أصبحت الهند في السنوات الأخيرة قوة إقليمية يحسب لها حساب بفضل اقتصادها الصاعد وقوتها النووية، وقد نشأت في الهند أمة عظيمة عبر تاريخ حافل بالحروب، والفتوحات، والمنجزات الفكرية، ومزيج متجانس من الشعوب المتعددة العقائد. فما هي قصة هذا العملاق الاقتصادي الصاعد، المعروف الآن في جميع أنحاء العالم بتجربته الثورية الرائدة، وتقاليدها الروحية الشهيرة؟
عصور ما قبل التاريخ.. شعوب وادي السند والآريين
قامت في الهند عدد من أقدم وأغنى الحضارات في العالم، التي يرجع تاريخها لأكثر من 5 آلاف سنة. ظهر فيها عدد من الإمبراطوريات التي سادت، ثم بادت، وكان آخرها الإمبراطورية البريطانية التي انتهت عام 1947 إثر تأسيس جمهورية الهند المستقلة.
ينقسم تاريخ الهند القديم إلى حقبتين كبيرتين: هما عصور ما قبل التاريخ التي تشمل العصر الحجري، والعصر البرونزي، وامتدت آلاف السنين، بالإضافة إلى العصور التاريخية. وقد اكتشف علماء الآثار في شبه القارة الهندية مواقع تعود للعصر الحجري والبرونزي.
وانتشرت خلال الفترة بين عامي 5000 و2000 قبل الميلاد مستوطنات حضرية عالية التنظيم في جميع أنحاء المناطق الشمالية (باكستان الحالية وشمال الهند)، وربطت شبكات التجارة والاتصالات هذه المستوطنات ببعضها البعض، والثقافات القديمة البعيدة الأخرى. كذلك، تدل آثار القرى والمدن القديمة على تواجد نظام حكومي واقتصادي بها.
وفي حوالي عام 2600 قبل الميلاد جرى توحيد الثقافات الإقليمية في شبكة متكاملة ثقافيًا في منطقة وادي السند، وامتدت المستوطنات في هذه الحضارة على مساحة 650 ألف كيلومتر مربع. وتشاركت شعوب هذه المنطقة في عدد من الخصائص الثقافية، بما في ذلك التطورات الحضرية، والأوزان الموحدة، والتقنيات الحرفية.
ويعد شعب وادي السند صاحب أقدم الحضارات التي قامت في الهند وأعرقها، وكان اكتشافها في عام 1922 من أهم الأحداث الأثرية في القرن العشرين، وتعرف أيضًاً باسم حضارة «هارابّا» نسبةً إلى أشهر مواقعها الأثرية في إقليم البنجاب، وقد ارتبطت حضارة الهارابّا بالزراعة، وظهور المدن.
ويبدو أن التطور الحضاري قد بدأ في منطقة دلتا نهر السند، ثم انتقل تدريجيًا إلى الشمال الشرقي، وتتمثل أبرز إنجازات هذه الحضارة في فن البناء وتخطيط المدن. وتشير الآثار الباقية من حضارة وادي السند إلى قيام حضارة مادية راقية ومتنوعة، تميز الصناع والحرفيون بها بدرجة عالية من الكفاءة. ومع أن الكثير عن هذا الشعب وحياته ما يزال مجهولًا، إلا أن الأختام، وخاصة الطينية منها، أظهرت أنه عرف الكتابة ومارسها، وعرف الحساب والقياس.
وقد ازدهرت حضارة وادي السند على مدى خمسة أو ستة قرون، ثم تراجعت في القرون الأولى من الألفية الثانية قبل الميلاد. وفي حوالي عام 1500 ق.م، بدأت الثقافة الهندية الآرية بالسيطرة على المنطقة. وكانت نهاية حضارة وادي السند على أيدي الآريين، الذين دخلوا الهند من شمالها الغربي قادمين من آسيا الوسطى. وتمكنت القبائل الآرية بعد معارك عنيفة وطويلة الأمد من إخضاع السكان المحليين، وطردهم نحو الجنوب، أو استعبادهم بعد تدمير حضارتهم.
