في عام 1949، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، نشر جورج أورويل روايته الصادمة «1984»، والتي تحكي عن دولة شمولية سلطوية تدعى «أوشينيا»، في عصرٍ لا تهدأ فيه الحرب، وانتشرت فيه جرائم التفكير الحر وغسيل المخ.

كان بطل الرواية يعمل في «وزارة الحقيقة»، اسمها هكذا، لكنها في الحقيقة كانت الوزارة المسؤولة عن تزييف الحقائق والتاريخ؛ فكان وينستون سميث -البطل- يعكف على إعادة كتابة المقالات القديمة، وإجراء التعديلات المطلوبة على الحقائق التاريخية، وفقًا لما يراه الحزب الحاكم، «من يتحكم في الماضي، يتحكم في المستقبل، ومن يتحكم في الحاضر، يتحكم في الماضي»، كان هذا شعارهم كما وصفه أورويل.

كان الجميع مراقبًا، والجميع مُلاحقًا بجرائم تم وصفها بمصطلح «جرائم الفكر»، وكان مرتكبو هذه الجرائم يتم إخضاعهم للتعذيب، و«غسيل الدماغ»، حتى يؤمنوا بالحقيقة الوحيدة الثابتة في دولتهم، وفقًا لما تراه السلطة الحاكمة، فـ«2+2=4»، وهي حقيقة ثابتة ندركها جميعًا إلا أنها يمكن أن تساوي خمسة، وبطرقهم الخاصة سيتمكنوا من إقناعك بذلك.

كانت رواية أورويل يتم تصنيفها بالأدب السوداوي الذي يتنبأ بمستقبلٍ قاتم، نظرًا إلى ما تحويه من خيالٍ ينذر بنهاية العالم، إلا أن غسيل المخ منذ ذلك الحين لم يعد يصنف بعد بالخيال العلمي؛ إذ تم استخدامه في معسكرات الاعتقال لأسرى الحرب، ووصل ذروته في الحرب الباردة منذ خمسينات القرن الماضي، حتى أصبح هناك أرشيفًا كاملًا للتحكم في العقول، وفي السطور القليلة القادمة، سنتتبع سويًا أكثر من 50 عامًا من غسيل المخ.

بداية مصطلح «غسيل المخ».. الحرب الكورية 1950

استُخدِم مصطلح غسيل المخ أول مرة في خمسينات القرن الماضي، أثناء الحرب الكورية، وهي حرب دارت رحاها ما بين عامي 1950 و1953، إذ اندفع أكثر من 75 ألفًا من جنود كوريا الشمالية نحو الحدود غازين كوريا الجنوبية، فكان هذا هو أول عملٍ عسكري في الحرب الباردة، ونتج منه تدخل أمريكا في الحرب إلى جانب كوريا الجنوبية، وذلك في يوليو (تموز) من عام 1950؛ خوفًا من أن تكون تلك الحرب هي الخطوة الأولى لهيمنة الشيوعيين على العالم، إذ اعتقدوا أن تلك الحرب هي حرب مع القوى الشيوعية العالمية، نظرًا إلى مساندة الاتحاد السوفيتي للجبهة الشمالية منها، فخرج الرئيس الأمريكي حينذاك «هاري ترومان» ليقول خطابه الشهير: «إذا خذلنا كوريا، سيواصل الاتحاد السوفيتي تقدمه، مُبتلعًا البلد تلو الآخر».

انتهت الحرب الكورية بتوقيع هدنة بين الأطراف المتحاربة، بعد عامين فقط من الحرب، إلا أنها رغمًا عن ذلك كانت حربًا فادحة الخسائر؛ إذ راح ضحيتها أكثر من 5 ملايين إنسان، كان أكثرهم من المدنيين، أما عن الخسائر الأمريكية في تلك الحرب؛ فقد تعدت 40 ألف جنديًا عسكريًا، وأكثر من 100 ألف جريح.

(الحرب الكورية عام 1953)

لم تتوقف الخسائر الأمريكية في الحرب على الخسائر البشرية فقط، ففي أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1950، وعندما عبرت القوات الصينية نهر يالو لتنخرط في الحرب إلى جانب كوريا الشمالية، لاحظ المسؤولون الأمريكيون انشقاق عدد ليس بقليل من الجنود الأمريكيين٬ واتجاههم إلى الشيوعية.

