئ الصارمة أخلاقيًّا لديانة الجاينية (عقيدة هندية تعد مفاهيم مثل الزهد واللاعنف مهمة بالنسبة لها).
كما أن العديد من المعتقدات التي ميزت النظرة الروحية لغاندي نشأت في وقت لاحق من حياته، إذ كان مفهومة للإيمان يتطور باستمرار عندما واجه أنظمة عقائدية جديدة، لينتج لدينا في النهاية رجل السلام المهاتما غاندي بصورة أكثر مثالية عما يظهره أتباع الديانة الهندوسية الآن في الهند، الأمر يدفعنا للنظر بشكل أكبر في تفاصيل الديانة الهندوسية وطبيعة أفرعها ونظامها الطبقي.
قومية أم ديانة؟ ما هي الهندوسية؟
الهندوسية هي أقدم ديانة في العالم، وفقًا لكثير من العلماء؛ إذ تعود جذورها وعاداتها إلى أكثر من 4 آلاف عام. اليوم، يوجد نحو 900 مليون هندوسي في العالم، وهو ما يجعل الهندوسية ثالث أكبر ديانة بعد المسيحية والإسلام، ويعيش ما يقرب من 95% من الهندوس في الهند.
يعتقد معظم العلماء أن الهندوسية بدأت في مكان ما في وادي السند (باكستان حاليًا) بين عامي 2300 و1500 قبل الميلاد، لكن العديد من الهندوس يجادلون بأن عقيدتهم خالدة وأنها كانت موجودة دائمًا. وعلى عكس الأديان والعقائد الأخرى، ليس للهندوسية مؤسس واحد، بل هي عبارة عن مزيج من المعتقدات المختلفة.
تتميز الهندوسية بعدم وجود مؤسس محدد لها، وهو ما يجعل من الصعب تتبع أصولها وتاريخها، وتعد الهندوسية فريدة من نوعها كونها ليست ديانة واحدة، بل هي مجموعة من العديد من التقاليد والفلسفات، إذ ترتبط الهندوسية ارتباطًا وثيقًا بالديانات الهندية الأخرى، بما في ذلك البوذية والسيخية واليانية.
تتضمن معتقدات الهندوسية بعض المفاهيم الأساسية مثل أنها تحتضن العديد من الأفكار الدينية، ولهذا السبب، يُشار إليها أحيانًا على أنها «أسلوب حياة» أكثر منه دين واحد منظم. تتضمن الهندوسية فكرة «الهينوثية»، وهي تعني أن أتباع الهندوسية يتبعون إلهًا واحدًا، يعرف باسم «براهمان»، لكنهم أيضًا لا ينكرون وجود آلهة وإلهات أخرى أقل شأنًا، ويعتقد أتباع الهندوسية أن هناك طرقًا متعددة للوصول إلى إلههم.
للهندوسية طوائف عديدة، والتي تنقسم عمومًا إلى شيفاوية (أتباع شيفا) وفيشنوية (أتباع فيشنو) وشاكتية (أتباع ديفي) وسمارتا (أتباع براهمان وجميع الآلهة الكبرى).
4 طبقات رئيسية: النظام الطبقي في الهندوسية
يتميز المجتمع في الهند الهندوسية، بأنه قائم على الطبقية في كل مناحي الحياة منذ القدم! فالطبقية هي التي تحدد لك مكان ما تأكله وطبيعته، وصولًا إلى قرارات أساسية مثل الزواج وامتلاك المنازل. وينقسم النظام الطبقي في الهندوسية إلى أربع طبقات رئيسية هي: البراهمة وكشاتريا وفايشيا والشودرا، على الترتيب.
على قمة الهرم الطبقي تتربع طبقة البراهمة، وهي الطبقة التي تضم المدرسين والمثقفين والكهنة والعلماء الذين يعتقد أنهم جاؤوا من رأس الإله براهما. تأتي بعد ذلك طبقة كشاتريا والتي تمثل المحاربين والحكام والإداريين، والذين يُعتقد أنهم جاؤوا من ذراعي الإله، ثم طبقة فايشيا وهم التجار والمزارعون الذين جاؤوا من فخذي الإله، بينما تتربع طبقة الشودرا في أدنى السلم الطبقي، وهم الذين جاؤوا من قدمي الإله براهما، وتمثل العمال والخدم.
وتنقسم كل طبقة رئيسية بدورها إلى نحو 3 آلاف طبقة و25 ألف طبقة فرعية أخرى بناء على المهن، وفي الوقت الذي ينتمي فيه معظم مليارديرات الهند إلى طبقة فايشيا (الطبقة الثالثة)، يستمر البراهمة (الطبقة الأولى) في السيطرة على المناصب العليا في القضاء وقطاع التكنولوجيا.