ارتبطت الثقافة الهندية الآرية باللغة السنسكريتية، التي ترتبط باليونانية واللاتينية واللغة القديمة في بلاد فارس. ويعود أصل تسمية الآريين إلى الكلمة السنسكريتية «Arya» التي تعني النبلاء، وكان الآريون يشكلون طبقة السادة، ويختلفون عن السكان الأصليين بديانتهم، وعاداتهم، وجذورهم الاجتماعية، ولون بشرتهم.
العصور التاريخية
في أواخر القرن السادس قبل الميلاد، تسارعت الأحداث والتطورات، ودخلت الهند في ضوء التاريخ فعليًا. في المجال الديني، ظهر كثير من المتشككين وأنصار المذهب المادي، الذين زعزعت أفكارهم سلطة البراهمة على العقل الهندي، والقيم التقليدية الراسخة، ومهّدوا لظهور ديانتين جديدتين هما: الجاينية، والبوذية التي غدت إحدى كبرى الديانات في العالم.
وفي المجال السياسي نشأت عدة دول توسعية كبيرة، كان أقواها وأهمها مملكة ماكادا في الجزء الجنوبي من ولاية بيهار، شمال شرق الهند. وعلى الصعيد الخارجي، استولى الملك داريوس الكبير على إقليم السند عام 518 ق.م، وضمه إلى الإمبراطورية الفارسية الأخمينية. وصارت بذلك أساطيل الفرس تجوب المحيط الهندي، وتؤمن المواصلات بين الإمبراطورية الفارسية وحوض السند. أيضًا أصبحت صادرات الهند النفيسة من حرير، وتوابل، وأحجار كريمة وغيرها تصل حتى شواطئ البحر المتوسط.
ويروي هيرودوت في تاريخه أن الهنود كانوا أكبر الشعوب المعروفة آنذاك، وقد استمر عصر السيطرة الفارسية على غربي الهند نحو قرنين من الزمن، حتى قدوم الإسكندر الأكبر المقدوني وقضائه على الإمبراطورية الأخمينية، وكان من نتائج هذه الغزوة، ترسيخ العلاقات التجارية والثقافية بين الهند والغرب.
العصر الذهبي للبلاد
أدى ظهور أسرة جوبتا في بداية القرن الرابع الميلادي؛ إلى قيام عصر ذهبي امتد حتى القرن السادس الميلادي. سعى كل حاكم من الجوبتا لزيادة إمبراطوريته؛ فالهند لم تكن بلدًا موحدًا ذا لغة واحدة، وأدت الاختلافات العرقية بين الأسر الحاكمة إلى قيام ممالك مختلفة فيها. وشهدت أسرة جزبتا تطورًا وتقدمًا خلال عهد تشاندرا جوبتا الأول (320-335م)، الذي سُكّت النقود في عهده، وكان ابنه سامودرا جوبتا (335-375م) أحد أفضل الأباطرة الفاتحين في الهند القديمة.
بدأت هذه الأسرة بزعامة مؤسسها تشاندرا جوبتا الأول بتوحيد شمالي الهند، بعد قرون من الانقسام والصراعات والسيطرة الأجنبية. وفي عهد ابنه سامودرا جوبتا، بلغت أوج قوتها ودانت لها أقاليم كثيرة بالطاعة، وساد السلم بين الطوائف الدينية المختلفة مثل الهندوسية، والبوذية، والبراهمانية التي عاشت معًا في سلام.
يمثل حكم هذه الأسرة الحقبة الكلاسيكية في تاريخ الهند، الذي كان عصرًا ذهبيًا للعلوم، والآداب، والفنون. بلغ كل جانب من جوانب الثقافة ذروتها في عهد الجوبتا، بما في ذلك الفلسفة، والأدب، والعلوم، والرياضيات، والهندسة المعمارية، وعلم الفلك، وغيرها من الميادين التي ازدهرت خلال هذه الفترة؛ وأدت إلى ظهور بعض من أعظم إنجازات الإنسان.