كان الأمر أشبه بفكرة مبهمة، عن طريقة غامضة استخدمها الصينيون في الحرب منذ انضمامهم، وذلك من أجل تحويل ولاء الجنود الأمريكين إليهم، وكان ذلك عن طريق إحداث تغيرات سلوكية عميقة ودائمة على أسرى الحرب. عاش المجتمع الأمريكي حينذاك في رعبٍ وقلق؛ إذ انتشر الذعر من أن الشيوعيين الصينيين قد تمكنوا من اختراق عقول الأسرى والسيطرة عليهم، وأطلق على تلك التقنية لأول مرة «غسيل المخ».

كان مفهوم غسل المخ، من بنات أفكار الصحافي الأمريكي إدوارد هانتر، والذي غطى صعود الفاشية في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية. وفي عام 1950، عندما كانت الحرب الكورية ما زالت في طور البداية، نشرت صحيفة ميامي نيوز مقالًا له بعنوان: «قوة غسل الدماغ الصينية في صفوف الحزب الشيوعي»، مُشيرًا إلى أن الحُمر لديهم خبراء متخصصون في لوحات غسل الأدمغة، مستخدمين الأدوية والتنويم المغناطيسي، وهدفهم النهائي، بحسبه، هو قهر أمريكا، قائلًا إن الولايات المتحدة الأمريكية هي ساحة المعركة الرئيسية؛ محذرًا من أن غسل الأدمغة سيجعل من الأمريكيين رعايا حفنة صغيرة من الطغاة في العالم.

وصف هانتر في كتابه «غسل الأدمغة في الصين الحمراء»، تلك الاستراتيجية الجديدة التي اقتحمت العالم بحسبه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وفي بدايات الحرب الباردة، بقوله: «غسل الأدمغة هو شر العالم الجديد، إنهم يحررون العالم عن طريق تدمير العقول».

(سلاح الطيران في الحرب الكورية 1950- 1953)

كانت اعترافات بعض الأسرى الأمريكان القسرية خلال تلك الحرب سببًا رئيسيًا في جعل غسيل المخ جزءًا لا يتجزأ من ثقافة الخمسينيات، وفي مايو (آيار) من عام 1956، نشرت وزارة الدفاع الأمريكية بحثًا يشرح التقنيات الخاصة التي استخدمها الشيوعيون في التحقيقات، من أجل استغلال أسرى الحرب.

يشير البحث إلى أن الشيوعيين الصينيين أدركوا أهمية هذا الاستجواب، وهو ما جعلهم يخصصون له كتيبة كاملة من أجل جمع المعلومات الاستخباراتية، وتصميم عقوبات لهؤلاء الذين لم يتعاونوا معهم، وكان معسكر الاستجواب لديه مجموعة من الموظفين المهرة، الذين كانوا على دراية تامة باللغة الإنجليزية، وعلى علمٍ جيد بأساليب الحياة المختلفة في الولايات المتحدة.

لم تكن السجون الشيوعية في كوريا الشمالية مُصممة من أجل رفاهية السجناء، ولا من أجل تعذيبهم؛ بل كانت مصممة لهدفٍ وحيد، وهو تسهيل التلقين أثناء الاستجواب؛ فتم تجميع الأسرى في مخيمات، ومن تلك المخيمات تم تقسيمهم إلى وحدات، وتلك الوحدات غالبًا ما تكون موجودة بالقرب من مقر القيادة العسكرية، وهناك تم تجهيز غرف الاستجواب بأجهزة التسجيل، وأجهزة كاشفة للكذب، هذا إلى جانب مرايا ثنائية الاتجاه.

لم تكن أسوار المعتقلات محاطة بالأسلاك الشائكة، وكان السجناء يتجولون بحرية في أرجاء المعسكر٬ كما تم تقديم كميات وفيرة من الطعام والشراب للأسرى، ولم ترد أنباء عن استخدام أي من وسائل التعذيب الشهيرة حينذاك مثل الصدمات الكهربائية، وخلع الأظافر، لكن استخدم الشيوعيون عددًا من الحيل والتقنيات، بحسب البحث، كانت أكثر فاعلية من التعذيب٬ كل منها يختلف بحسب الشخص الذي يقومون باستجوابه.

