يبدأ معظم البشر نهارهم بكوب من القهوة أو الشاي، وربما يتبادلون في تناولهما خلال اليوم، فيما يحتسي البعض منهم مشروبات المياه الغازية. هذا يحدث تقريبًا مع أغلب الناس، أليس كذلك؟ لكن القاسم المشترك في كل ما ذُكر من هذه المشروبات هو كلمة واحدة: الكافيين.
بالنسبة لمعظمنا، فإن تناول الكافيين بدرجة أو بأخرى أصبح ببساطة جزءًا أساسيًّا من الوعي البشري الأساسي. إذ إن ما يقرب من 90% من البشر البالغين يتناولون الكافيين بانتظام، مما يجعله أكثر العقاقير ذات التأثير النفسي استخدامًا في العالم، وهو العقار الوحيد الذي نعطيه بشكل روتيني للأطفال (عادةً في شكل مشروبات غازية).
كل هذا جعل البشرية معتمدة على الكافيين إلى حد كبير كي يجعلنا أكثر نشاطًا وكفاءة وأسرع في العمل وتنفيذ المهام. فميزة الكافيين أنه لا يجعلك أكثر انتباهًا فقط، بل إنه يمنحك تلك الحيوية والطاقة في جسدك التي تحتاجها لأداء مهامك اليومية. فهل سألت نفسك، كيف يعمل الكافيين هذا بالضبط؟
ما هو الكافيين؟
الكافيين هو مادة طعمها مر، تنتج من بعض أنواع النباتات بهدف ردع الحيوانات آكلة العشب عن تناول أوراق هذه النباتات أو بذورها. من الناحية الكيميائية، يقارب الكافيين في تركيبه الكيميائي تركيب اثنين من المركبات الأساسية الداخلة في تركيب الحمض النووي (DNA)، والتي يطلق عليها القواعد النيتروجينية للحمض النووي، وهما تحديدًا الأدينين والجوانين.
للتوضيح فإن الحمض النووي بشكل عام عبارة عن بوليمرات يتكرر فيها تركيب كيميائي معين يسمى النيوكليوتيدات؛ أي إن الحمض النووي عبارة عن نيوكليوتيدات متكررة ومتراصة بعضها خلف بعض. كل واحدة من هذه النيوكليوتيدات تتكون من ثلاثة أقسام أساسية هي: جزيء سكر يسمى بنتوز، ومجموعة الفوسفات، بالإضافة إلى القاعدة النيتروجينية التي يتغير تركيبها بين أربعة أنواع هي: الأدينين والسيتوزين والجوانين والثيامين.
ولأن الأدينوزين تحديدًا لا يدخل فقط في تركيب الحمض النووي، بل في مكونات أخرى في الجسم، فإن هذا التشابه مع الكافيين، يجعل الأخير ينافس الأدينوزين على التراكم في مستقبلاته المنتشرة في الجسم، وخصوصًا المخ. هذا التنافس بين الأدينوزين والكافيين هو ما يمثل الإطار العام لتلك التأثيرات المميزة لمادة الكافيين والتي أصبحت المادة المنبهة الأكثر تناولًا في العالم.
الآن وقد عرفنا المبدأ العام لعمل الكافيين، فنحن بحاجة إلى بعض التفاصيل لنفهم علاقة الكافيين بمنع النوم، وزيادة معدلات التنبيه والتحفيز والطاقة.
الطريق إلى النوم.. كيف تتعب دماغ الإنسان؟
رغم أن معظم البشر ينامون ببساطة نسبية ودون مجهود يذكر، فإن النوم ليس عملية بسيطة تحدث داخل جسم الإنسان، بل يتضمن مزيجًا معقدًا من الوظائف البيولوجية التي تطورت في الحيوانات منذ ملايين السنين، ربما قبل حتى ظهور الأدمغة والأجهزة العصبية في الحيوانات. لاحظ أن فكرة النوم موجودة حتى في الكائنات الدقيقة التي لا تملك دماغًا فعليًّا أو جهازًا عصبيًّا متكاملًا.
ما يهمنا هنا كبشر هو آلية النوم في الكائنات التي تملك أجهزة عصبية مثلنا. نحن نعلم أن النوم يحدث بوصفه فعلًا تراكميًّا نتيجة كل أعمالنا خلال اليوم والتي تستلزم في نهايته الراحة. هذا الفعل التراكمي يرتبط بشكل كبير بمركب كيميائي في جسم الإنسان هو الأدينوزين.
الأدينوزين هو مركب عضوي يوجد على نطاق واسع في الطبيعة في شكل مشتقات كيميائية متنوعة. والأدينوزين هو واحد من أربع قواعد بنائية للنيوكليوتيدات، الوحدة البنائية الرئيسية للحمض النووي. كما أن الأدينوزين يدخل في تركيب مواد كيميائية تسمى «ناقلات الطاقة» المعروفة باسم (AMP) و(ADP) و(ATP).
