«الإرهابيون»، هو ذلك المصطلح الذي تفضل الدول إطلاقه على الجماعات التي تخوض تمردا مسلحا عليها في العديد من دول الشرق الأوسط. وعلى مدار الـ 15 عاما الأخيرة، انبرى العديد من الجيوش العربية ضمن إطار ما يعرف بـ«الحرب على الإرهاب»(1)، ورغم مرور عقد ونصف على بداية هذه الحرب، فإن نفوذ هذه التنظيمات يواصل الازدياد أفقيا «من حيث انتشارها الجغرافي»، ورأسيا «من حيث أعداد المؤمنين بأفكارها».
امتدت ساحات الصراع من العراق والشام إلى المغرب العربي، مرورا بالخليج ومصر ،وامتدادا إلى اليمن. عجزت الآلات القمعية للجيوش عن محاربة الأفكار «المتطرفة» وفقا لزعمها، بل إن الفرضية التي نود اختبارها عبر هذا التقرير أن توجيه الجيوش لأسلحتها تجاه مواطنيها كان هو السبب الرئيس في توسع دائرة هذه التنظيمات، التي نشأت كوادرها في السجون المدنية والعسكرية، والأكثر من ذلك أن العديد من رموز وقادة هذه التنظيمات على طول الساحة العربية هم ضباط سابقون خدموا ضمن صفوف هذه الجيوش. وفي بعض الحالات، فقد قامت السلطات بتدعيم هذه التنظيمات بشكل واضح من أجل الإجهاز على الحياة السياسية وضمان الإطباق على السلطة.
(1) مصر: التهميش يصنع المشكلات، وضباط سابقون يقودون المسيرة
كانت شبه جزيرة سيناء دوما جزء من مصر على مر تاريخها، إلا أنها غالبا ما كانت تشعر أنها أقرب إلى غزة ويافا وصحراء النقب بأكثر من قربها من بر مصر (2)، وعبر تاريخها الطويل فقد ظل البدو يسكنون سيناء، وهم يختلفون في طباعهم عن سكان وادي النيل. في العصر الحديث شكلت قناة السويس حاجزا جغرافيا (3) ساهم في تدعيم هذا الحاجز النفسي، حيث صارت سيناء مرتبطة بالقناة، لا العكس.
مثلت كامب ديفيد لحظة فارقة في تاريخ سيناء، وزاد الملحق الأمني للاتفاقية من عزلة شبه الجزيرة المصرية (4)؛ فبموجب الاتفاقية تم تقسيم سيناء إلى 3 مناطق خالية من التواجد العسكري المصري بشكل كبير، ووقف التنسيق الأمني المصري الإسرائيلي حائلا أمام جميع مشروعات تعمير سيناء. وجاء النشاط القمعي لجهاز مباحث أمن الدولة في التسعينيات ليجهز على ما تبقى من سيناء، بسبب سياسة العقاب الجماعي التي تم ممارستها ضد أهل سيناء، وقد شملت ممارسات الجهاز الاعتقال التعسفي للإسلاميين في سيناء، وإرسالهم إلى القاهرة، حيث اختلطوا بالجهاديين والتكفيريين في السجون المصرية (5)، ليثمر هذا الاختلاط أولى ثماره في صورة “جماعة التوحيد والجهاد” التي أسسها طبيب الأسنان خالد مساعد، وتوسع نشاط هذه التنظيمات خلال أعوام ما بين 2004- 2006.
ووفقا لصحيفة لوفيغارو الفرنسية (6) فإن التهميش والاضطهاد الذي يتعرض له البدو في سيناء يسهل عملية استقطابهم من قبل الجماعات المسلحة، مؤكدة أن هناك جيلا جديدا من شباب البدو ـ ظهر بعد الثورة ـ عانى من التهميش، وقرر العصيان والوقوف ضد الدولة، حتى إن زعماء القبائل لم يعد لهم سيطرة عليهم.
