نسمع كلمة «عطور» فيتبادر إلى أذهاننا العطور الفرنسية الراقية الشهيرة، وعندما نرغب بشراء أحدها وتعجبنا رائحته نتأكد من أن بلد المنشأ أو التصنيع هو فرنسا، عندها لن نتردد في دفع ثمن مرتفع لشرائه، إنه فرنسي! مع كل هذه الشهرة التي تربط العطور بفرنسا، قد يخيل للبعض أن أول من اخترعها أو استخدمها هم الفرنسيون، لكن الحقيقة أبعد ما تكون عن ذلك.

فقد كان لحضارة الهندوس وبابل وعلماء العرب المسلمين الدور الأكبر في تطوير العطور. أما بالنسبة للأوروبيين، فلم يستخدموها إلا في منتصف القرن السادس عشر تقريبًا. وكانت حصرًا للأغنياء بهدف تغطية روائح أجسامهم نتيجة قلة الاستحمام وعادات النظافة الشخصية السيئة.

Embed from Getty Images

سنة 3000 قبل الميلاد: أول جهاز تقطير للزيوت العطرية في وادي هندوس

عرف حب الإنسان وبحثه عن الروائح الزكية منذ قديم الزمان عن طريق حرقه الأعشاب والنباتات ذات الرائحة المميزة والزيوت العطرية، خاصة في الطقوس الدينية. من بين العديد من الحضارات كانت الحضارة الهندوسية القديمة، أول من  استخدم الزيوت العطرية عام 3000 قبل الميلاد. ففي عام 1975 وجدت بعثة عالم الآثار باولو رفيستي، جهاز تقطير لفصل الزيوت الأساسية الموجودة في النباتات في وادي هندوس.

يعد جهاز التقطير المكتشف، أقدم آلية بدائية لتقطير الزيوت العطرية، وكان يتكون من أوعية زجاجية توضع فيها أوراق الأزهار والماء المغلي، ثم تغطى بقطعة من النسيج، ومن ثم يجري فصل الزيوت وعزلها في زجاجات منفصلة، وكانت هذه أولى تقنيات استخدام الزيوت العطرية حتى تطور استخدامها في زمن الحضارة البابلية.

1200 قبل الميلاد: تابوتي أول صانعة للعطور من بابل القديمة

بالنظر إلى المخطوطات الحجرية القديمة، توصل الباحثون إلى أن أول صانعة للعطور كانت امرأة من بابل تعرف باسم «تابوتي» في الألفية الثانية قبل الميلاد. تقول المخطوطات إن تابوتي كانت أول من كتبت رسالة عن صناعة العطور وطورت تقنياته المختلفة بما في ذلك التقطير، والتشبع البارد، والصبغة، واستخراج الرائحة، كما طورت أيضًا تقنية لاستخدام المذيبات – مثل الماء المقطر والكحول – لجعل الروائح أخف وزنًا وأطول تأثيرًا من أي زيوت عطرية أخرى.

Embed from Getty Images

حازت تابوتي على لقب «المشرف» لدى العائلة المالكة، وأشرفت على الأسرة بأكملها وصنعت العطور لها، وتوضح إحدى وصفاتها الباقية مرهمًا عطريًّا مخصصًا للملك مصنوعًا من الزهور والزيت ونبتة الكالاموس.

سنة 1000 قبل الميلاد: قدماء المصريين يخترعون قوارير العطر

كان للعطور أهمية كبيرة في المجتمع المصري القديم الراقي، حتى إن الأساطير المصرية تشير إلى أن الإله نفرتم كان رب العطور، إذ غالبًا ما يصور وهو يحمل زنابق الماء، والتي كانت عنصرًا شائعًا في العطور القديمة.

كما أن أقدم استخدام لزجاجات العطر، مصري يعود تاريخه إلى نحو سنة 1000 قبل الميلاد حين اخترع المصريون الزجاج، وكانت زجاجات العطر من أوائل الاستخدامات الشائعة له. أما بالنسبة لطريقة الصناعة، فقد صنع المصريون العطر عن طريق تقطير المكونات الطبيعية بالزيوت غير المعطرة، وأكثر الروائح شعبية كانت مشتقة من الزهور المحلية والفواكه والأخشاب العطرية.

أما بالنسبة لاستخداماته، ففي مصر القديمة كان هناك اعتقاد بأنه لا يمكنك دخول الآخرة إلا إذا كنت نظيفًا، لذلك، فإن مستحضرات التجميل والعطور كانت من بين العناصر الأكثر شيوعًا في المقابر. حتى إن عادات النظافة اليومية لدى المصريين كانت تشمل الاستحمام يوميًّا واستخدام العطور ومستحضرات الجسم لتنعيم البشرة وحمايتها من الشمس.