كان الهدف الرئيسي هو هزيمة الفرد نفسيًا، وعزله اجتماعيًا عن بيئته، بتحويل الأسرى إلى مجموعة من الوشاة، غير قادرين على التواصل مع بعضهم البعض، وكان لاستخلاص المعلومات منهم كثير من الطرق٬ أكثرها استخدامًا هو الخداع، وذلك عن طريق طلب قائمة من السجين بالوحدة العسكرية التي كان يعمل لديها قبل وقوعه في الأسر، فإن حدث وأعطى السجين معلومات خاطئة، كان المحقق يستطيع أن يتحقق من القائمة عن طريق دليل الجيش الميداني للولايات المتحدة، ومواجهته بها، يحذره من أية معلومات خاطئة أو تزييف في المستقبل، كما لعب المحققون على عنصر الخوف؛ إذ كان الأسرى الأمريكان خائفين مما قد يتعرضون له أثناء وجودهم في الأسر، وتعزيز هذا الخوف داخلهم، مكن الصينيين من استخلاص ما يحتاجون إليه من معلومات، فهزم حينها السجناء أنفسهم.

كان التحرش الجنسي والمضايقات هي التقنية الثانية الأكثر فاعلية، هذا إلى جانب التكرار، والذي تم اعتباره أحد الطرق الاستفزازية٬ والتي كانت تعتمد على تكرار الأسئلة على مسامع السجين بشكلٍ مستمر، حتى يصل إلى قمة استفزازه، والتودد عن طريق دعوة السجين خارج حدود معسكرات الاعتقال، وفتح أحاديث ودية، وهو الأمر الذي نتج منه تكوين الأسرى علاقات صداقة مع سجانيهم عوضًا عن زملائهم في الأسر.

كانت التقنية الثانية عقب التدمير النفسي للفرد، هي إعادة هيكلة سلوكه، وهو ما أطلق عليه الصينيون لفظ «إعادة التثقيف»، وهو ما نتج منه كما وضح إدوارد هانتر في كتابه «غسيل الدماغ»،والذي سرد فيه تفاصيل الحرب الكورية، أنه حتى وبعد عودة الأسرى إلى ديارهم، لم يستطيعوا الانخراط في المجتمع كسابق عهدهم؛ إذ فرضوا سجنًا على أنفسهم بلا قضبان، عاشوا فيه منعزلين، وبعضهم ظل يعاني من شعور عميق بالذنب، حتى وافته المنية.

«النازية».. استراتيجية هتلر في غسيل المخ

على الرغم من أن مصطلح «غسيل المخ»، قد بدأ ظهوره في خمسينيات القرن الماضي، إلا أن هناك الكثير من علماء النفس، قد أشاروا في أبحاثهم إلى أن هتلر قد استخدم تقنيات غسيل المخ، للتحكم في عقول الشعب الألماني أثناء الحرب العالمية الثانية، وذلك للحصول على مباركتهم في المحارق والمجازر التي اقترفها في تلك الحرب الدموية.

(الشعب الألماني يقدم تحية هتلر  عقب عبوره حدود الجمهورية التشيكوسلوفاكية)

ابتدع هتلر عدة طرق لضمان بقاء الحزب النازي مسيطرًا على البلاد، بدايةً من الإجراءات التي اتخذها مع السياسيين والمعارضة، وصولًا إلى المدنيين، وذلك بهدف السيطرة على كل ركن من أركان الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد؛ فقام الحزب النازي بالسيطرة المطلقة على الحكومة المدنية والمحلية؛ وذلك من خلال إعادة هيكلة الحكومة المحلية، وحظر الأحزاب السياسية المعارضة، مبررًا ذلك بأن ألمانيا بلد غير آمن، والمعارضة تشكل خطرًا على الدولة، كما قام هتلر بالحد من نفوذ الكنيسة؛ وذلك خوفًا من نفوذها وسيطرتها على الناس، فأرسل الكهنة الكاثوليك غير النازيين إلى معسكرات الاعتقال، كما أنشأ كنيسة ولاية الرايخ، أما بالنسبة إلى الحياة الثقافية والاجتماعية، فقد خضعت هي الأخرى للسيطرة النازية، فكان يتم تلقين الأفراد بما يجب ولا يجب أن يفعلوه حتى في اجتماعاتهم الخاصة، كما منع الفنانيين من الأعمال الفنية التي لا تصور القيم النازية، وحظر موسيقى الجاز، وأحرق الكتب التي كتبها اليهود علنًا.

