قد يكون من اللافت أن نرى شابًا (هو جابرييل بوريك) تجاوز بالكاد الخامسة والثلاثين من عمره، رئيسًا لواحدة من بلدان أمريكا اللاتينية، القارة صاحبة الإرث الطويل مع الحكم الديكتاتوري العسكري، والذي طالما رعته الولايات المتحدة، لكن ربما نتجاوز الدهشة حينما نعلم أن هذا البلد هو تشيلي، صاحبة النضال السياسي الطويل ضد الديكتاتورية العسكرية أيضًا، وربما تعرّف البعض على هذا التاريخ النضالي من خلال قاعات الدرس أو كتب التاريخ، وربما تعرّف البعض الآخر عليها من خلال الفيلم الشهير «No»، الذي يُجسِّد ملحمة الشعب التشيلي في تنحية الديكتاتور أوجستو بينوشيه خلال استفتاء عام 1988.
وما بين تنحية بينوشيه ووصول الرئيس الشاب جابرييل بوريك، اليساري وأحد القيادات الطلابية في واحدة من أضخم الحركات الاحتجاجية التي شهدتها البلاد، إلى سدة الحكم، كان هناك سنوات من النضال للشعب التشيلي، استحق بسببها هذا النصر المرحلي، الذي ربما يكتمل إذا استطاع الرئيس الشاب الانتصار لإرادة الشعب في الوصول إلى الحياة الكريمة.
استهداف الدولة.. خلاصة قصة تشيلي
استولى الجنرال أوجستو بينوشيه على الحكم عام 1973، بعدما انقلب على الرئيس اليساري المُنتخب سلفادور ألليندي، وحكم الجنرال البلاد على مدار 15 عامًا بالحديد والنار، ومن أجل ترسيخ حكمه، صبّ جلّ مجهوداته في القضاء على الأحزاب والقادة السياسيين في البلاد، أي تجريف الحياة السياسية.
أوجيستو بينوشيه
كان بينوشيه يُدرك أنه ستأتي عليه لحظة ويضطر فيها إلى استخدام الأدوات الانتخابية لإضفاء مظاهر الشرعية على نظامه السياسي، وتلبية مطالب المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة، وكان يأمل في الوصول إلى تلك اللحظة بعدما يكون قد امتلك الأرض وما عليها، وقد ظهر ذلك في صياغته لدستور عام 1980، الذي حدّ من السيادة الشعبية، ومنح مجلسه العسكري السيادة على معظم الهيئات المُنتخبة.
ورغم كل ما سبق فقد استطاعت المعارضة السياسية الالتفاف حول هدف واحد، وهو إسقاط حكم بينوشيه، وكانت فرصتهم الأولى هي استفتاء عام 1988 لتحديد ما إذا كان بينوشيه سيستمر في حكم البلاد، أم تجري إزاحته لصالح رئيس جديد تختاره الجماهير في انتخابات حرة، وبالفعل تمكّنت أحزاب المعارضة (16 حزبًا) بمختلف توجهاتهم السياسية عام 1989 من التوحّد وتجاوز الخلافات الأيديولوجية، وشكّلوا تحالفًا تحت اسم «القيادة من أجل لا».
احتجاجات المعارضة في تشيلي ضد بينوشيه
لم تكن هذه اللحظة سوى بداية مرحلة جديدة لنضال الشعب من أجل حقوقه وحرياته، وخلال هذه السنوات توصلت المعارضة والجماهير للخلاصة الأهم في تاريخها النضالي، وهي أن حركة الاحتجاج والمطالب الشعبية يجب أن تستهدف الدولة باعتبارها مصدرًا مركزيًا للسلطة في المجتمع، فالدولة ومديروها لديهم مفاتيح كل شيء، وعندما يكون تمثيل الفقراء والعمال غير كافٍ في قاعات الحكم، سيكون على الأشخاص العاديين التمرد في أماكن عملهم والنزول إلى الشوارع لإجبار الجهات الفاعلة الحكومية على تقديم التنازلات.
