لم يشهد اليمن في تاريخه المدون فترة من الراحة والاستقرار، بل شابه الحروب والنزاعات السلطوية والقبلية والدينية، وربما تكون من الفترات القليلة التي شهدت فيها البلاد كاملة نوعًا من الاستقرار السياسي، هي في العصر الحديث عندما بسط الرئيس المخلوع «علي عبد الله صالح» سيطرته على شمال اليمن وجنوبه بعد الوحدة عام (1990)، رغم كل ما كان في فترة حكمه من مآسي عاناها الشعب اليمني، وقد شهدت البلاد في فترة حكمه العديد من البلابل أولها حرب الانفصال، ومن ثم حربه مع الحوثيين وأيضًا «تنظيم القاعدة»، ولكنها مع ذلك كانت الأكثر استقرارًا في التاريخ المدون للـ«يمن السعيد».
وربما يكون اليمن من أشد البلاد تعاسة بفعل الحرب المستمرة التي بدأت بعد ثورة فبراير (شباط) ضد حكم نظام صالح، وأدت لتقاسم البلاد بين الحوثيين المدعومين من إيران، وما يعرف باسم «الحكومة الشرعية» المدعومة من السعودية، وتفرق اليمنيون بين موالٍ لهذا ومعارض لذاك، وسالت الدماء بين أبناء الشعب الواحد، وهنا يعيد الزمن نفسه مرة أخرى.
مرت على اليمن العديد من الحقب في العهد القديم، منها ممالك سبأ وقبتان ومَعْيَن وحضرموت، وأخيرًا مملكة حمير التي وحدت ممالك اليمن جميعًا وتوسعت كثيرًا، وتعد من أعظم الممالك التي حكمت قبل الإسلام، واستمر حكمها قرابة 635 سنة تخللها العديد من الاضطرابات حتى تقلصت حجم مملكتهم بشكل كبير، وذلك بعد سيطرة الأحباش الذين استطاعوا بمساعدة قبائل يمنية جنوبية من إسقاطها، وبسطوا سيطرتهم على مساحات واسعة من اليمن، وتمكن اليمنيون فيما بعد من إخراج الأحباش من بلادهم، وهنا بدأ الإسلام بالدخول وانتشر بشكل سريع وواسع في البلاد كاملة.
تعاقب الحكم في اليمن بعد دخول الإسلام من عصر النبوة والخلفاء الراشدين الأربعة؛ إذ شهدت فترتهم هدوءًا نسبيًّا، إذا ما استثنينا حروب الردة التي قادها الخليفة أبو بكر الصديق، تلاهم خلفاء بني أمية، وبعدها العباسيون، ومن ثم الأيوبيون، وجميعهم ذاقوا ويلات الحروب والثورات ضدهم، ولم يشهد اليمن خلال تلك الفترات الهدوء سوى لفترات قصيرة.
وكانت تكثر في اليمن الاضطرابات بسبب التعصب للطائفة أو القبيلة، أو بسبب فساد الأمراء والولاة، وكانت تخرج العديد من المناطق بشكل دائم عن السيطرة، وتشكلت العديد من الدويلات التي كانت تحاول الاستقلال بذاتها، وجرت فيها العديد من الحملات لإخماد هذه الثورات، وما إن يتم إخماد ثورة هنا حتى تشتعل أخرى هناك، حتى أصبح اليمن يصدع رؤوس الخلفاء والسلاطين والأمراء.
يجمع المؤرخون أن ربما واحدة من أفضل حقب العصر الإسلامي التي مرت على اليمن كانت في الدول الرسولية، والتي شهدت استقرارًا سياسيًّا نوعًا ما، حيث عمل ملوك هذه الدولة على إخماد جميع الثورات ضدهم وشكلوا تحالفات ووقعوا اتفاقيات، واستخدموا الحديد والنار ضد أعدائهم الكثر، وشهدت البلاد في عصرهم ازدهار العلوم والمعرفة، مثل الطب والفلك، وأيضًا الصناعة والزراعة والتجارة، وفتحت العديد من المدارس التي استقطبت مئات الطلاب من شتى المناطق، ووصلت مناطق سيطرة هذه الدولة من ظفار في سلطنة عُمان مرورًا بالمهرة وحضرموت وعدن جنوب اليمن، وحتى مكة المكرمة وجدة شمالًا، في هذا التقرير سنروي قصة الدولة التي أضاءت عتمة اليمن، ولكنها انهارت بيد أبناء البيت الرسولي أنفسهم وليس بيد أعدائها.
