في 16 سبتمبر (أيلول) من عام 1974، وبعد تولي جيرالد فورد الرئاسة الأمريكية في 9 أغسطس (آب) من نفس العام، كتب وليام جيه بارودي الابن، أحد كبار مستشاري فورد، ذو الأعوام الـ36، والمسؤول الأول عن التنسيق بين إدارة فورد ولوبيات المصالح، والموظف الأعلى شأنًا في البيت الأبيض؛ مذكرةً إلى الرئيس الأمريكي حثه فيها على زيارة مدينة هيروشيما، في زيارته الأولى لليابان بعد توليه الرئاسة، بوصفها بادرةً لسعيه الشخصي لإقرار السلام، على المستويين الوطني والدولي.
نصح بارودي فورد بإلقاء خطاب في قلب المدينة، معددًا له مزايا خطوة كهذه، فمن ناحية سيعدها اليابانيون بمثابة تضميد مبدئي لجراحهم الشخصية، والمتعلقة بكون المدينة إحدى ضحيتين لإبادة جماعية بالسلاح النووي الأمريكي في نهاية الحرب العالمية الثانية، ومن ناحية ثانية ستكون بمثابة رسالة قوية لبكين، مدللًا على توافق الولايات المتحدة مع اليابان، المنافس الإقليمي الرئيسي للصين، ومن ناحية ثالثة سيخفف ذلك من وتيرة التوتر حول هذه المسألة، خاصة أن اليابان لم تكن صادقت حينها على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، مع قلق أمريكي من احتمالية سعي طوكيو لتملكه، بجانب إجراء الصين تجارب نووية حينها.

«من اليمين: انفجار ناجازاكي النووي، ويسارًا انفجار هيروشيما»
كان اقتراحًا جيدًا بالفعل، ومن أحد الأشخاص القلائل ذوي الحيثية في جادة بنسلفانيا، إلا أنه لم يلبث وأن اصطدم بحائط مصمت مما أدى إلى إلغائه مباشرة، حائط تمثل في معارضة بعض مسئولي البيت الأبيض الآخرين، وعلى رأسهم برينت سكوكروفت، نائب مستشار الأمن القومي، لاقتراح بارودي، وبعد أسبوعين من مذكرة وليام أرسل سكوكروفت مذكرة إلى فورد، يخبره فيها أنه اطلع على اقتراح بارودي، ويراه دقيقًا وبه بعض المميزات، إلا أنه أيضًا يحتوي على بعض العيوب الرئيسية، كاحتمالية أن يرى اليابانيون الزيارة على أنها صفعة دبلوماسية، وتذكير أمريكي لهم بهزيمتهم في الحرب، مما سيؤدي إلى إحياء العداوات القديمة في وقت تسعى فيه واشنطن لوأد هذا التاريخ، وقال سكوكروفت أن الزيارة إن تمت قد تستغل من قبل اليسار في اليابان، مما سيؤدي إلى رفع أسهم المعارضة هناك، وعلى هذه الأسس طلب سكوكروفت من فورد عدم الامتثال للاقتراح، وهو ما تم بالفعل.
يعرف لاعبو واشنطن وطوكيو الرئيسيون حساسية ما يلي: تتمتع الولايات المتحدة بعلاقات بالغة القوة مع اليابان على المستوى السياسي متمثلة في دعم واشنطن الدائم لطوكيو والعكس، وعلى المستوى الاقتصادي بتبادلات تجارية تقترب من المائتي مليار دولار سنويًا، وعلى المستوى العسكري باتفاقية دفاع مشترك ثابتة ومتجذرة بين الدولتين، إلا أن هذه العلاقات دائمًا ما تفشل في تجاوز حاجز واحد؛ بيرل هاربر وهيروشيما، فلم يسبق لرئيس أمريكي أن زار المدينة اليابانية أثناء رئاسته، ولم يسبق لرئيس وزراء ياباني أن زار بيرل هاربر. حاجز بالغ الحساسية لم يتم تجاوزه أبدًا، حتى الآن.
بالأمس أعلن البيت الأبيض عن أن الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، سينتهي من قمة الدول السبع الصناعية الكبرى (G-7)، في آز شيما اليابانية، والمقامة في يومي 26 و27 من مايو (أيار) الحالي، ليذهب إلى منتزه السلام التذكاري بهيروشيما، والمخصص لضحايا التفجير النووي الأمريكي في المدينة، خطوة تاريخية لم يسبق لرئيس أمريكي أن فعلها على مدار 70 عامًا، منذ عام 1945 عند توقيع اليابان وثيقة استسلامها بعد القصف.
«لن يعيد النظر في قرار إلقاء القنبلة في نهاية الحرب العالمية الثانية، وإنما سيعرض رؤية استشرافية تركز على مستقبلنا المشترك». – نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي، بن رودس، متحدثًا عن زيارة أوباما، ونافيًا أن تكون الزيارة لتقديم الاعتذار.
لم تكن هيروشيما غريبة أبدًا على ساسة واشنطن، فزارها الرئيس الأمريكي الأسبق، جيمي كارتر، في 5 مايو (أيار) لعام 1984، بعد وقت طويل من تركه الرئاسة، وسبقه ريتشارد نيكسون في 11 أبريل (نيسان) لعام 1964، قبل أربع سنوات من توليه رئاسة الولايات المتحدة أيضًا، وسبق وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، أوباما بزيارة لنصب هيروشيما التذكاري للسلام في أبريل (نيسان) الماضي، فيما بدا وكأنه تمهيد عملي لزيارة باراك التاريخية هذا الشهر.
