يشتهر المطبخ المصري بمذاقه الخاص، وطابعه الفريد والمتكامل، الذي يتفرد بالأصالة في بعض مأكولاته، والتناغم مع عدد من التأثيرات الغنية التي حلت عليه من بلدان أخرى، والتي لم يكتف باستقبالها كما هي فقط، بل أضاف عليها وأبدع فيها. وعندما نتحدث عن أشهر المأكولات المصرية، يتبادر إلى الأذهان أطباق مثل الكشري، والملوخية، وحلويات مثل أم علي، وصوابع زينب، وغيرها من المشهيات. في السطور التالية، نتتبع قصص ظهور بعض أشهر هذه المأكولات، ونبحث في أصولها.

1. «الملوخية».. من نبات سام إلى طعام الملوك

الملوخية من أشهر المأكولات المصرية الشعبية، والتي تنتشر بين كافة الطبقات الاجتماعية، وتتميز برائحتها الذكية ومذاقها اللذيذ، الذي لا يكتمل بدون «شهقة» الملوخية، و«تقلية» الثوم مع الكزبرة. ومع أن الملوخية من الأكلات المصرية القديمة، إلا أنها انتقلت إلى البلدان العربية تباعًا، ومن بينھا مصر، والسودان، وبلاد الشام والمغرب العربي، وأصبح كل بلد يُبدع في طهيها وتحضيرها على طريقته الخاصة.

وعن أصول الملوخية وسر تسميتها، تقول حنان جعفر في كتابها «تاريخ المطبخ المصري» أن ھناك عدة قصص تُفسر سر تسمية نبات الملوخية بھذا الاسم. الأولى، أن الملوخية كانت نباتًا قديمًا في عھد الفراعنة يُسمى «خية»، وكان يعتقد المصريون أنھا نبتة سامة، وعندما احتل الھكسوس مصر أجبروا المصريين على تناولھا، وكانوا يقولون لھم «ملو-خية» أي كُلوا خية. وبعد أن تناولھا المصريون، اكتشفوا أنھا غير سامة وتصلح للأكل، واستمرت إلى اليوم.

والقصة الثانية، تقول إن أصل كلمة ملوخية هو «ملوكية»؛ لأنھا كانت تُقدم للملوك، ووصفھا طبيب أحد الملوك له عندما كان مريضًا. ويقال إن الخليفة الحاكم بأمر الله أصدر قرارًا بمنع أكل الملوخية على عامة الناس، وجعلھا خاصة بالأمراء والملوك؛ فسُميت «الملوكية»، ثم حُرّف ھذا الاسم إلى «الملوخية».

وتقول رواية ثالثة، أن العرب تعرفوا على الملوخية في زمن المعز لدين الله الفاطمي، حين أصيب بألم حاد في أمعائه؛ فأشار أطباؤه بإطعامه الملوخية، وبعد أن أكلھا وشُفي من المرض؛ قرر احتكار أكلھا لنفسه والمقربين منه. وأطلق عليھا من شدة إعجابه بھا اسم «الملوكية»، أي طعام الملوك، وبمرور الزمن حُرفت التسمية إلى «الملوخية».

2. «أم علي».. وزعتها زوجة عز الدين أيبك احتفالًا بقتل ضرّتها شجرة الدر

تُعد «أم علي» نوعًا من الحلويات المصرية الأصيلة، التي تمتزج فيها رقائق الخبز والمكسرات مع الحليب. وانتقلت أيضًا إلى بعض البلدان العربية، إذ تسمى في غرب العراق «الخميعة»، وتُعرف في السودان بـ«فتة لبن». ولكن خلف ذلك الوجه الأبيض المسالم لتلك الحلوى اللذيذة، يقبع تاريخ دموي نسجه كيد النساء. 

