منذ القدم وحتى يومنا هذا، نسمع أن بيولوجيا المرأة يمكن أن تربك دماغها، حتى أصبح هذا النمط من التفكير أساسيًّا في الثقافة الشعبية، فإذا كان مزاج المرأة متقلبًا في لحظة ما، يسألها من حولها عما إذا كان هذا هو وقت الدورة الشهرية، وإذا زادت رغبتها في ممارسة الجنس، قيل لها إن هذا بسبب فترة الإباضة، وهكذا.
لكن يبدو أن للعلم الحديث وجهة نظر مختلفة، فتلك الفكرة التي ذكرناها لا أساس لها من الصحة، فرغم أن بعض النساء يشعرن بالفعل بمزيد من القلق وسرعة الانفعال عند الاقتراب من فترة الطمث، وصحيح أنهن يكن أكثر تحفزًا للجنس في الوقت الذي تطلق فيه المبايض البويضة، فإن هذا لا يعني أن هذه الأعراض يمكن تفسيرها نتيجة لهذه الأسباب فقط في كل الأوقات.
ليس هذا فحسب، فما لا يعرفه الناس على نطاق واسع، هو أن الدورة الشهرية يمكن أن تؤثر في أدمغة النساء بطرق إيجابية أيضًا.
الدورة الشهرية.. والهستيريا
قبل التطرق للجانب الإيجابي، دعونا نلقي نظرة عن بعض تلك الاعتقادات السائدة منذ آلاف السنين حول المرأة، هل مرت عليك كلمة «هستيريا» من قبل؟ تلك الكلمة التي تحمل بعض الازدراء نحو ذلك الفائض العاطفي الذي لا يمكن السيطرة عليه، حسنًا، هل تعرف أصل الكلمة؟ وكيف جاءت؟
نشأت كلمة هستيريا من الكلمة اليونانية «هيستيرا»، والتي تعني الرحم، ويعود أقدم سجل لمفهوم الهستيريا إلى عام 1900 قبل الميلاد، عندما سجل المصريون ملاحظاتهم حول التشوهات السلوكية لدى النساء البالغات على ورق البردي، وعزا المصريون هذه الاضطرابات السلوكية إلى ما وصفوه بـ«الرحم الشارد»، والذي أطلق عليه لاحقًا اسم «الهستيريا» في اليونان القديمة.
في تلك الأوقات، اعتقد الأطباء أن تلك الاضطرابات السلوكية والمزاجية تحدث للنساء فقط، ورأى أفلاطون أن السبب في ذلك هو رحم المرأة الحزين على عدم حمله طفلًا. واستمر هذا الاعتقاد قائمًا حتى القرن التاسع عشر، وكان العلاج المستخدم دائمًا يتعلق برحم المرأة.
ظلت الفكرة شائعة شعبيًّا، فدائمًا ما يربط الرجل تغيرات الحالة المزاجية للمرأة بالرحم والدورة الشهرية وما يرتبط به من هرمونات، مرة أخرى، نحن لم نقل إن الدورة الشهرية تؤثر في الحالة المزاجية والسلوكية للمرأة، لكن المشكلة تكمن في ربط كل تغير مزاجي أو سلوكي بالأسباب ذاتها.
تأثيرات غريبة للدورة الشهرية
كان العلماء يدرسون الدورة الشهرية منذ ثلاثينيات القرن العشرين، لم يكن السبب وراء ذلك هو الافتتان ببيولوجيا الأنثى، بل كان الأمر مدفوعًا بالرغبة في فهم الطرق التي يختلف بها الرجال والنساء، ولماذا؟ من هنا، تراكم جبل كبير من المعرفة حول الدورة الشهرية وتأثيراتها المختلفة في جميع أنحاء الجسم.
مع الوقت وتقدم الأبحاث، عرف العلماء الآن أن للدورة الشهرية جميع أنواع التأثيرات الغريبة، من التأثير في قدرة المرأة على الإقلاع عن التدخين، إلى أنواع الأحلام التي تراودها كل ليلة.
عرف العلماء أن الدورة الشهرية يمكن أن تؤثر في أدمغة النساء بطرق إيجابية. على سبيل المثال، اتضح أن النساء يكُنَّ أفضل في مهارات معينة، مثل الوعي المكاني، بعد مرور وقت معين من الدورة الشهرية، وبعد مرور ثلاثة أسابيع من الدورة الشهرية، تصبح النساء أفضل في التواصل بشكل ملحوظ، كما أنهن يصبحن – بشكل مدهش – أفضل في معرفة عندما يشعر الآخرون بالخوف.
يبدو الأمر مذهلًا، أليس كذلك؟ لكن هناك ما هو أغرب، فقد اكتشف العلماء أنه في وقت ما من الدورة الشهرية، تصبح أدمغة النساء أكبر حجمًا كذلك.