لم يقتصر التمرد ضد سلطة الدولة على السكان المتضررين من التهميش الذين تم استقطابهم من قبل الجماعات الإسلامية، وعلى الرغم من حالة التماسك التنظيمي في صفوف الجيش، إلا أن ضيق بعض الضباط أنفسهم من ممارسات القمع ضد أهالي قد سهل استقطاب بعضهم من قبل الجماعات المسلحة(7)، وقد بدأت هذه المسيرة منذ الثمانينات في أصداء توقيع اتفاقية كامب ديفيد، بداية من ضابط المدفعية «خالد الإسلامبولي», وضابط المخابرات الحربية «عبود الزمر»، والضابط في سلاح الدفاع الجوي «عبد الحميد عبد السلام»، والذين خططوا ونفذوا عملية اغتيال الرئيس الأسبق «أنور السادات» (8)، بل إن تنظيم القاعدة قد نجح في تجنيد الضابط السابق في الجيش المصري «سيف العدل» ليصل إلى المراتب العليا في قيادة التنظيم، إضافة إلى عقيد الصاعقة السابق «محمد إبراهيم مكاوي» المكني بـ«أبي المنذر» (9).
https://youtu.be/yEdoQNFxFYI
وتشير مصادر إلى أن هناك أكثر من 200 شخص، يضمون بين صفوفهم عددا من أفراد الجيش السابقين يحاكمون بتهمة الانضمام إلى جماعة أنصار بيت المقدس (ولاية سيناء حاليا). وقد ارتبطت أسماء عدد من الضباط السابقين بالعديد من عمليات المسلحين التي وقعت في مصر خلال العامين السابقين، أشهر هذه الأسماء هو الضابط «هشام عشماوي» (10) الذي ارتبط اسمه مع الضابط هشام عبد الحليم بتنفيذ الهجوم على كمين كرم القواديس في أكتوبر عام 2014 ، إضافة إلى الضابط المنشق «وليد بدر» (11) المتهم بتدبير محاولة اغتيال وزير الداخلية الأسبق في أكتوبر/ 2013. سوى الحادثة التي وقعت في نوفمبر 2014 والتي اتهم فيها ضابط البحرية المنشق «أحمد عامر» في اختطاف أحد اللانشات وتدميره وقتل كل من كانوا على متنه.
(2) العراق: ضباط بعثيون أسسوا تنظيم الدولة الإسلامية
إن المتابع للإرهاب، والدولة الإسلامية على وجه الخصوص، لا يسعه إلا أن يلاحظ الزيادة الحادة الأخيرة في كمية الخطاب حول عدد من البعثيين السابقين في قيادة «الدولة الإسلامية» وتأثيرهم على التنظيم
كان هذا تعليق مركز «ستراتفور» البحثي الشهير في تقرير له (12) حول مدى تأثير قادة حزب البعث والضباط السابقين في الجيش العراقي على تنظيم الدولة الإسلامية. بداية من انضمام الضباط البعثيين إلى تنظيم القاعدة تحت قيادة «أبي مصعب الزرقاوي» ليضيفوا للتنظيم قدرات جديدة، مثل الاستخبارات، ومكافحة التجسس، وشبكات التهريب. وقد تولى هؤلاء الضباط السابقون مهام الإشراف على تدريب المقاتلين الجدد، وإدخال التكتيكات الجديدة، مثل السيارات المفخخة.
العديد من العسكريين الذين انضموا إلى الجماعات الجهادية في العراق، وحاليا في سوريا، كانوا ينتمون في السابق إلى مجموعة تعرف باسم «فدائيي صدام» وهي إحدى مجموعات الحرب غير النظامية التي أسسها الجيش العراقي في عهد «صدام حسين». جدير بالذكر أن المسئول الشرعي السابق لجبهة النصرة، والرجل الثاني فيها «أبا مارية القحطاني» كان قبل انضمامه لتنظيم القاعدة في العراق منتميا لهذه المجموعة (13).