ابتكر علماء الرياضيات النظام العشري للأعداد، وعرف علماء الفلك نظرية دوران الأرض، وتمكنوا من حساب وحسب محيط الأرض، وحسبوا اليوم بدقة كبيرة. فضلًا عن ذلك، حققت الهند تقدمًا كبيرًا في علم الطب والأدوية، وتجلت عبقرية الهند في الفنون والهندسة المعمارية، التي أبدعت معالم رائعة تتسم بالجمال، والدقة، والرمزية. بالإضافة إلى ذلك، وصلت الثقافة الهندية إلى مستوى لا مثيل له، وبرز في القرن الخامس كاليداسا الذي يُوصف بأنه أعظم شعراء الهند وأدبائها المسرحيين.
توسعت إمبراطورية جوبتا من شمالي الهند حتى أقصى الجنوب، واستمرت الفتوحات في عهد تشاندرا جوبتا الثاني (380-414م)، ثم بدأ الوهن يدب في أوصال الإمبراطورية منذ نهاية حكم كومارى جوبتا. وفي مطلع القرن السادس، جاءت موجة جديدة من الغزوات أطاحت بملوك أسرة جوبتا عن عروشهم، وتدهورت الأوضاع من جديد.
مجيء الإسلام إلى شبه القارة الهندية
وصل الإسلام إلى الهند عن طريق التجارة والدعوة والفتح، فمنذ أيام عمر بن الخطاب كانت محاولات فتح الهند على نطاق ضيق، وبدأت تأخذ شكلها الجلي في عهد الأمويين عندما أرسل الحجاج بن يوسف الثقفي عدة حملات لفتح الهند؛ نجحت إحداها بقيادة محمد بن القاسم في فتح بلاد السند (جزء من باكستان اليوم) عام 92هـ (712م)، وتأسيس مملكة إسلامية في ذلك الجزء من الهند.
وفي عهد الدولة العباسية، تمكن هشام بن عمرو التغلبي والي السند من فتح الملتان وكشمير، ثم نتيجة ضعف الدولة العباسية وتفكك أجزائها؛ تكونت عدة إمارات في السند، منها إمارة المنصورة، وإمارة الملتان، وإمارة إسماعيلية حتى جاء الغزنويون – عُرفوا بذلك نسبة إلى مدينة غزنة التي اتخذوها عاصمة لدولتهم – وحارب مؤسسها أبو منصور سُبُكْتكين البنجاب وانتصر عليهم، ثم جاء ابنه محمود بن سبكتكين، واستطاع أن يوحد أجزاء السند تحت إمرته، وانتشر الإسلام في أكثر الأجزاء التي فتحها في الهند.
تمثال تيمورلنك في أزوبكستان
وتوالت حملات الفتح والسقوط على الهند حتى أسقط المغول بغداد، وقتلوا آخر الخلفاء العباسيين، وفتحوا أجزاءً واسعة من الشرق الأوسط بعد ذلك، ثم بدأوا بالتوجه نحو الهند. غزا المغول بقيادة تيمورلنك دلهي عام 1398؛ فوضعوا حدًا للسلام والعصر الذهبي للسلطنة ونهبوها. تجزأت بعد ذلك الإمبراطورية الإسلامية في الهند إلى عديد من الممالك الصغيرة المتحاربة، التي كان يحكم كل واحدة منها سلطان.
أوجدت فتوحات الحكام المغول خلال القرنين التاليين واحدةً من أفضل الإمبراطوريات، التي عرفتها الهند من حيث الإدارة والمركزية. وكان أول الفاتحين المغول بابر من أحفاد تيمورلنك، الذي غزا الهند عام 1526 من كابول بأفغانستان، وهَزَم سلطان دلهي، واستطاع خلال سنوات قليلة فتح معظم الشمال الهندي.