لعل قيام دولة بني رسول كانت صعبة، خاصة مع كثرة الأعداء والخصوم، ولكن دهاء ملوكها وحنكتهم كانا العامل الرئيسي في سيادتهم لليمن مدة 232 سنة، كانت الأطول بعد مملكة حمير، ولكنها كانت الأوسع انتشارًا ولم تصل مملكة قبلها لمثل ما وصل إليه بنو رسول في اليمن، وشهدت دولتهم شدًّا وجذبًا ومعارك لا تتوقف، واتسم حكمهم بأنه نظام عسكري بشكل كامل، ولكن في الوقت ذاته كان هناك قضاء مستقل ومركزية في القرار، وتنظيم الأمور المدنية والحياتية للناس بشكل قل نظيره في ذلك الزمن، حتى نالت هذه الدولة احترام الدول الأخرى، وتوافد السفراء إليها من الأقطار كافة.
صلاح الدين الأيوبي يرسل أخاه لإعادة التوازن في اليمن
في كتاب اللطائف السنية في أخبار الممالك اليمنية، والذي ألفه المؤرخ محمد بن إسماعيل الكبسي المتوفى في عام 1308هـ/ 1890مـ، قال إن ملك اليمن تفرق في عام 559هـ/ 1163مـ؛ إذ كانت عدن وأبين إلى نقيل سمارة لآل زريع ملوك عدن، وذمار ومخاليفها لسلاطين جَنب، وصنعاء وأعمالها إلى حدود الظاهر لعلي بن حاتم، والجوف وصعدة وما يليها للإمام الزيدي أحمد بن سلمان، والحريب وما حولها لآل عمرة بن شرحبيل، وتهامة الشامية إلى حرض للشريف غانم بن يحيى بن حمزة بن وهاس السليماني، وزبيد وما إليها إلى حرض لعبد النبي بن مهدي.
وحدث سنة 560هـ/ 1164مـ أن هاجم عبد النبي بن مهدي مناطق الشريف غانم، وسلبها فنهب أموالهم وسبى نساءهم، وحدثت بعدها حروب واسعة بين أصحاب المناطق المذكورة، ولكن ما يهمنا هو حين سعت الدولة الأيوبية لتوسيع نفوذها في اليمن، ولماذا. يعود السبب حسب كتاب اللطائف السنية إلى أن الشريف غانم بن يحيى بن حمزة بن وهاس السليماني، استنجد بالملك الناصر صلاح الدين الأيوبي لرد ما فعله ابن مهدي من النهب والسبي، واستجاب له، وفي سنة 568هـ/ 1172مـ، أرسل صلاح الدين الأيوبي أولى حملاته إلى اليمن تحت قيادة أخيه الملك توران شاه، في أكثر من ثلاثة آلاف مقاتل وفارس، فكان النصر حليفها، فقتلوا ابن مهدي وأسروا أخوته وأولادهم ومن ثم قتلوهم عن آخرهم وأزالوا حكمهم نهائيًّا من زبيد، واستمر تقدم الأيوبيين حتى وصلوا إلى تعز وعدن وأبادوا آل زريع، ودخلوا بعدها صنعاء بعدما فر منها آل حاتم، واستمر تقدمهم حتى صار غالب اليمن تحت سيطرتهم بالكامل.