طغت هذه الخلاصة التاريخية على السلوك الاحتجاجي منذ عام 2007، عندما قاد العمال الشيوعيون سلسلة من الإضرابات ضد شركة النحاس العملاقة الحكومية (CODELCO)، إذ عطَّل عشرات الآلاف من الموظفين الإنتاج لأشهر متتالية، فقد استغل العمال اعتماد الحكومة على النحاس، الذي يمثل نصف إجمالي الصادرات، وحوالي عُشر الناتج المحلي الإجمالي، لفرض مطالبهم.
ومنذ ذلك الحين شكّل اتحاد عمال النحاس (CTC) قوة جماهيرية ضاربة، توصّلت لعقد اتفاقيات مع الحكومة وكبرى الشركات لضمان حقوق العمال، وتحسين الأجور، ورفع مستويات الحماية في أماكن العمل، وحشد النشطاء العماليين الراديكاليين قوتهم للدفاع عن إصلاحات اجتماعية وسياسية أوسع.
التطور اللاحق كان عام 2011، عندما انطلقت حركة احتجاجية طلابية هي الأوسع نطاقًا منذ الثمانينات؛ إذ احتج الطلاب على نظام التعليم المشوه الموروث من النظام العسكري، واستغل كبار السن هذا الزخم، وبدأوا في النزول إلى الشوارع لرفض نظام المعاشات التقاعدية، بل شكّلوا حركة جماهيرية كبيرة، لدرجة أنها صارت تحتشد دوريًا بشكل روتيني، وتجمع مئات الآلاف من المتقاعدين وأنصارهم، وصولًا إلى عام 2017 حين تظاهر أكثر من نصف مليون شخص في العاصمة سانتياجو.
في غضون ذلك ظهرت حركة نسوية راديكالية وصلت إلى مستويات تعبئة غير مسبوقة، فبدأت شبكات الجماعات النسائية والتجمعات من الجامعات ومنظمات المجتمع المدني في تنسيق أعمالها، ثم جذبت ما يقرب من 100 ألف فرد في عام 2018، واستمرت «الثورة النسوية» في تشيلي ضد كراهية النساء وسوء المعاملة وعدم المساواة، ووصلت تعبئة الحركة إلى ذروتها في أواخر أكتوبر (تشرين الأول) 2019 عندما تظاهر حوالي 3 ملايين في جميع أنحاء البلاد ضد حكومة سيباستيان بينيرا اليمينية.
وسجّلت موجة التعبئة مستويات متزايدة من السخط الشعبي، ولفتت انتباه الطبقة الحاكمة، التي نفّذت بدورها عددًا من الإصلاحات السياسية، وقامت بتغيير القواعد الانتخابية ونظام التمثيل في البلاد، بل واضطرت الحكومة إلى زيادة الضرائب على الشركات والأثرياء، ودفع المزيد من التمويل لدعم تعليم الطلاب الأكثر فقرًا.
وعلى خلفية هذه الإصلاحات، صار هناك كتلة يسارية حقيقية في البرلمان، ثم ما لبثت الحكومة أن توجهت إلى الإصلاح الدستوري، من خلال فتح المجال أمام وضع دستور جديد؛ إذ صوّت الشعب على إلغاء العمل بالدستور القديم في أكتوبر 2020، ثم جرى انتخاب هيئة تمثيلية، في مايو (آيار) 2021، لتضع الدستور الجديد، ومال التمثيل في هذه الهيئة إلى اليسار والأقليات والنساء.
جابرييل بوريك.. رئيس مع الفقراء ويدعم فلسطين
بعد عشر سنوات من قيادته للحركة الطلابية، التي ساهمت في الحراك الشعبي في تشيلي لاحقًا والتي توجت بتعديل الدستور لاحقًا، يقف جابرييل بوريك اليوم منتصرًا على خصمه في انتخابات الرئاسة، خوسيه أنطونيو كاست، ممثل اليمين المتطرف، والتلميذ الوفي للديكتاتور بينوشيه.