ويرجع تاريخ هذه الأكلة إلى عهد المماليك، وتحديدًا بعد وفاة السلطان عز الدين أيبك، الذي تزوجته شجرة الدر بعد رفض الخليفة العباسي أن تتولى امرأة شؤون البلاد؛ فتزوجت شجرة الدر من أيبك، وتنازلت له عن الملك. بعد ذلك، حاول أيبك تقليص نفوذ شجرة الدر، والانفراد بالحكم، وسعى للزواج من ابنة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل. 

لم يكن ذلك بالأمر الهين على شجرة الدر المعروفة بسطوتها وقوة شخصيتها، وسعت لأن تسترجع زمام الحكم في يدها، والتخلص من زوجها، والتآمر ضد ابنه علي منعًا من وصوله للحكم لاحقًا. ومن أجل ذلك؛ حرضت الخدم على قتله، وهو ما حدث بالفعل. ولكنها لم تسلم من زوجته الثانية ووالدة ابنه علي، التي دبرت لها مكيدة لقتلها انتقامًا لزوجها. 

صحة

منذ 3 سنوات
«الكولين».. المادة الضرورية لبناء عقولنا التي ننساها في طعامنا

وبعد مقتل شجرة الدر، نُصب علي بن عز الدين أيبك سلطانًا. واحتفالًا بھاتين المناسبتين؛ أمرت أم علي خادماتها بابتكار نوع جديد من الحلويات، وتوزيعه على المصريين، الذين ابتهجوا لذلك، وسُمي الطبق باسمها نسبةً إليها.

3. «صوابع زينب».. حلاوة النصر على المغول

ساهم الفاطميون في إثراء المطبخ العربي بالكثير من الحلويات الشهية، والتي منها أصابع زينب الشهيرة المصنوعة من الدقيق الأبيض والسميد والسكر وغيرها من المكونات، واختلفت الروايات التاريخية حول تاريخ ظهورها ومنها، أن الظاهر بيبرس أمر الطباخين بعد عودته منتصرًا من معركة عين جالوت التي وقعت بين المسلمين والمغول، بتحضير الحلوى وتوزيعها على الشعب، وعندما تذوق بيبرس أنواع الحلوى التي أعدها الطباخون، أعجبه صنف جديد كان على هيئة أصابع؛ فسأل عنه وقيل له إنها أصابع زينب، نسبة للطباخة التي أعدتها.

4. «الكشري».. من الاحتلال البريطاني إلى ميدان التحرير

بمزيجه الفريد، ومذاقه الرئع يتربع الكشري على عرش أشهر الأكلات المصرية الشعبية. ومزيجه الفريد ليس في مكوناته فقط، بل إنه يجمع أيضًا بين السعر الزهيد والقدرة العالية على الإشباع بجنيهات معدودة؛ الأمر الذي يجعله الوجبة المفضلة والمحببة لكثير من المصريين والأجانب، الراغبين في إشباع فضولهم وبطونهم على حد سواء. 

وتنتشر مطاعم الكشري في جميع ربوع مصر، وتعده السيدات في المنازل. إنه بمثابة الطبق الوطني للبلاد. ومع ذلك، يعتقد الباحثون أن منشأه الهند وليس مصر. وكان أول من تحدث عنه الرحالة العربي ابن بطوطة في كتابه «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» قائلًا في وصف الهند: «يطبخون المنج (العدس بقشرته) مع الأرز ويأكلونه بالسمن ويسمونه كشري، وعليه يفطرون في كل يوم. وكلمة كشري مشتقة من اللغة السنسكريتية، وتعني أرز مع أشياء أخرى».

أما عن انتقاله إلى مصر، فكان مع قدوم الجنود الھنود إليها مع الجنود البريطانيين في أثناء الحرب العالمية الأولى، حين فرضت القوات البريطانية الحماية على مصر. ومع اختلاط المصريين بالجنود الهنود عبر عمليات البيع والشراء؛ عرف المصريون هذه الوجبة، وأخذت تنتشر في أحياء القاهرة التي كان يسكنها إلى جانب المصريين أقليات إيطالية. وأحب الإيطاليون الأكلة، وأضافوا لها المعكرونة. 