المعلومات الأهم في هذا الصدد جاءت في وثائق كشفت عنها صحيفة «دير شبيغل» (14) ، والتي كشفت عن شخصية ضابط عراقي خمسيني يدعى «سمير عبد محمد الخليفاوي» يشتهر في الأوساط الجهادية باسم «حجي بكر»، وهو عقيد سابق بالمخابرات العراقية، سجن عامين بسجن «بوكا» بعد احتلال العراق، تظهر الوثائق قيام «حجي بكر» بخط الهيكل التنظيمي للدولة الإسلامية من القمة وصولًا للمستوى المحلي، إضافة إلى إعداد قوائم متعلقة بتسلسل توسع التنظيم في القرى والمناطق.
ووفقا لوثائق «دير شبيغل» فقد كان حجي قوميا، وليس إسلاميا، ولكنه رأى أن المعتقدات الدينية وحدها كانت كفيلة بتحقيق الهدف المنشود، وبسبب رغبته في إضفاء وجه ديني على التنظيم فقد قام بمعاونة بعض ضباط المخابرات العراقية باختيار «أبو بكر البغدادي» قائدا لهم (15). وتؤكد الوثائق أن «بكر » قد التقى بـ«أبي مصعب الزرقاوي» زعيم تنظيم القاعدة في العراق، وقام بالإشراف على معسكرات تدريب المقاتلين الوافدين.
لا تقتصر الأمور على ذلك فحسب، فقد كشفت مجلة «ديلي بيست »في تحقيق مطول لها (16) عن دور السجون العراقية إبان حكم نظام البعث وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق في صناعة الروابط بين الجهاديين، ركز التحقيق على سجن بوكا، وطبقًا لتقديرات عسكرية أمريكية؛ فقد استضاف معسكر «بوكا» 1350 من الجهاديين، إضافة إلى 15 ألفا من نزلاء آخرين، ورصد التقرير الأمريكي كيف كانت تجري عمليات التجنيد بين صفوف السجناء، والدور المحوري الذي قام به زعيم تنظيم الدولة «أبو بكر البغدادي» في عمليات التجنيد داخل السجن، حين كان عضوا بتنظيم القاعدة في العراق. ويسيطر الضباط السابقون على العديد من المواقع في القيادة العليا والوسطى للتنظيمات المسلحة، فوفقا لتحقيق أجرته صحيفة القدس العربي في نوفمبر من العام 2014، فقد أقر ضابط رفيع من الجيش العراقي السابق أنه وعدد من ضباط الجيش السابقين يشرفون على تدريب وحدات تنظيم الدولة الإسلامية (17).
أحد أكثر الأسماء إثارة للجدل في هذا الصدد هو «عزة إبراهيم الدوري»، نائب الرئيس العراقي الأسبق والذي يعرف بقيادته لعدة فصائل مسلحة أشهرها جيش الطريقة النقشبندية (18). وتمتع «الدوري» لفترة من الزمن بعلاقات وثيقة مع تنظيم الدولة الإسلامية (19)، وقد أشاد في أكثر من مناسبة بالانتصارات التي يحققها التنظيم (20).
(3) وفي الجزائر أيضا
اقرأ أيضا: 5 شواهد على أن داعش والنظام السوري ليسوا أعداء كما يبدو
لا تقتصر الأمور على العراق ومصر، أو حتى في سوريا التي تشهد حربا أهلية طاحنة منذ 4 سنوات، الجزائر كانت نموذجا أيضا، ربما يكون مختلفا بعض الشيء؛ لكون السلطات قد دعمت هذه الجماعات، عن وعي كامل. يكفي أن نسلط الضوء على شهادتين لاثنين من الضباط السابقين في الجيش الجزائري حول دور السلطات في دعم الجماعات المتطرفة في ذلك التوقيت؛ من أجل إذكاء الحرب الأهلية الجزائرية. في كتاب الحرب القذرة لـ«حبيب سويدية»، وكتاب وقائع سنوات الدم لـ«محمد سمراوي» (21). ويروي العقيد «سمراوي» بشكل دقيق بالتاريخ والوقائع والأسماء قوائم العسكريين الذين كانوا يشرفون على دعم الجماعات الإسلامية المسلحة، وكيف أوصلت المخابرات الجزائرية «جمال زيتوني»، الذي كان بائعا للدجاج، ليصبح أميرا للجماعة الإسلامية (الجيا) ودفعه لتبني بعض العمليات التي أثارت فزعا واسعا داخل الجزائر، مثل: خطف طائرة إيرباص تابعة للخطوط الجوية الفرنسية من مطار بومدين، إضافة إلى عملية إعدام رهبان مسيحيين في إحدى قرى الغرب الجزائري.