وفي هذا الوقت كان صلاح الدين قد ضم أغلب مدائن الشام ومصر تحت سلطانه، فأراد توران شاه الخروج من اليمن، فأرسل إلى أخيه يرجوه السماح له بالعودة، ولكنه رفض ذلك، وحاول ترغيبه في المقام باليمن، ولكن توران شاه اشتاق للشام ومصر وأرسل لأخيه بيتين من الشعر يقول فيهما:
وإذا أراد الله سوءًا بامرئ … وأراد أن يحييه غير سعيد
أغراه بالترحال عن مصر بلا … سبب وأسكنه بأرض زبيد
وهناك علم صلاح الدين بأن أخاه قد ضاق ذرعًا باليمن، فأذن له بالعودة، واستخلف على اليمن عمالًا له، كانوا يرسلون خراج البلاد إليه، حتى توفي عام 576هـ/ 1180مـ، وهنا ظهر الخلاف لدى عماله وصار كل منهم مستقلًّا بمنطقته، ومال بعضهم على بعض، قتلًا وتنكيلًا، حتى عام 579هـ/ 1183مـ، عندما قدم السلطان سيف الإسلام طغتكين إلى اليمن بحملة عسكرية جديدة، تمكن فيها من إعادة جميع المناطق إلى حكم الأيوبيين مرة أخرى بعد معارك استمرت لعدة سنوات، وحكم اليمن لمدة 14 سنة، إلى أن توفي عام 590هـ/ 1193مـ أي بعد سنة من وفاة السلطان الناصر صلاح الدين.
وهكذا تعاقب سلاطين وأمراء بني أيوب في حكم اليمن، وما إن يستعيدوا منطقة حتى تسقط أخرى، وصارت سيطرة الأيوبيين تتقلص يومًا بعد يوم، حتى أرسل الملك الكامل الأيوبي ناصر الدين محمد ابنه المسعود صلاح الدين يوسف (المعروف بلقب باطسيس) لإعادة السيطرة على اليمن مرة أخرى، وتمكن فيها من استعادة العديد من المناطق، ووضع ولاة وأمراء تابعين له اعتقد أنهم أصحاب ثقة وهم أبناء بني رسول، ومن هنا بدأ ظهور الدولة الرسولية.
نشأة الدولة الرسولية
كان بني رسول من موظفي الدولة الأيوبية، واكتسبوا لقبهم كونهم كانوا المسؤولين عن المراسلات الداخلية والخارجية وإرسال البعثات الدبلوماسية واستقبالها بين مصر والشام والعراق، خاصة مع الدولة العباسية، حتى لُقب جدهم الأول محمد بن هارون بن أبي الفتح يوحى بن رستم بـ«الرسول»، نسبة إلى مهنته، وعمل معه أولاده وأحفاده، وكسبوا ثقة ملوك وأمراء بني أيوب، واستخدموهم في كثير من النواحي الإدارية.
يقول محمد بن يحيى الفيفي في كتابه «الدولة الرسولية في اليمن»، أتى علي بن رسول مع أولاده الأربعة إلى اليمن مع حملة سيف الإسلام طغتكين، ومنذ ذلك الوقت كانوا قد كسبوا شعبية واسعة لدى الأيوبيين وثقة كبيرة، وتولوا العديد من المهام العسكرية والإدارية، وتولوا بعض المناطق أيضًا، ولكن نجمهم سطع في عصر الأمير المسعود، حين ولاهم على اليمن، وهم (بدر الدين الحسن، ونور الدين عمر، وشرف الدين موسى، وفخر الدين أبو بكر).
وفي سنة 617هـ/ 1220مـ، سيطر المسعود على صنعاء وما حولها، وتوجه بعدها إلى مكة المكرمة لانتزاعها من حسن بن قتادة، الذي قتل والده وأخاه وعمه كي يصبح هو شريف مكة، وفر على إثرها ابن قتادة إلى بغداد، ومن ثم قام المسعود بتولية الأمير نور الدين عمر بن علي بن رسول على مكة وما حولها، وعاد بعدها إلى مصر، بعد أن استقر معظم اليمن إلى بني أيوب وعليها عماله من بني رسول.