Embed from Getty Images

كذلك استخدم الكهنة المصريون الراتنجات العطرية عند تقديم القرابين ووسيلة للتواصل مع الآلهة، وكانت حضارة المصريين القدماء أول حضارة سجلت كتابةً تركيبة الزيوت المستخدمة في صنع الروائح التي كانت تستخدمها الملكات مثل الملكة كليوباترا والملكة حتشبسوت، اللتين استخدمتا العطر لرائحة جسديهما وأماكن إقامتهما وحماماتهما وحتى وضع العطر معهما في القبر.

ابن سينا من بلاد فارس: مكتشف كيمياء العطور غير الزيتية

لم يكن الفرس القدماء أقل افتتانًا بالروائح من المصريين؛ فقد حكموا تجارة العطور لمئات السنين، ويُنسب إليهم الفضل بوصفهم مخترعي العطور غير الزيتيةفقد أجرى ابن سينا، الطبيب الفارسي والكيميائي والفيلسوف، تجارب مكثفة على التقطير لمحاولة صنع روائح أفضل، وكان أول من اكتشف الكيمياء الكامنة وراء العطور التي لم تكن تعتمد على الزيت. وكما هو الحال مع ملوك مصر، احتل العطر مكانة عالية في المجتمع الفارسي النبيل، وغالبًا ما كان للملوك الفارسيين «روائح» خاصة بهم لم يُسمح لأصدقائهم وأقاربهم باستخدامها.

الرومان: استخدموها بالأطنان ثم اعتبروها نجسًا!

وثَّق الرومان والإغريق القدماء عمليات صنع العطر بعناية، ولهذا السبب يجري إعادة تصنيع العديد من العطور اليونانية الرومانية اليوم، كما يشير موقع «ساينس سكول –Science School»، وقد استخدم الرومان العطور في طقوسهم الدينية، فقد كان عبدة الإلهة أفروديت القديمة، إلهة الحب، ينشرون العطر والروائح في معابدهم وفي خدمات عبادتهم. ومع ذلك، لم يجر استخدامها للأغراض الدينية فقط، فقد كان جزء كبير من تحول روما من قرية زراعية صغيرة إلى بؤرة تجارة عالمية.

Embed from Getty Images

فتشير التقديرات إلى أن الرومان كانوا يستخدمون نحو 2800 طن من البخور المستورد و550 طنًا من راتنجات نبات المر سنويًّا. إذ جرى استخدام هذه المواد لصنع العطور للحمامات العامة وتعطير رائحة الماء ومواد العناية بالجسم، مثل الزيوت والعطور للبشرة والشعر.

لكن مع تدهور قوة الروم، سرعان ما اعتبر فلاسفة الرومان استخدام العطور ضربًا من الترف والإسراف، وعند سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية في القرن الخامس، تراجع استخدامها في جميع أنحاء أوروبا.

فبعد أن كان العطر في السابق وسيلة التواصل مع الإله، فقد مكانته وجرى حظر استخدامه لاعتباره نجسًا ومرتبطًا بالإغراء والمعتقدات الشريرة والوثنية وحتى السحر، لكن في الوقت نفسه كانت مكانته تواصل الارتقاء في الشرق.

ومكانتها ترتقي في الهند القديمة والصين

بينما أدار الأوروبيون ظهورهم للعطور لحقبة من الزمن، كانت الثقافات الأخرى تواصل تعظيم مكانتها في حياتها، فعلى سبيل المثال، كان العطر يستخدم في الطقوس الهندية المقدسة والاحتفالات في معابدهم. كما خلط الصينيون القدماء العديد من العناصر اليومية بالعطر، مثل الحبر الذي كتبوا به، والقرطاسية التي كتبوا عليها، واستخدموه في أماكن وجودهم مثل المنازل ودور العبادة.

تاريخ وفلسفة

منذ 4 سنوات
تعلموها من المسلمين.. ما لا تعرفه عن تاريخ النظافة الشخصية لأوروبا!

لم يكتف الصينيون بذلك، بل استخدموا العطور للتطهير والنقاء لأنهم اعتقدوا أنها يمكن أن تساعد في تخليص الغرفة من المرض. وبشكل عام، ركزوا على دهن أجسادهم بالرائحة وأكثر، وعلى استخدامه لتعطير العالم من حولهم.