العقيد محمد سمراوي صاحب كتاب وقائع سنوات الدم
ووفقا لشهادة «حبيب سويدية» (22) فإن ما بين 5000 إلى 6000 من أفراد القوات الخاصة الجزائرية الذين لم يجدوا حرجا في ارتكاب جرائم ضد المدنيين، ووفقا لفرضية سويدية، فإن قادة الجيش الجزائري لم يكونوا يرون مصلحة في استئصال الجهاديين، بل إن الهدف الرئيس للجنرال كان تدمير المعارضة السياسية الحقيقية في البلاد، حتى لو كان ذلك عبر دفع الناس إلى التطرف والعنف (23).
واليوم تواجه السلطات في الجزائر 4 منظمات جهادية مختلفة (24) على رأسها تنظيم المرابطين المسئول عن عملية استهداف منشأة غاز إن أميناس. إضافة إلى كتيبة الملثمين بقيادة «مختار بلمختار»، وتنظيم جند الخلافة وتنظيم القاعدة في المغرب العربي.
(4) استنتاجات ودوافع
تشترك الجيوش والجماعات المسلحة في كونها تنظيمات عسكرية، ولعل أهم حيث ما يجمع التنظيمات العسكرية هو أنها جميعا تنظيمات بيروقراطية، وفق مصطلح «ماكس فيبر» ، وفقا لما أورده «أحمد إبراهيم خضر» في كتابه علم الاجتماع العسكري (25). وتعرف البيروقراطية، وفقا لـ«فيبر»: بأنها نسق اجتماعي يهدف إلى تحقيق أهداف محددة، ويدار ضمن قواعد جامدة من المعرفة والخبرة، حيث تتمثل القيمة العليا في التنظيم البيروقراطي، وليس الأشخاص.
تتشابه التنظيمات والجيوش من حيث الشكل والنسق، إلا أنها ربما تختلف من حيث الأيدولوجيا. ونظرا للطبيعة المحافظة للجيوش العربية، فإن أفرادها غالبا ما يجمعون بين الميول الدينية والولاء للدولة القومية.
وفقا للباحث العراقي في علم الاجتماع السياسي «وليد السعد» (26) فإنه بعد سقوط حزب البعث العراقي «تزايدت الميول الدينية عند الضباط السابقين الذين تفرغوا لقراءة الكتب الدينية والذهاب إلى المساجد، حيث امتزجت ميولهم القومية بأيدولوجيات دينية صارمة». ومع تشابه الأنساق بين التنظيمات المسلحة وبين الجيش، لم يكن من الصعب أن تتم إعادة تعبئة الأيدولوجيا.
على مستوى أقل تركيبا، يشير الباحث المصري «خليل عناني» أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأمريكية إلى أن من أسباب انضمام بعض الضباط إلى المجموعات الجهادية وجود حالة من التذمر والرفض لممارسات الجيش، في الحالة المصرية على وجه الخصوص، تدفع ضباطًا وجنودًا إلى التعاطف مع المعتقلين والأهالي في وجه الانتهاكات التي تمارس بحقهم.
كما لا يمكن أيضا تجاهل دوافع، مثل الرغبة في الحفاظ على السلطة، أو الرغبة في العودة إليها بعد الإبعاد عنها، كما يظهر واضحا في الحالة العراقية وحزب البعث.