أثناء قيام أجسامنا بالأعمال اليومية، يتراكم الأدينوزين في أنسجة المخ، مما يتسبب في إغلاق نوع معين من المستقبلات الموجود في أغشية بعض الخلايا العصبية. هذا الأمر يتسبب في تقليل معدل تحفيز ونشاط هذه الخلايا، وبالتالي يقلل معدل حركة الإشارات العصبية من خلالها. ولأن بعض هذه الأعصاب مرتبطة بوظائف وحركة العضلات، فإن قلة نشاط الأعصاب يتسبب في الشعور بالخمول والثقل مع مرور الوقت، نتيجة لنقص الإشارات العصبية التحفيزية الواصلة للعضلات.
أيضًا، بعض هذه الأعصاب تتسبب في إرسال إشارات تؤدي لتوسيع الأوعية الدموية لضمان استمرار حصول الدماغ على إمدادات جيدة من الأكسجين، مما يتسبب في سحب الأكسجين من العضلات، وهو ما يسبب قلة نشاط العضلات. التأثير الأخير هذا مشابه لحالة الخمول التي تصيبنا بعد تناول وجبة دسمة نتيجة سحب أغلب الدورة الدموية باتجاه الجهاز الهضمي للمساعدة على هضم الوجبة؛ مما يقلل كمية الدم الذاهبة للعضلات.
كذلك، يؤثر تراكم الأدينوزين في بعض الأعصاب الأخرى التي ترتبط بالدوائر العصبية في الدماغ التي تدير الحالة المزاجية، مما يساعد في تفسير سبب أن الشعور بالإرهاق يصاحبه شعور بقلة السعادة وضيق المزاج.
وللتخلص من هذه الحالة الضبابية، فيجب على جسم الإنسان التخلص من الأدينوزين المتراكم في تلك الأعصاب. هذا يحتاج إلى التوقف عن العمل والعثور على مكان هادئ والانجراف نحو النوم. وبمجرد أن نستيقظ، ستصبح تلك المستقبلات التي كانت تعاني من تراكم الأدينوزين صافية مرة أخرى وتنطلق الأعصاب للعمل بكامل طاقتها، حتى تعود للانسداد مرة أخرى بالأدينوزين، وهكذا تستمر الدورة.
الكافيين والتخلص من تراكم الأدينوزين
إذًا، ما الذي يفعله الكافيين تحديدًا؟ عندما نتناول الكافيين، فإنه يذهب إلى منطقة المستقبلات ويبقى موجودًا هناك، ليحل محل الأدينوزين، وذلك نتيجة الشبه في تركيبهما الكيميائي. الفرق الوحيد بين تراكم الكافيين والأدينوزين هو أن الكافيين لا يطلق عملية بطء تحفيز الأعصاب مثلما يفعل الأدينوزين.
في غضون ساعتين من تناول فنجان الشاي أو القهوة تقريبًا، سيصل تركيز الكافيين إلى ذروته في الدماغ، مما يعني قدرته على طرد الأدينوزين من تلك المستقبلات والبقاء محله، فيزول ذلك الشعور بالخمول ويحصل الإنسان على المزاج الصاخب ويساعد عضلاتك على الشعور بالقوة أكثر.
ليس هذا فحسب، فبسبب عودة أنواع من الأعصاب للعمل بنشاط، فإن هذا ينعكس بدوره على دوائر وخلايا عصبية أخرى مرتبطة بالغدة النخامية في الدماغ، التي تشعر بأن هناك شيئًا مثيرًا يحدث، فتقوم بإرسال إشارات إلى الغدة الكظرية كي تطلق كميات من هرمون الأدرينالين، وهو هرمون يولد استجابات نحتاجها في أوقات التوتر أو الخطر، مما يجعل القلب ينبض بشكل أسرع قليلًا، وتتمدد حدقة العين، ويتحول الدم إلى عضلاتنا بشكل أكبر، وتطلق كميات من الكربوهيدرات المخزنة في الكبد إلى مجرى الدم، فتشعر بالطاقة تسري في كل عروقك حرفيًّا.
بكلمات أبسط، فإن الكافيين يحل محل هذه المادة الكيميائية في بعض العمليات مما يلغي فعاليتها، وبالتالي تتأثر فعالية بعض العمليات الحيوية المهمة وعلى رأسها تحفيز الأعصاب، وتحفيز إفراز الأدرينالين؛ مما يؤدي إلى خلق تفاعل متسلسل يعزز استجابة «القتال أو الهروب» في جميع أنحاء الجسم. هذه الاستجابة هي استجابة طبيعية تحدث في جسم الإنسان في أوقات الخطر والانفعال نتيجة تنشيط نوع معين من الأعصاب، وذلك بغرض تهيئة الجسم للتعامل مع هذا الموقف الصعب على الوجه الأكمل من أجل حماية حياة الإنسان.
هذا هو ما يفسر لنا أن تناول الكافيين لا يرتبط بقلة الشعور بالنعاس فقط، بل إنه يتسبب في ذلك الشعور بأن الجسم في حالة طاقة عالية. وهذا ما يفسر لنا لماذا تحتوي مشروبات الطاقة على كميات كبيرة من الكافيين كذلك. وهذا يفسر لنا أيضًا تلك النصائح التي تقول إن الكافيين يمكن أن يستخدم في إنقاص الوزن.