يذكر الكبسي في كتابه اللطائف السنية في أخبار الممالك اليمنية، أن المسعود خاف على ملك اليمن من بني رسول، وذلك بعد أن بلغت أخبارهم مصر، إثر ما قاموا به من التوسع الكبير، خاصة تمكنهم من القضاء على تمرد المرغم الصوفي، وصد هجوم الإمام الزيدي عز الدين محمد بن المنصور بالله على مدينة صنعاء، بعد أن قتلوا أغلب جند الإمام وفروا بعيدًا عن صنعاء عام 623هـ/ 1226مـ، وبعد هذه الحادثة بسنة فقط عاد المسعود مرة أخرى إلى اليمن، فلما دخل تعز، أمر على الفور بالقبض عليهم جميعًا إلا الأمير نور الدين عمر؛ فقد كان يعتقد أنه الأكثر ولاء، حيث كان المسعود يكن له الحب والمودة، وولاه على اليمن كاملًا.
وبعد ذلك بسنة، تجهز المسعود للعودة إلى مصر وأخذ معه أموالًا وخزائن ما جمعه من أموال اليمن، وكذلك أخذ معه إخوة نور الدين ليسجنهم في مصر، ولكنه عندما وصل مكة المكرمة مات فيها عام 626هـ/ 1228مـ، وهنا بدأ نور الدين تحركاته السياسية الأولى للنهوض بدولته، وهذا التاريخ الذي اعتمده المؤرخون لقيام الدولة الرسولية.
في دراسة دكتوراة عن «الملك الأفضل الرسولي» للباحث «يوسف عبد العزيز الحميدي» بجامعة أم القرى بالسعودية، قال فيها إنه وبعد وفاة المسعود على الفور استغل نور الدين هذه الفرصة، فأرسل برسالة إلى الملك الكامل الأيوبي يعزيه في وفاة ابنه، وأعلن الولاء والطاعة فيها لبني أيوب، فوثق به الكامل وأقره نائبًا عنه في حكم اليمن، وهنا بدأ نور الدين بعزل من يخشاهم وتعيين من يثق بهم، وولى أتباعه على المدن والحصون، ثم أرسل بعد ذلك حملات إلى مختلف المناطق اليمنية من أجل السيطرة عليها، وعقد صلحًا مع الأئمة الزيدية، حيث تعاهدوا بموجبه على أن يكونوا جميعًا يدًا واحدة ضد الأيوبيين في مصر إذا حاولوا الاستيلاء على اليمن مرة أخرى، وبعد أن أمن نور الدين من عدم وجود حركة معارضة له أعلن استقلاله بحكم البلاد، ودعا لنفسه وأمر بالدعاء له في الخطب والصلوات، وقد ساعده على ذلك ما أصاب البيت الأيوبي بمصر من ضعف بسبب الصراعات الداخلية بين أفراد الأسرة الأيوبية.
وضرب نور الدين سنة 630هـ/ 1232مـ، العملة باسمه، ولكي يعطي الصبغة الشرعية لحكمه في بلاد اليمن أرسل سنة 631هـ/ 1233مـ، رسوله إلى الخليفة العباسي ببغداد المستنصر بالله، يلتمس قبول هديته التي بعثها له، وأن يرسل له تقليدًا وتشريفًا بالسلطة والنيابة عنه لحكم بلاد اليمن، فوصله هذا التقليد والتشريف سنة 632هـ/ 1234مـ، وبذلك استكمل مظاهر الاستقلال لدولته الجديدة، وأضفى على حكمه الصبغة الشرعية، واتخذ من مدينة تعز عاصمة لدولته، وتلقب بالملك المنصور، وبذلك دخلت اليمن فترة طويلة من الحكم الرسولي.
أحد عملات الدولة الرسولية، المصدر: (vcoins)
أما أصل بني رسول فقد كان مثار جدل بين المؤرخين قديمًا وحديثًا؛ إذ يرى البعض أن أصلهم من الغساسنة العرب، ويرى البعض أنهم من التركمان أو الأكراد، ولكن المؤكد أن ملوك بني رسول قد اهتموا كثيرًا بعلم الأنساب، وعملوا على إقران شرعيتهم في حكم اليمن بوصفهم بأنهم عرب أقحاح يعود أصلهم إلى جبلة بن الأيهم الغساني، والغساسنة هم فرع من قبيلة الأزد اليمنية التي نزحت إلى شمال الجزيرة بعد تهدم سد مأرب وسادوا في بلاد الشام، كما أنهم ينتمون إلى المذهب السني ويتبعون المذهبين الشافعي والحنبلي.