في كتاب «Manusmriti»، الذي ينظر إليه على نطاق واسع على أنه الكتاب الأكثر أهمية وموثوقية عن القانون الهندوسي، والذي يعود تاريخه إلى ما لا يقل عن ألف عام قبل ميلاد المسيح، يوجد اعتراف وتبرير واضح للنظام الطبقي بوصفه أساسًا للنظام في المجتمع.
يعود أصل نظام الطبقات في الهند إلى الهند القديمة، قبل أن يشهد تحولات من قبل النخب الحاكمة المختلفة في الهند في العصور الوسطى والعصر الحديث، وخاصة إمبراطورية موغال والحكم البريطاني، إذن نحن نتحدث عن نظام متأصل ومتجذر في الهند منذ آلاف السنين.
كلمة السر الاستعمار.. هكذا يعمل هذا النظام الطبقي
لقرون، فرض النظام الطبقي نفسه في الهند تقريبًا في كل جانب من جوانب الحياة الدينية والاجتماعية الهندوسية، مع احتلال كل مجموعة من مجموعات النظام مكانًا محددًا في هذا التسلسل الهرمي. ففي المجتمعات الريفية، دائمًا كان الأساس الطبقي موجودًا، إذ إن كل من الطبقات العليا والسفلى كانتا تعيشان دائمًا في مستعمرات منفصلة ومنعزلة بعضها عن بعض، لدرجة أنه حتى آبار المياه لا يجري تقاسمهما، ولا يمكن أن يقبل البراهمة – على سبيل المثال – تناول طعام الشودرا! كما لا يمكن للمرء أن يتزوج إلا من داخل طبقته فقط.
على جانب آخر، نلاحظ أيضًا أن هذا النظام الاجتماعي الطبقي يتميز بانتقال وراثي لأسلوب الحياة والمهنة والوضع الاجتماعي، أي إن الأب المنتمي إلى طبقة ما، يورث ابنه الطبقة نفسها، ما يعني أن الشخص الموجود في طبقة ما، سيظل فيها هو وأبناؤه وجميع نسله للأبد.
منح هذا النظام العديد من الامتيازات للطبقات العليا، بينما كان يجيز قمع الطبقات الدنيا من قبل المجموعات ذات الامتيازات، ورغم الانتقادات المستمرة لهذا النظام، فإنه ظل دون تغيير تقريبًا لقرون، مما أدى إلى محاصرة الناس في أنظمة اجتماعية ثابتة كان من المستحيل الهروب منها.
يقول المؤرخون إنه حتى القرن الثامن عشر، كانت الفروق الطبقية الاجتماعية ذات أهمية محدودة نسبيًّا للهنود، وكانت الهويات الاجتماعية أكثر مرونة، ويمكن للناس الانتقال بسهولة من طبقة إلى أخرى، إذ كان هناك تقسيم طبقي حسب المهن لكنه لم ينعكس اجتماعيًّا بقوة. لكن الأمر تغير بعد وصول الحكام الاستعماريين البريطانيين الذين وضعوا حدودًا صارمة، وجعلوا السمة الاجتماعية مميزة للهند الطبقية، وذلك عندما استخدموا الإحصائيات السكانية لإنشاء مجتمع واحد بقانون عام يمكن حكمه بسهولة!
هندوس ولكن: خُمس سكان الهند من «الداليت المنبوذين»!
تصف منظمة «هيومن رايتس ووتش» هذا النظام الطبقي بأنه «معاملة تمييزية وقاسية ولا إنسانية ومهينة» لأكثر من 165 مليون شخص في الهند. وهذا الرقم لا يتعلق بفئة معينة من الفئات الأربعة السابقة، بل يرتبط بفئة من الهندوس تقع خارج إطار هذا التصنيف تمامًا؛ وهو ما يمثل درجة أعلى من درجات العنصرية والطبقية!
إذ توجد طبقة تسمى طبقة المنبوذين (الداليت)، وتقع خارج إطار النظام الطبقي الرباعي السابق ذكره، والذين يشكلون ما يقارب خُمس سكان الهند لكنهم يعانون من الفقر والتمييز حتى يومنا هذا، فيجبر المنتمون لهذه الطبقة على أداء أعمال يرفض البقية القيام بها، مثل تنظيف المراحيض والتخلص من الحيوانات الميتة.