السر في المبايض وليس الرحم
بالتأكيد سيدور سؤال في أذهاننا حول السبب وراء هذه التأثيرات الإيجابية، بدلاً من الرحم المارق، فإن المصدر الرئيسي لهذه التغييرات هو المبيضان، فكلا المبيضين يطلقان هرموني الإستروجين والبروجسترون بكميات مختلفة على مدار الشهر، هذه الهرمونات مهمتها في المقام الأول زيادة سماكة بطانة الرحم، وتحديد موعد إطلاق البويضة.
في المقابل، هذان الهرمونان لهما تأثيرات عميقة في أدمغة النساء وسلوكهن، فكلنا نعرف أن أحد الأمثلة في الاختلافات بين الرجال والنساء هو الدماغ، يشتبه العلماء منذ سنوات في أن هذا الاختلاف في طريقة التفكير وغيرها من عمليات الدماغ ترتبط بالهرمونات، وتحديدًا، هذه التقلبات الطبيعية في مستويات الهرمونات الجنسية التي نجدها في النساء خلال الدورة الشهرية، أو – في المقابل- التقلبات الموسمية في مستويات هرمون التستوستيرون لدى الرجال.
هرمون الإستروجين يؤثر في منطقتين متجاورتين من الدماغ، الأولى هي الحصين الذي يشارك في تخزين الذكريات وتطوير القدرات الاجتماعية، ومنطقة الحصين تكبر كل شهر عندما يزداد إفراز الهرمونات الأنثوية، والثانية هي اللوزة الدماغية التي تساعدنا على معالجة المشاعر وخاصة الخوف وقرار «القتال أو الفرار» الذي نلجأ له في حالات الخطر، ومن ثم تكون لدى النساء قدرة أكبر على تمييز الخوف ومعرفة الشخص الخائف.
Hormone changes in an average menstrual cycle. 🔀 pic.twitter.com/a0JeDjR0XJ
— Clue (@clue) December 27, 2017
التأثيرات الإيجابية للدورة الشهرية
نأتي هنا إلى الجزء الأهم من التقرير، بعد أن عرفنا أن الهرمونات هي السبب وراء وجود اختلافات بين الرجل والمرأة، ما هي تلك التأثيرات الإيجابية للدورة الشهرية في النساء مقارنة بالرجال؟ هذه بعض الأمثلة:
1- مهارات اجتماعية فائقة
إحدى الطرق التي تتميز بها النساء هي أنهن يتمتعن بمهارات اجتماعية فائقة؛ إذ تتمتع النساء بتعاطف أفضل، وبتلك النظرة المتعلقة بفهم أن البشر الآخرين قد يكون لديهم منظور مختلف عن منظور الرجال. كذلك، تملك النساء مهارات اتصال أفضل، ويعتقد أن هذا جزء من سبب زيادة احتمال إصابة الأطفال الذكور بالتوحد بأربعة أضعاف، فالفتيات أفضل في إخفاء أعراضهن.
2- النساء أفضل في التهجئة
النساء يتحدثن مبكرًا أكثر من الرجال، كما أنهن يتحدثن بطلاقة أكثر من الرجال، أيضًا، النساء في الواقع أفضل في التهجئة من الرجال، يعتقد أن هذه الميزة الاجتماعية قد تطورت لأنه منذ آلاف السنين كانت الأمهات يتحدثن بوضوح أفضل إلى أطفالهن بخصوص نقل المعلومات الحيوية والتعليمات الضرورية لأطفالهن، مثل عدم تناول بعض النباتات السامة، أو تجنب التوجه لمنطقة ما، وهكذا.
لوحظ أن الأيام التي تزيد فيها الهرمونات الأنثوية يصبح النساء أكثر تميزًا في الأشياء التي تتميز النساء فيها عن الرجال، مثل القدرة على الإتيان بكلمات جديدة. للتوضيح، فإن مستويات هرموني الإستروجين والبروجسترون تكون منخفضة في بداية الدورة الشهرية، بينما ترتفع النسب إلى القمة بعد نحو أسبوع من الإباضة.
3- التذكر الضمني.. لا كلمة تقال عبثًا
إحدى القدرات التي تحسنت عندما كانت الهرمونات الأنثوية أعلى، هي مهارة «التذكر الضمني»، وهي المهارة التي توصف بأنها واحدة من الذاكرتين طويلتي الأمد عند البشر (العقل الباطن)، تؤثر هذه الذاكرة في أفكار البشر وسلوكياتهم، ويتمثل أحد أمثلة تطبيقاتها في السماح للبشر بأداء مهام معينة دون وعي منهم، على سبيل المثال، تذكر كيفية ركوب الدراجة وكيفية ربط الحذاء، وطريقة طهي الطعام وغيرها.
هذه الذاكرة هي السبب في استخدامنا بعض الكلمات التي ربما لا نعرف أين سمعناها رغم أننا لا نستخدمها في المعتاد، لكن الكلمة مرت عليك في مقال أو من شخص آخر وحفظتها الذاكرة الضمنية، وهو الأمر الذي قد يفسر تذكر النساء للكثير من التفاصيل وربط المواقف بعضها ببعض؛ فالهرمونات هي السبب.