232 سنة من حكم بني رسول.. كيف كانت؟
اتسم حكم الرسوليين لليمن بأنه الأكثر تنظيمًا واستقرارًا في التاريخ الإسلامي؛ إذ يعد حكمهم من أفضل فترات التاريخ اليمني ازدهارًا وحضارة في كثير من الجوانب، إذ شهد استقرارًا سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا في غالب الأوقات، وكان لهم دور بارز في تشييد الكثير من المدارس والمساجد والقصور والحصون المعمارية الرائعة، التي ما يزال بعضها موجودًا إلى هذا اليوم، كما ازدهرت الزراعة والصناعة والتجارة في عهدهم بشكل كبير، وكانت علاقتهم مميزة مع الدول المجاورة وأيضًا الأفريقية منها، وأيضًا مع الهند والصين.
المدرسة الأشرفية، بناها السلطان الأشرف إسماعيل بن العباس 696هـ/ 1296مـ
كان حكام الدولة الرسولية يعملون على ما يسمى اليوم «استقطاب العقول والمواهب»، وكانوا يستقبلونهم بكل الحفاوة والترحاب، وأصبح اليمن مقصدًا للأدباء، والشعراء، والعلماء وأيضًا الرحالة، فقد كانوا يولون هؤلاء الأشخاص الكثير من الاهتمام ويرغبونهم في البقاء والسكن في اليمن للاستفادة من علومهم، حيث عملوا على تسليمهم العديد من الوظائف العلمية والإدارية وإعطائهم العديد من الحوافز المالية والمعنوية.
كان حكام بني رسول يتسمون بالعلم والمعرفة الواسعة جدًّا، ولديهم جميعًا عشرات المؤلفات في الطب، والصيدلة، والفلك، والزراعة، والصناعة، والأنساب، والتاريخ، والجغرافيا، والحرب، والسياسة، وأيضًا اللغة والشعر (سنأتي على ذكر بعضها)، وحققت الدولة الرسولية نجاحات سياسية وعسكرية وإصلاحات إدارية إلى حد بعيد، خاصة في العاصمة الرسولية «تعز».
اعتمدت الدولة الرسولية على الزراعة والصناعة والتجارة، وعملوا على توسيعها واهتموا بشكل كبير جدًّا بالزراعة والمزارعين كي يزيد الإنتاج؛ لأنه يعد موردًا أساسيًّا للدولة، فأحسنوا معاملة المزارعين ورفعوا عنهم كثيرًا من المظالم، وكانوا يتفقدونهم بصفة شخصية ومستمرة، وأعفوا المزارعين من دفع الخراج السنوي إذا تعرضت مزارعهم للتلف لأي من الأسباب.
وليس هذا فقط، بل استقدم الرسوليون شتى أنواع الشجر والحبوب من خارج البلاد، وعينوا لها مشاتل زراعية، من أجل معرفة صلاحية زراعتها في كل منطقة من مناطق اليمن، كما حفروا الآبار وشقوا القنوات والبرك للمزارعين، أما فيما يخص الصناعة، فقد عملوا على جلب الحرفيين والصناع من مختلف الأقطار الإسلامية وأحسنوا استقبالهم؛ مما شجع الآخرين على القدوم والاستقرار في البلاد، فطوروا الحرف اليمنية بأنواعها المختلفة الغزل والنسيج، والنجارة والحدادة، إضافة إلى إسهامهم في بناء العديد من المنشآت الحضارية، وأصبحت المصانع في هذا العصر من الدعامات الاقتصادية المهمة التي أدت إلى تقدم البلاد.
أما التجارة فكان لها الدور الأهم في الحياة الاقتصادية للدولة الرسولية؛ إذ أصبح اليمن في عصرهم طريقًا مهمًّا في التجارة العالمية ومن أهم المحطات لاستقبال السلع التجارية من الهند والصين… وذلك بسبب موقعه الاستراتيجي ووجود عدة موانئ على شواطئه كان أهمها ميناء عدن، حيث شكلت العائدات التجارية منه موردًا أساسيًّا لخزينة الدولة، كما قاموا بحماية السفن من القراصنة في المحيط الهندي، وجهزوا لذلك سفنًا حربية (شواني) وهو ما أدى لتقاطر السفن بشكل مستمر وأسبوعيًّا إلى موانئ اليمن.