وأضاف المصريون لتلك الوجبة شيئًا من إبداعهم أيضًا؛ فكانت الصلصة الحمراء الحارة، والدقة التي تتكون من مزيج من الثوم المهروس والخل، إلى جانب الحمص والبصل المحمر المرشوش على وجه الطبق. ومنذ ذلك الحين، احتل الكشري مكانة بارزة في المطبخ المصري، وظهرت المطاعم المتخصصة في إعداده فقط. وقد ظهرت بعض العربات التي تقدمه للمتظاهرين في ميدان التحرير، خلال ثورة الـ25 من يناير عام 2011؛ ليقف بجانب المصريين في انتفاضتهم. 

5. «حلاوة المولد».. قصة الخليفة الفاطمي وعروسه الحسناء

لا يخلو الاحتفال بالمولد النبوي من أصناف الحلوى المتنوعة، فضلًا عن عروسة المولد والحصان اللذين يعدان من أبرز مظاهر موسم الاحتفال، ويختلف الباحثون حول أوّل مَن سنّ الاحتفال بالمولد النبوي، إلا أن البعض يرجعه إلى عهد الخليفة الفاطمي، المعز لدين الله. وكانت الاحتفالات تبدأ من غرّة شهر ربيع الأول حتى 12 منه.

وكثيرًا ما كانت ترتبط تلك الاحتفالات بالأطعمة الشھية والحلوى الخاصة، وكان الفاطميون يُشرفون على تجھيز الولائم الضخمة، إضافة إلى الحلوى التي كانت توزّع بأمر الخليفة على جميع طبقات الشعب في كافة المناسبات الدينية، وخاصة في المولد النبوي، ومن تلك المأكولات الخاصة بالمولد النبوي، «عروسة المولد»، و«الحصان» المصنوعان من السكر تحديدًا.

وتختلف كتابات المؤرّخين حول علاقة تلك الحلوى بالمولد النبوي دون غيره، فيُقال إن البداية تعود لعھد المستنصر بالله الذي كان يتأھّب لتأديب بعض القبائل المتمردة على أطراف مصر، ووعد جنوده المشاركين في حملته ضدهم، أنھم إذا انتصروا سيزوّج كلّ جندي منھم عروسًا جميلة من جواريه، وتحقق لھم النصر وما وعدھم به الخليفة، ولما تصادف الاحتفال بذكرى انتصار الجنود مع الاحتفال بالمولد النبوي، صنع ديوان الحلوى التابع للخليفة عرائس الحلوى؛ لتقديمھا ھدايا إلى القادة المنتصرين، وإلى عامة الشعب وخاصة الأطفال؛ لإشراكھم في الاحتفال بالنصر.

ويُروى أيضا أن الحكّام الفاطميين كانوا يشجّعون الشباب على عقد قرانھم في يوم المولد النبوي، ولذلك أبدع صُناع الحلوى في تشكيل عرائس المولد وتغطيتھا بأزياء تعكس روح العصر والتراث. في حين تروي رواية أخرى أن الحاكم بأمر الله قرر منع احتفالات الزواج في غير المولد النبوي؛ فكان المولد فرصتھم الوحيدة لإتمام مراسم الزواج، وإقامة الأفراح والولائم.

مجتمع

منذ 3 سنوات
هدر الطعام يكلف العالم تريليون دولار سنويًّا.. هكذا نحد منه

وتحكي أخرى أن الحاكم بأمر الله، أمر بخروج أقرب زوجاته إلى قلبه معه في يوم المولد النبوي؛ فظھرت في الموكب بردائھا الأبيض وعلى رأسھا تاج من الياسمين. الأمر الذي ألهم صناع الحلوى فرسموا الأميرة في قالب من الحلوى، بينما رسم آخرون الحاكم بأمر الله وھو يمتطي حصانه.

المصادر

تحميل المزيد