النضال الهندي في مواجهة الاحتلال البريطاني
تعرضت الهند لأحداث جسام كان أبرزها الاستعمار البريطاني، وما تلاه من نضال من أجل الاستقلال. بدأ الضعف يستشري في ربوع شبه القارة الهندية، وأخذت الإمارات الهندية تستقل، وبدأ النفوذ الإنجليزي يدخل الهند حتى انتهت الدولة المغولية بآخر حكامها بهادور، بعد أن أسقط الإنجليز الدولة المغولية ونفوا بهادور خارج الهند.
وصل البريطانيون إلى الهند في القرن 17، وأسسوا مراكز تجارية تحت لواء «شركة الهند الشرقية البريطانية». وبحلول منتصف القرن 19، تمكن البريطانيون من السيطرة على معظم أراضي الهند، حتى جرى إخضاع الهند للحكم البريطاني المباشر في عام 1858.
شهد النصف الثاني من القرن 19 الميلادي بدايات التصنيع الحديث في الهند، وأنشئت المصانع الآلية لغزل القطن في مومباي، وغدت الهند في غضون أقل من 50 عامًا إحدى أشهر الدول في صناعة الملابس. كذلك وفرت الترسبات الكبيرة من الفحم الحجري الوقود اللازم للقطارات والمصانع الجديدة.
وخلال الحرب العالمية الأولى، قاتل عديد من الجنود الهنود من أجل القضية البريطانية، وتميزوا في ميادين القتال في أوروبا، والحملات الشرق أوسطية. وكانوا يرون بأم أعينهم كيف تُدار الشؤون السياسية في أوروبا، بينما لم يكن في الهند ديمقراطية حقيقية بعد. وبدأ الهنود بعد العودة من الحرب بالمطالبة بإجراء تغييرات سياسية، خلال اجتماعات شعبية حاشدة، إلا أن الحكومة البريطانية منعت مثل تلك الاجتماعات.
وقاد اللواء داير، القائد البريطاني، حملة في عام 1919 للسيطرة على اجتماع غير قانوني في أمريتسار في البنجاب، وأمر جنوده بسد المخرج من الاجتماع وإطلاق النار على الجموع المحتشدة، بدون إنذار. وقد قُتل نتيجة لذلك نحو 400 مواطن، وُجرح نحو 1200، وأطلق على هذه الحادثة «مذبحة أمريتسار».
مؤتمر تقسيم الهند، عام 1947
وفي عام 1920 اندلعت حركة استقلال الهند، وترأس الزعيم الوطني غاندي حملة احتجاج سلمية ضد الوجود البريطاني في الهند. وخلال الفترة بين 1920-1922 أطلق غاندي حركة عصيان مدني ضد الاحتلال البريطاني. وفي عام 1947 انتهى الاحتلال البريطاني، وجرى تقسيم شبه القارة الهندية إلى دولتين مستقلتين: الهند العلمانية ذات الغالبية الهندوسية، وباكستان الإسلامية، وخاضت الدولتان ثلاث حروب حول إقليم كشمير المتنازع عليه.
وفي 1950 أصبحت الهند جمهورية، وغدا «حزب المؤتمر» الحزب المهيمن على الحياة السياسية في البلاد. علاوة على ذلك بدأ إعلان العمل بالدستور الهندي الذي يُقر نظام الاتحاد الفيدرالي، ويقسم الهند إلى ولايات، إلى جانب إقرار النظام البرلماني، بالإضافة إلى احتوائه على قائمة بالحقوق الأساسية مثل حرية الصحافة والتنظيم.
وفي عام 1956 استردت الهند الأقاليم التي كانت تحت السيطرة الفرنسية. ولاحقًا في عام 1987، استردت الهند آخر إقليم محتل، إقليم جووا، الذي كان تحت السيطرة البرتغالية، ثم أصبح ولاية في الاتحاد الفيدرالي للهند. وفي التسعينات من القرن العشرين، أطلقت الحكومة الهندية برنامجًا لتحرير وإصلاح الاقتصاد، وفتح الاقتصاد الهندي للاستثمارات والتجارة العالمية.