في بعض المناطق، ستُصدم من ظروف الحياة في قرى الداليت، حيث فقر مدقع وسوء تغذية وأمية، وأطفال دون أي رعاية طبية، أو مياه جارية أو كهرباء. نحن نتحدث عن أناس ينظر إليهم بقية المجتمع على أنهم «ملوثون» بناءً على سلالاتهم العائلية ومهنهم، لذلك يتم فصلهم بشكل فعال عن المجتمع.
يضطر الداليت للعيش في قرى منفصلة والشرب من آبار منفصلة، ويمنعون بالطبع من الزواج خارج مجتمعاتهم، ويمنعون من العمل في العديد من المهن، كذلك، هم أكثر عرضة لأن يكونوا ضحايا للعنف والاعتداء الجنسي، ولا يسمح للداليت بدخول العديد من المعابد الهندوسية!
وقد شهدت الهند حالات عنف بسبب هذه الطبقية؛ ففي عام 2018 على سبيل المثال، تعرض زوج للقتل وأصيبت زوجته بجروح قوية في رأسها بعدما اعتدى عليهما بعض الرجال بأمر من والد الزوجة، وكان سبب هذا الاعتداء أن الزوجة تحدت الأعراف الاجتماعية والطبقية للزواج، وتزوجت رجلًا ينتمي لطبقة الداليت المنبوذة الأدنى من طبقتها.
عدو عدوي عدوي! الداليت جنود الهندوس ضد المسلمين
النظام الطبقي في الهند عبارة عن شبكة معقدة ومثيرة للجدل من العلاقات الاجتماعية والسياسية والتجارية والشخصية المتداخلة مع المجموعات الوراثية والهويات القبلية والإقليمية والممارسات الثقافية، إذ يتغلغل الوعي الطبقي في المشهد الثقافي الهندي وغالبًا ما يتجاوز الحدود الدينية التقليدية، مما يؤثر سلبًا ليس في الهندوس فقط، بل يمتد لغير الهندوس أيضًا.
ليس هذا فحسب، بل إن هذا النظام الطبقي المتجذر يعد أفضل هدية يمكن تقديمها للسياسيين لاستغلالها أفضل ما يكون، خصوصًا لو كانوا سياسيين قوميين مثل رئيس الوزراء الحالي للهند، ناريندرا مودي. فالمجموعات المهمشة اجتماعيًّا واقتصاديًّا في البلاد مثل الداليت، هم محل نزاع من قبل القوميين الهندوس، الذين يرون أنهم يعدون «جنودًا» مفيدين في النضال ضد المسلمين.
تقود الطوائف الاجتماعية العليا القومية الهندوسية، فيما يُعد تحريضهم لكل الهندوس ضد الأقلية المسلمة حيلة تمكنهم من السيطرة على المجتمع الهندوسي، وفقًا للخبراء. وهذا التحريض ضد المسلمين يجعل من الصعب على الداليت انتقاد الطبقات الحاكمة والمهيمنة ويجعلهم لا يركزون على المطالبة بحقوقهم، والتمرد على الطبقات العليا.
نتيجة اضطهاد الداليت، كان هناك حث لهم على التحول لأديان أخرى مثل البوذية والمسيحية والإسلام حتى يجدوا حقوقهم دون تمييز، ولأن هؤلاء المهمشين يمثلون نسبة تتراوح بين خُمس وربع سكان الهند؛ فإن هذا يعد خطرًا على الطبقات الاجتماعية العليا التي بدأت تستخدم أسلوبًا مختلفًا تجاه الداليت، وتعتمدهم جنودًا حقيقيين للهندوسية.
الخطوة التالية بعد ذلك، كانت إشعال المشاعر المضادة للمسلمين، فيتدرب العديد من الداليت على كره المسلمين، حتى أصبحوا هم رأس الحربة في أي أعمال شغب ضد المسلمين! ومما يزيد الأمر تعقيدًا حقيقة أن المجتمع الإسلامي في الهند أيضًا جرى تقسيمه طبقيًّا بطريقة تشبه تلك الموجودة في النظام الهندوسي، فالنظام الطبقي في الإسلام الهندي ينقسم للنبلاء (الأشراف) والأجلاف (العوام) والأرزال (الحقراء).
ومن هنا يمكن القول بأن التلاعب السياسي بالطبقات المحرومة في كلا الطرفين سيستمر طالما أنهم (الطبقات التي تعاني من العنصرية) يرفضون أن يروا أنهم مجرد بيادق في منتصف نظام سياسي يتلاعب بهم لأهدافه السياسية، وينبذهم في الوقت نفسه!