أما بالنسبة للتعليم والعمال، قام هتلر بعزل المعلمين غير النازيين، وأمر بتغيير المناهج الدراسية لتشمل الأفكار السياسية والعرقية النازية، وكان يتم إعداد الشباب إجباريًا للحرب، أما الفتيات فكان يتم تلقينهن وإعدادهن ليكن ربات بيوت محافظات على القيم النازية.

استخدم هتلر في كل ذلك أداة لم تخذله، وهي «وزارة الإعلام»؛ إذ كانت ألمانيا خلال ولاية الرايخ الثالث محتكرة من قبل الدعاية والإعلام، فتم استخدامهم أداةً تُملي على الشعب كل جوانب الحياة تقريبًا، كما كان لها دور فعال في تعزيز معاداة السامية، وعلى الرغم من أن كثيرًا من الدول خلال الحرب العالمية الأولى قد استخدموا الأداة نفسها من أجل تشجيع المواطنين غير الراغبين في المشاركة في الحرب، وذلك بوصفها «الحرب العظيمة المجيدة»، من خلال بوابات الإعلام، كما استخدمتها الصين حينذاك لنشر سياسات الرئيس الشيوعي ماو تسي تونغ، إلا أن الحزب النازي يعد هو الوحيد الذي استطاع أن يحول تقريبًا شعبًا بأكمله إلى النازية، كما حملهم على كراهية مجموعة كاملة من الناس، وهم اليهود.

( أحد خطابات جوزيف غوبلز الموجهة للشعب الألماني)

كانت الدعاية والإعلام هما وسيلة النازية في غسيل المخ؛ إذ عمد جوزيف جوبلز، وزير الإعلام حينذاك٬ إلى شن حرب نفسية على الشعب الألماني، كان جوبلز يدرك أن أقصر الطرق للوصول إلى العقول هي خلق نوع جديد من «لغة الجماهير»، ومن أجل ذلك تميزت خطاباته بأسلوبٍ بسيط، ورسائل واضحة، يمكن للجماهير استقبالها بسهولة، ولتصل تلك الرسائل إلى القلوب والعقول، يجب أن يتفق عليها الجميع، وهو الأمر الذي عمل عليه جاهدًا.

كانت الرسائل الإعلامية تتسم في الأساس بإخبار الناس ما يودون سماعه، واستحضار الأكاذيب، لخلق واقع جديد كليًا، يعزل الشعب الألماني عن العالم، وبتكرار هذه الرسائل، تصبح تلك هي الحقيقة الجديدة؛ إذ تُمحى من الذاكرة كل ما علق بها من أحداثٍ وتاريخٍ أصيل، مقابل آخر مزيف.

الحكايات المروية عن الشيوعيين الصينيين تلهم «جوانتانامو»!

في تقريرٍ نُشر بـ«نيويورك تايمز»، في يوليو عام 2008، بعنوان «الصين ألهمت استجوابات جوانتانامو»، تمت الإشارة إلى أن المحققين، والضباط العاملين في سجون جوانتانامو يمارسون أساليب التعذيب والاستجواب نفسها، التي استخدمتها الصين من قبل مع الأسرى الأمريكيين في الحرب الكورية.

كشف التقرير أن الرسوم البيانية التي استخدمها المحققون في جوانتانامو قد تم نسخها حرفيًا من دراسة سلاح الجو عام 1957 عن الأساليب الصينية الشيوعية التي تم استخدامها خلال الحرب الكورية للحصول على اعترافات، والتي كان من ضمنها: «الحرمان من النوم، والتقييد لفتراتٍ طويلة»، لكن ما لا يعرفه هؤلاء هو أن أغلب تلك الأساليب زائفة، اخترعها السجناء الأمريكيون أنفسهم بعد عودتهم من الحرب، لتبرير اعترافاتهم، بحسب التقرير.