لكن تمهيدات إدارة أوباما لم تقتصر على زيارة جون كيري فقط، أو كانت وليدة العام السابق، ففي سبتمبر (أيلول) لعام 2009، أبرق السفير الأمريكي في طوكيو جون روس، للبيت الأبيض، حسبما كشفت وثائق ويكيليكس ونقلتها شبكة abc news، مخبرًا الإدارة أنه جلس مع مسئولين يابانيين، وتحديدًا نائب وزير الخارجية ميتوجي يابوناكا، فأخبروه أنهم «لا يظنون أن قدوم أوباما لهيروشيما للاعتذار فكرة جيدة، وإنما ستكفي زيارة بسيطة بلا اعتذارات».
ومنذ تولى رئاسة الولايات المتحدة في 2008، ويضع أوباما نصب عينيه كسر الجمود الدبلوماسي الأمريكي في هذا الحاجز بينهم وبين اليابانيين، وكما يقول الكاتب الأمريكي جريج ميتشيل فإن «أوباما ربما امتلك سجلًا سيئًا»، دفعه لعدم الاعتذار كأسلافه، إلا أنه اتخذ خطوة لا تقل أهمية منذ خمس سنوات، عندما أرسل جون روس ليحضر الذكرى السنوية لإحياء قصف هيروشيما، في 6 أغسطس (آب) من عام 2011، ليصبح السفير الأمريكي الأول الذي يحضر ذكرى هيروشيما، وبعدها بثلاثة أيام أرسلت الخارجية جيمس زموالت، نائب رئيس البعثة الرسمية بسفارة أمريكا في طوكيو، أولَ مبعوث رسمي في تاريخ الولايات المتحدة لحضور الذكرى السنوية لقصف ناجازاكي، وليلقي خطاب تأبين نيابة عن أوباما نفسه، «معربًا عن أمله في العمل مع اليابان من أجل عالم خالٍ من الأسلحة النووية»، خطوة لم يسبق لها مثيل وبدت وكأنها تمهيد حقيقي لما هو قادم.
في 6 أغسطس (آب) من العام الماضي، ومرافقة للذكرى السبعين لقصف الجزيرة الرَحبَة، وهو معنى «هيروشيما» في اللغة اليابانية، وقف السكرتير الصحافي للبيت الأبيض، جوش إرنست، يستمع لأسئلة الصحفيين عن إمكانية زيارة أوباما لهيروشيما، وبدا عليه الحذر قائلًا إن موقف الرئيس واضح في خلال ثلاث زيارات قام بها لليابان منذ توليه الرئاسة، حيث لم يذهب إلى الجزيرة أبدًا، لكنه لم يستبعد هذا الاحتمال من التحقق مستقبلًا، أو كما قال «بالتأكيد لا يمكننا استبعاد إمكانية تحقق هذه الاحتمالية في المستقبل».
«ما الفائدة من قدومه الآن بعد 66 عامًا؟! سيكون لزيارته معنىً فقط في حال قدومه إلى هنا لتقديم عالم خالٍ من الأسلحة النووية». – كاتسومي ماتسو، إحدى المتضررات من الهجوم النووي الأمريكي حيث فقدت والدتها في القصف.
ارتكزت حملة أوباما الرئاسية في 2007/2008 على عدة مبادئ رئيسية، منها «عالم خالٍ من الأسلحة النووية»، المبدأ الذي لم يتحقق بالطبع، بل على العكس تمامًا، ففي الوقت الذي يدعو فيه أوباما دائمًا لعالم بدون نووي، فإن البنتاجون يقوم بأريحية تامة، وأثناء مراقبة المخابرات المركزية لتجارب كوريا الشمالية، بإجراء تجاربه الخاصة لإنتاج أول قنابل نووية ذكية محدودة التأثير، ومنها تجربة صحراء نيفادا التي تمت في العام الماضي ضمن برنامج وزارة الدفاع الأمريكية لبناء قنبلة ذكية، بميزانية قدرها عشرة مليارات دولار.
إذن ربما تكون كاتسومي على حق، وعلى الرغم من أن الزيارة تاريخية في حدوثها للمرة الأولى، إلا أن أوباما لم يسلم من الانتقادات بالطبع، انتقادات البعض قائلين أن الزيارة «بمثابة اعتذار بالفعل»، وأنه ربما سيلقي خطابًا عاديًا لا يتضمن أي اعتذارات، كما شدد بن رودس، إلا أنهم يرونها اعتذارًا ضمنيًا عما حدث، بينما لم يسلم رئيس الوزراء الياباني، شينزو آبي، من الانتقادات بدوره، لتخرج أجنحة يمينية في الولايات المتحدة مطالبة إياه بزيارة بيرل هاربر، التي دكها الطيران الياباني في الحرب العالمية الثانية وكانت سببًا لدخول الولايات المتحدة الحرب عسكريًا، مطالبة جاءت في سياق الرد الحسن على بادرة أوباما بزيارة هيروشيما.
على كلٍ يبدو أن أوباما لا يريد أن يترك الرئاسة الأمريكية بدون بصمات خارجية فعالة، وربما تبدو الزيارة وكأنها بروتوكولية يسيرة، إلا أن هذا الرأي قد لا يحتوي على الكثير من الصحة؛ فالزيارة بالفعل تاريخية وتهدم حاجزًا حساسًا بين الجانبين، وتأتي في إطار رسالة قوية لبكين تحديدًا، بأن الولايات المتحدة تعتبر اليابان حليفًا لا غِنى عنه، وأنها لا تنوي ترك إقليم شرق آسيا هدفًا سهلًا للهيمنة الصينية المتصاعدة.