وصل بوريك إلى الانتخابات من خلال تحالف يساري، قاده حزبه المؤسس عام 2017 «التقارب الاجتماعي» ومن خلال برنامج يركز على العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان والبيئة والنسوية، وانتصر الحزب بعدما حصل على 56% من أصوات الناخبين، في انتخابات هي الأكثر جماهيرية منذ عام 2012، بعدما شهدت نسبة مشاركة تعدت 56%.
خلال الحملة الانتخابية وعد جابرييل بوريك مرارًا وتكرارًا بدفن «النيوليبرالية» (وهي نظرية تفترض أن أفضل وسيلة لتعزيز سعادة الإنسان ورخائه تكمن في إطلاق حريات الفرد ومهاراته في القيام بمشاريعه وأعماله، ضمن إطار مؤسساتي يتصف بحقوق قوية للملكية الخاصة والأسواق والتجارة الحرة)، وجعْل بلاده ديمقراطية اجتماعية.
ولكن مع هذا الفوز الباهر، يواجه جابرييل بوريك طريقًا صعبة في المستقبل، إذ إن ائتلافه الانتخابي يملك 37 مقعدًا فقط من بين مقاعد البرلمان الـ155، لذلك سيتعين عليه الوصول إلى اتفاقيات واسعة لتمرير الإصلاحات التي يريدها، والتي تشمل: رفع الضرائب لتصل حصيلتها إلى نسبة 8% من الناتج المحلي الإجمالي، وتخفيض عدد ساعات العمل في الأسبوع إلى 40 ساعة، وزيادة الحد الأدنى للأجور، وتأسيس نظام رعاية صحية شامل، وإعفاء الطلاب من ديونهم الائتمانية.
وتأتي صعوبة مهمة جابرييل بوريك بسبب الوضع الاقتصادي السيئ لتشيلي؛ إذ وصل معدل التضخم إلى 6.7%، في حين أن العجز في طريقه للوصول إلى 8.3% من الناتج المحلي الإجمالي، وكذلك وصل الدين العام إلى مستويات عالية، وفوق كل هذا، فإن البلاد بصدد إعادة كتابة دستورها، الذي سيجري إقراره في استفتاء في النصف الثاني من العام المقبل، ويهيمن اليسار والمستقلون على الهيئة المكلفة بصياغة الميثاق، ويكاد يكون من المؤكد أنهم سيكرسون المزيد من الحقوق الاجتماعية في الوثيقة، وهي الحقوق التي ستضطر الدولة إلى دفع تكاليفها.
وعلى مستوى السياسة الخارجية يعد جابرييل بوريك أحد أشد منتقدي إسرائيل، ولطالما أدان علانيةً السياسة الإسرائيلية، وطالبها بإعادة الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتي استولت عليها بشكل غير قانوني، بجانب تأييده لمشروع قانون اقترح مقاطعة البضائع الإسرائيلية من الجولان ومستوطنات الضفة الغربية ومناطق القدس التي خضعت للسيطرة الإسرائيلية عام 1967.
لذا فإن الشعب التشيلي وبعد عقود من مقاومة السلطات العسكرية في عهد بينوشيه، والحكومات اليمنية التي أتت بعده، أوصل رئيس يساري إلى السلطة، أملًا في إعادة بناء نظامها السياسي، وتعويض الملايين عن سنوات النضال والشقاء السابقة، صحيح أن النتائج غير مضمونة بكل تأكيد، إلا أن المشهد الحالي حافل بالأمل، مثلما كانت حملات المعارضة عام 1988 حافلة بالأمل، وهي تدعو إلى التخلص من الديكتاتور بينوشيه.