وفي دراسة الدكتوراة سابقة الذكر ليوسف عبد العزيز الحميدي، قال فيها إن المجتمع اليمني كان في عصر الدولة الرسولية يتكون من عناصر سكانية متعددة، أهمها القبائل العربية التي شكلت الغالبية العظمى من السكان، إضافة إلى عناصر سكانية أخرى اندمجت مع العرب وذابت في المجتمع اليمني، مثل الغز (الأكراد والتركمان)، وأيضًا المماليك، وبعض الأقليات الأخرى مثل الفرس والأحباش.
وتنقسم قبائل اليمن إلى قسمين، منهم من يعمل في الزراعة، وهؤلاء كان ولاؤهم للرسوليين بشكل كبير؛ بسبب ميلهم للاستقرار أكثر، أما القسم الآخر فهم القبائل التي سكنت الجبال وغلب عليها التعصب للقبيلة والولاء لمشايخهم؛ لذلك كان ملوك بني رسول يحرصون عندما يتولى أحدهم السلطة على أخذ البيعة من كبار مشايخ العرب وزعمائهم، ومنهم أتباع المذهب الزيدي الذين وجدوا حرية دينية وتقلد بعضهم مناصب إدارية وقيادية مهمة في دولة بني رسول، وقد خاض بعض مشايخ الزيود معارك جنبًا إلى جنب مع الجيش الرسولي ضد أئمة الزيود الآخرين، حيث أعطيت لهم العطايا والمناصب المهمه في الدولة.
أما يهود اليمن فقد كانوا أقلية استوطنوا المدن اليمنية المهمة، مثل صعدة، والجند، وعدن، وصنعاء وغيرها من المدن، واندمجوا مع المسلمين، كما تولى عدد منهم بعض الوظائف الحكومية في المجال المالي والإداري، مثل النظر في أموال عدن، وعملوا في صناعة الحلي والمجوهرات والأواني الفخارية، ومارس بعضهم الزراعة والتجارة والصناعة؛ إذ تملَّك اليهود العديد من الأراضي الزراعية والمنازل.
الصراع على مكة
من أبرز مظاهر السيادة الرسولية على مكة، الدعاء لملوكها في الحرم المكي في الخطب والصلوات، والدعاء لهم حتى بعد أن فقدوا سيطرتهم عليها، كما ضرب بني رسول عملتهم في مكة لإضفاء صبغة دينية على ذلك، وبدأ حكم الرسوليين لمكة عام 631هـ/ 1233مـ، بعد أن تمكن الملك الأول، المنصور نور الدين، من السيطرة في هجوم عسكري كبير جدًّا وأخذها من الأيوبيين، ولكن الأيوبيين لم يقبلوا بهذه الهزيمة، فنحن هنا نتحدث عن أقدس رمز ديني للمسلمين والسيطرة عليه يعني الكثير سياسيًّا واجتماعيًّا ودينيًّا.
فجهز الملك الأيوبي الكامل جيشًا جرارًا وتمكن في 633هـ/1235مـ من السيطرة على مكة، وبعدها بسنتين أعاد نور الدين الكرة وسيطر على مكة من جديد، وأعاد بنو أيوب هجومهم في 637هـ/1238مـ وسيطروا عليها، ولكن نور الدين أعاد السيطرة عليها مرة أخرى في العام ذاته، ومرة أخرى سقطت مكة بيد الأيوبيين بعد ذلك بسنة، ليعيدها نور الدين مرة أخرى 638هـ/1239مـ، وكانت هذه آخر مرة يحاول فيها الأيوبيون السيطرة على مكة بسبب ضعفهم في آخر أيام حكمهم، وبقيت بعهدة الرسوليين لقرابة الخمسين عامًا حتى وفاة الملك الثاني المظفر يوسف، ومن ثم بسطت الدولة المملوكية سيطرتها على مكة عام 694هـ/ 1294مـ.