كان الأمر بمثابة الصدمة؛ إذ استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية، الأساليب نفسها التي وصفتها من قبل الشيوعيين الصينيين بالتعذيب، وكانت مقالة عام 1957 والتي تم نسخ الرسم البياني منها بعنوان «محاولات الشيوعية لاستخلاص اعترافات زائفة من أسرى الحرب في سلاح الجو»، وكتبها ألبرت دي بيدرمان، وهو عالم اجتماع كان يعمل في القوات الجوية، وأجرى مقابلات مع السجناء الأمريكيين العائدين من كوريا الشمالية، وقد تم تصوير بعضهم من قبل المحققين الصينيين، بعد أن اعترفوا بالحرب الجرثومية، التي استخدمها الأمريكان، بحسبهم حينذاك، في كوريا الشمالية.

أدت هذه الادعاءات، والتي أنكرتها الولايات المتحدة وقتها، إلى الادعاء بأن الأسرى قد تعرضوا إلى غسيل المخ في الأسر؛ مما استفز الجيش لتجديد تدريباته، وإعطاء بعض الأفراد العسكريين دورات تدريبية في الثبات النفسي٬ وعدم الاستسلام السريع؛ إذا ما تم القبض عليهم.

في التقرير أشار السيناتور كارل ليفين، ديمقراطي ورئيس لجنة الخدمات المسلحة في مجلس الشيوخ، أن كل أمريكي سيصاب بالصدمة، بسبب أصل وثيقة التدريب، مُضيفًا: «المذهل حقًا هو أن تلك الأساليب كانت سببًا في الحصول على اعترافاتٍ كاذبة٬ يعتقد الناس أننا بحاجة إلى استخبارات، وهو أمر صحيح، لكننا لسنا بحاجة إلى استخبارات مزيفة».

(أسرى في سجون جوانتانامو 2002)

في الحقيقة كانت مقالة السيد بيدرمان عام 1957، تصف شكلًا واحدًا من أشكال التعذيب، وهو إجبار السجناء الأمريكيين على الوقوف لفتراتٍ طويلة للغاية، في بعض الأحيان كان يتم ذلك والبرد قارس للغاية، بحسب المقال، وكانت تلك الطرق الصريحة للعنف الجسدي تحديدًا، هي ما اعتمدتها الاستخبارات الأمريكية ضد الإرهابيين والمشتبه بهم؛ أدرج المخطط أيضًا تقنيات أخرى من أشكال التعذيب البدني، منها التجويع، واستغلال الجرحى، وجعل الأسير محاطًا دائمًا بالقذارة، وهو الأمر الذي أضعف القوى البدنية والعقلية للسجناء، ودمر مقاومتهم، ليصلوا في النهاية من اعتمادهم على محققيهم إلى مستوى الحيوانات الأليفة، بحسب نيويورك تايمز.

وفي معسكرات جوانتانامو، في الفترة من ديسمبر (كانون الأول) من عام 2002، حتى يناير (كانون الثاني) من عام 2003، تم دراسة ما أطلق عليه حينذاك «مخطط بيدرمان للإكراه»، من قبل المحققين الأمريكان، وذلك للبدء في العمل به، والذي تم وصف تقنياته، بأنها الوسائل التي تستخدمها الطوائف للتحكم في أعضائها.

كان أحد أقسى الاستجوابات المعروفة في جوانتانامو، هو استجواب محمد القحطاني، عضو تنظيم القاعدة، ومشتبه به في هجمات 11 سبتمبر (أيلول)؛ إذ تضمن استجواب القحطاني كلًا من الحرمان من النوم، والتعرض للبرد القارس، وغيرها من تقنيات ما نقل عن الصينيين في التعذيب وغسل المخ. ألقيت التهم الإرهابية على كاهل القحطاني الواحدة تلو الأخرى، ودافع الرئيس الأمريكي حينذاك جورج بوش عن أساليب الاستجواب، مبررًا إياها بأنها ساعدت الإدارة الأمريكية في تجنب هجمات إرهابية مقبلة، كما أتاحت لهم الوصول إلى الكثير من المعلومات حول التنظيم.