بعد ذلك بدأ الصينيون النبلاء في استخدام العطور الشخصية، واستيراد المكونات عبر طريق الحرير، ومع الوقت بدأ استخدامها في الانتشار بين العامة. وقد ارتكزت تركيبات العطور الشرقية بشكل كبير على الأعشاب والتوابل، وكثير منها كان يستخدم أيضًا في الغذاء والدواء.

العصور الوسطى: العطور لدرء المرض

نظرًا إلى أن الأوروبيين في العصور الوسطى اعتقدوا أن الهواء السيئ يمكن أن يسبب المرض، فقد كانوا يحملون معهم كرة من المواد المعطرة داخل حقيبة مفتوحة جميلة لدرء العدوى والحفاظ على الهواء من حولهم نظيفًا. وجدير بالذكر أن الفكرة لهذا العطر المحمول قد ظهرت في العصور الوسطى بعد أن عاد الصليبيون من الحروب في شبه الجزيرة العربية حاملين معهم أسرار صناعة العطور.

وعلى الرغم من أن فكرة العطور الزيتية الشخصية لم تنتشر بينهم، فقد اكتشفوا أن الزباد والخروع والمسك والعنبر وغيرها من العناصر، كانت موادًّا أساسية رائعة للروائح، وحملوا أكياسًا تحتوي على خليط منها لتعطير ملابسهم أيضًا.

لكن أول عطر للجسم صنعوه في تلك الفترة كان يُعرف باسم مياه المجر، لأنه يُعتقد أنه جرى تصنيعه لملكة المجر خلال القرن الرابع عشر، وكان يحتوي على الكحول المقطر والأعشاب التي يرجح أنها كانت إكليل الجبل والنعناع.

وكيف أصبحت إيطاليا مركز تجارة العطور؟

حدث تقدم كبير في إنتاج العطور في إيطاليا في العصور الوسطى، عندما اكتشفوا كيفية صنع «أكوا ميرابيليس» أو مياه المعجزة، وهي مادة صافية مكونة من 95% من الكحول ومشبعة برائحة قوية، مما مهد لولادة العطر السائل. بعد هذا الاختراع، أصبحت إيطاليا، والبندقية على وجه الخصوص، مركزًا لتجارة العطور العالمية لعدة مئات من السنين.

عروس إيطالية تحمل العطور لفرنسا

إذا كان هناك شخص واحد قد جلب العطور الإيطالية إلى فرنسا، فهو كاثرين دي ميديشي، العروس الإيطالية التي تزوجت من الملك الفرنسي. فقد أعد صانع العطور الإيطالي رينيه لو فلورنتين لميديشي عطرها الخاص المصنوع من ماء معطر بالليمون العطري وزهر البرتقال، كما ابتكر لها قفازات برائحة المسك.

Embed from Getty Images

بعدها بدأ العطر يصبح من الأشياء العصرية، وأصبح الرجال والنساء الأوروبيون يضعون العطور على أجسادهم وملابسهم وشعرهم المستعار. ونظرًا إلى أن الاستحمام بانتظام كان لا يزال ممارسة غير شائعة، فقد جرى استخدام الروائح للتغطية على رائحة الجسم. 

القرن التاسع عشر: نابليون يستخدم الكولونيا وبداية صناعة العطور

نواصل رحلتنا عبر تاريخ العطور وصولًا إلى القرن التاسع عشر عندما كان نابليون وزوجته الإمبراطورة جوزفين يحبون استخدام ماء الكولونيا مع الفواكه الحمضية الطازجة والروائح الخفيفة.

كان تركيز المواد الخام العطرية في ماء الكولونيا منخفضًا جدًّا حيث احتوت، في المتوسط ​​ على 2 إلى 3% من الزيوت الأساسية. ومن ثم، كانت هذه المياه العطرية رخيصة الثمن مما أدى إلى انتشارها بسرعة. وبذلك، كان القرن التاسع عشر نقطة تحول حقيقية في تاريخ انتشارها وصناعتها أيضًا. فقد جرى اختراع تقنيات استخراج روائح طبيعية جديدة، والتي وسعت إلى حد كبير من نطاق ابتكارات خبراء العطور.

وفي الوقت نفسه، سمح ظهور الكيمياء بتطوير الجزيئات الاصطناعية؛ مما جعلها اليوم في متناول عامة الناس وأتاح تعطير كل شيء من الغسيل والملابس، إلى الخزانات والأماكن العامة والمنازل.

المصادر

تحميل المزيد