وبسبب العلاقات الودية بعض الشيء بين المماليك والرسوليين، وعدم الاحتكاك كثيرًا فيما بينهم خاصة في البداية، لم تحصل أي محاولات جديدة للرسوليين لإعادة السيطرة على مكة، ومع ذلك جذب حكام الدولة الرسولية سكان مكة المكرمة وأمراءها عن طريق الهبات والعطايا لهم، ومساعدة العلماء، فأنشأوا عددًا من المدارس والمساجد، واعتنوا بالحرمين والمشاعر المقدسة.
وكسا الملك المظفر يوسف الكعبة من داخلها وخارجها لأول مرة من اليمن عندما كانت تحت سيطرته، وذلك بعد أن سقطت بغداد عاصمة الخلافة العباسية في يد المغول عام 656هـ/1258م؛ إذ كان الخليفة العباسي آنذاك يرسل كساء الكعبة، وبقيت كسوة الملك المظفر الداخلية حتى عام 761هـ/1359مـ، وكتب على لوح رخامي داخل الكعبة «أمر بتجديد رخام هذا البيت المعظم، العبد الفقير إلى رحمة ربه وأنعمه، يوسف بن علي بن رسول، اللهم أيده بعزيز نصرك، واغفر له ذنوبه، برحمتك يا كريم يا غفار، بتاريخ سنة ثمانين وستمائة هجرية»، أي إنه وضع هذا اللوح بعد أن كسا الكعبة بـ19 سنة.
الصعود والسقوط للرسوليين
لم يكن حكم الرسوليين لليمن سهلًا أبدًا، ومن يقرأ تاريخ الحروب التي خاضوها في سبيل تثبيت سيطرتهم على اليمن وجنوب الحجاز، يعلم أن سيولًا من الدماء سالت في سبيل ذلك؛ إذ كان لهم أعداء كثر أهمهم الأئمة الزيدية، وأيضًا شيوخ القبائل، والأشراف، والأيوبيون، والمماليك، وحدثت عشرات التمردات في سبيل إسقاطهم، ولكنها فشلت، ولكن ما أسقطها فعلًا هو الخلاف الداخلي بين أبناء البيت الرسولي، فمنذ مقتل المؤسس نور الدين عمر على يد مماليكه (جنوده) في قلعته بمدينة الجند في تعز، بدأت الصراعات الداخلية، لدرجة أن يقوم الابن على أبيه وأخيه، والعم على أولاد أخيه، وتقع صراعات داخلية أدت لضعف دولتهم وتقهقرها، فبدأ الأعداء على الفور بأخذ القطعة تلو الأخرى من مناطق سيطرتهم حتى فر آخر ملوكهم الملقب بالمسعود إلى الحبشة.
في كتاب «الدولة الرسولية في اليمن» لمحمد الفيفي، يقول إنه قبل مقتل الملك الأول المنصور، أبعد ابنه الأكبر المظفر يوسف عن ولاية العهد، وأعطاها لأخيه غير الشقيق المفضل؛ ما أدى لحنق المظفر وعزمه على الذهاب إلى الخليفة العباسي للشكوى، ولكن مقتل والده أعاده على الفور للبدء بتوليه للملك، وهكذا نشبت حرب بينه وبين أخيه وأبناء عمومته، وأيضًا بين عمه فخر الدين أبي بكر الذي جمع حوله أعوانه ومؤيديه، ولقب نفسه بالملك المعظم، وسالت دماء كثيرة، ولكن هذه الدماء كانت أغلبها من دماء اليمنيين أنفسهم، وكاد أن يُكتب تاريخ نهاية الدولة الرسولية سريعًا.
ولكن الملك المظفر يوسف بن عمر بن رسول تمكن من إعادة المناطق كاملة إلى سلطانه وأسر وقتل جميع من خالفه من أخوته وأعمامه وأبنائهم، وخلاصة القول أن المظفر استطاع توحيد اليمن وأعاد للدولة الرسولية هيبتها وأمنها واستقرارها، وبسط نفوذه على اليمن كاملًا، وهي من الحالات القليلة في التاريخ اليمني التي يتمكن فيها أي أحد من توحيد البلاد كاملة، وقد سبق والده المنصور في ذلك، حيث سيطر على مناطق جديدة وحصون لم يتمكن والده منها، وذلك فقد لقبه العديد من المؤرخين بتُبَّع الأكبر (لقب كان يعطى لملوك حمير).