أما عبد الرحيم النشيري وهو عضو القاعدة، والمتهم الرئيسي في تفجير المدمرة الأمريكية كول في اليمن عام 2000، فقد تعرض هو الآخر للتعذيب في معسكرات جوانتانامو؛ كان أحدها الإيهام بالغرق، وهو الأمر الذي قال عنه النشيري في ما بعد أنه اعترف كذبًا القيام بالتفجير، من أجل أن يتجنب التعذيب.

يقول عن ذلك روبرت ليفتون، وهو طبيب نفسي، درس أسرى الحرب العائدين من كوريا الشمالية، أنه أصيب بخيبة أمل، إثر علمه بأن أساليب التعذيب الشيوعية قد تم إعادة تدويرها وتدريسها في جوانتانامو، وهو ما وصفه بأنه منعطف 180 درجة من قبل القيادة الأمريكية.

تحويل المعارضين إلى «حيوانات أليفة».. رحلة في سجون صدام حسين

جواسيس، ماذا أنتم؟ قولوا: كلاب سيدي، وكرر هذا السؤال عشرات المرات ونحن نصرخ مجيبين: كلاب سيدي. *طالب البغدادي

يروي الدكتور طالب البغدادي، أستاذ الاقتصاد، تجربته في سجون صدام حسين، في سبعينات القرن الماضي، بكتابه «حكايتي مع صدام»، قائلًا: «سلمني أبو محمود البيجاما، وأبلغني بأنني يجب أن أنسى اسمي كليًا، وأنهم سينادونني برقمي الذي منحني إياه، وهو 213، مسبوقًا بكلمة جاسوس»، مستطردًا بأن كل الموقوفين في هذا المكان، كان يطلق عليهم جواسيس، فأصبحت هويته منذ ذلك اليوم هي: «الجاسوس 213»، وإن حدث وظل مستذكرًا اسمه الحقيقي، فيتعرض للضرب والتعذيب.

«أصبحت أخيرًا أنا -طالب البغدادي ذو التاريخ الوطني الطويل وذو الماضي النقي النظيف- جاسوسًا»، هكذا حكى البغدادي عن الوقت الذي قضاه في التدرب على هويته الجديدة، الجاسوس 213، حتى لا يخطئ وينسى؛ فيكون مصيره التعذيب، وفي فصلٍ كامل بعنوان «في سجن المخابرات الرهيب أبو غريب -معسكر غسل الدماغ»، وصف الأساليب التي اتبعها رجال الرئيس العراقي حينذاك صدام حسين في محو هويات المعارضين، وذلك من أجل تحويلهم إلى حيواناتٍ أليفة، فكانوا يجعلونهم يصفون أنفسهم بالكلاب، ثم يصيح بهم: «جواسيس.. انزلوا أيديكم وأقدامكم»، وما أن يفعلوا ذلك، يطلب منهم النباح كالكلاب، لفترة زمنية معينة.

كان هذا التدريب يتم كل يوم مرتين، صباحًا ومساءً كتدريبٍ نهاري يستمر أكثر من ساعة، يعلو فيها صوت المعتقلين بالنباح الذي لا يقطعه سوى قهقهات الجلادين.

«جواسيس… اخلعوا ملابسكم، وانتظروا عراة كما خلقكم الله»، كانت تلك وسيلة أخرى للتعذيب كما يصفها البغدادي؛ إذ كان يُطلب منهم الهرولة عراة، بين طابورين من الحرس، كل منهم يحمل سوطًا، ويبدأ في جلد الأجساد المهرولة أمامه، وبهذا الإذلال الذي تفنن في وسائله جلادين صدام حسين، تمكنوا من تطبيق إحدى وسائل غسيل المخ؛ إذ إن محو الهوية، وما أنت عليه، يترتب عليه في ما بعد تحويل سلوكك إلى أي شيء يريدونه، فلا تستطيع أن تنظر إلى عينيك في المرآة مرةً ثانية وتعرفها.

المصادر

تحميل المزيد