كان حكم المظفر يوسف هو الأطول والأكثر استقرارًا بين ملوك بني رسول؛ إذ توفي عن عمر يناهز الخمسة والسبعين عامًا، وحكم اليمن قرابة 47 عامًا، ازدهرت فيها البلاد بشكل كبير جدًّا، ومن مؤلفاته (المخترع في فنون الصنع، والمعتمد في الأدوية المفردة)، وتميز حكمه بالنهضة العلمية والعمرانية، وازدهرت الزراعة والصناعة والتجارة، وأسس دولته بشكل قل نظيره في ذلك الزمن، وكان كل شيء منظمًا تقريبًا مثل عقارب الساعة، واتفق أغلب المؤرخين على أن فترة حكم المظفر كانت الأقوى والأزهى عبر تاريخ الدولة الرسولية.
بعض معالم الدولة الرسولية في تعز
ويرى المؤرخون أن عصر الملك السادس الأفضل العباس بن المجاهد علي، كان هادئًا؛ إذ يؤكدون أن التاريخ لم يذكر الكثير من الحروب والمعارك في فترة حكمه، بينما وصلنا منه 28 كتابًا في كل العلوم تقريبًا، منها (اللمعة الكافية في الأدوية الشافية، وبغية ذوي الهمم في أنساب العرب وأصول العجم، فصل في المتالم والأسقاء في اليمن المحروسة، ومعرفة أصل الأصول للسنين الهجرية، ونظم السلوك في الدخول على حضرات الملوك، وفصول في طبائع الأدوية الكثيرة، وبغية الفلاحين)، وغيرها.
من الصعب كتابة حياة ملوك وسلاطين بني رسول المتعاقبين وقصصهم، في بضع صفحات ونحتاج لذلك مجلدات، ولكن ما يجب معرفته أنه عند موت أحد ملوك بني رسول أو مقتله يعود القتال بين الأخوة والأحفاد وأبناء العمومة، وتشتعل نيران الحقد والحسد بينهم، وكانت بداية سقوط الدولة الرسولية عندما توفي الملك الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل ثامن ملوك الرسوليين عام 827هـ/ 1423مـ، حيث بدأت المناطق تتساقط تباعًا بيد الأئمة الزيديين ومنافسيهم من سلاطين المناطق وشيوخ القبائل.
وذكر المؤرخون أن 14 ملكًا رئيسيًّا تعاقبوا على حكم الدولة الرسولية، دون ذكر الأبناء والأعمام الذين أعلنوا أنفسهم ملوكًا وجرى إنهاء حكمهم بعدما حاولوا انتزاع السلطة، ومن المفارقات أن آخر ملك أيوبي ورسولي حكما اليمن كانا يلقبان بالمسعود (المسعود أبو القاسم بن إسماعيل الرسولي، والمسعود صلاح الدين يوسف الأيوبي)، بينما كان سقوط ميناء عدن 858هـ/ 1454مـ، السنة التي انتهت فيها الدولة الرسولية وأفسحت المجال لظهور دولة يمنية جديدة تدعى الدولة الطاهرية.
وفي النهاية لا بد هنا أن نقرأ التاريخ بعين الواقع، فقد كانت الدماء تسيل في اليمن قديمًا وحديثًا أنهارًا لا تتوقف، ومع ذلك استمر اليمنيون وما زالوا موجودين منذ آلاف السنين، ولن تكون الحرب المشتعلة الآن فيها أقل مما حصل سابقًا ولا أكثر، فالشعب اليمني دائمًا ما يجد وسيلته للعيش في ظل حروب الكبار، وإلى أن تنتهي الحرب في اليمن التي يشاهدها العالم دون تدخل، ينتظر اليمنيون دولة تمنحهم استقرار الدولة الرسولية ونهضتها، أو ربما أفضل منها.