فلو أبصرت عيناك ما صار حالنا إليه لجادت بالدموع الغزيرة
فيا ويلنا يا بؤس ما قد أصابنا من البؤس والبلوى وثوب المذلة
كانت هذه أبيات من قصيدة طويلة، لا يُعرف صاحبها، وجّهها أهل الأندلس إلى السلطان العثماني بايزيد الثاني، في القرن الخامس عشر الميلادي يشرحون له فيها أحوالهم ويستنجدون بسلطان أكبر دولة إسلامية في ذلك الزمان، ولم تكن تلك أول استغاثة وجهها أهل الأندلس إلى ملوك الدول الإسلامية من المماليك، والعثمانيين، وحكام المغرب العربي، لكن الدولة العثمانية كانت الملاذ الأخير لأهل الأندلس لفترة طويلة؛ إذ كانت الدولة الأقوى، فما الذي أجابت به الدولة العثمانية على هذه الأبيات وما الذي قدمته إلى الأندلس؟
حين تأرجحت موازين القوى في الشرق كانت غرناطة في أيامها الأخيرة
كان العالم الإسلامي يتغير بشكل مطرد في القرن الخامس عشر الميلادي؛ إذ تغيرت موازين القوى في الشرق والغرب؛ فقد كان المماليك الجراكسة يسيطرون على مصر، فيما كانت الدولة العثمانية تواصل السيطرة على البلقان والأناضول، وفي الغرب كانت الأندلس – أو بقاياها متمثلة في مملكة غرناطة – تدخل مرحلة الاحتضار.
لذا أرسل ملوك غرناطة إلى السلطان المملوكي الأشرف برسباي (1421- 1437) يستنجدون به من الهجمات القشتالية المتوالية، لكن بُعد المسافة كان يعوق المماليك عن تقديم أية مساعدة لإنقاذهم، ولم يكن لدى المماليك أسطولًا قويًا يمكّنهم من قطع المسافة البحر إلى غرناطة، فأشار عليهم السلطان الأشرف بالاستعانة بالسلطان العثماني مراد الثاني.
لاحقًا حين اعتلى ألفونسو الخامس عشر عرش أراجون (1416 – 1458) سعى للتحالف مع ملك الحبشة لإحكام محاصرة مصر، فصعّب ذلك على مصر الاستجابة لاستنجادات غرناطة المتوالية، فباتت مهددة من الشمال بعد أن استولت قشتالة على جبل طارق عام 1462، ومهددة من الحبشة جنوبًا، في وقت شهدت فيه مصر عدم استقرار داخلي بسبب صراع المماليك على السلطة، فلم يجد أهل غرناطة سوى الاستنجاد بالعثمانيين.
ومن عندكم نرجو زوال كروبنا وما نالنا من سوء حال وذلة
فأنتم بحمد الله خير ملوكنا وعزتكم تعلو على كل عزة
أرسلت الدولة العثمانية عام 1468 أسطولًا بقيادة كمال الريس، القائد البحري العثماني، للجهاد ضد الإسبان في البحر المتوسط وإنقاذ مسلمي الأندلس، ثم أرسلت أسطولًا بحريًا آخر لتخريب السواحل الإسبانية عام 1486، وفي عام 1491 (قبل سقوط غرناطة بعام واحد) عقد السلطان المملوكي قايتباي اتفاقية صلح مع السلطان العثماني بايزيد الثاني للتعاون من أجل إنقاذ الأندلس بأن ترسل الدولة العثمانية أسطولًا إلى غرب البحر المتوسط لقتال الإسبان، ويلاحقهم المماليك بجيش بري عبر المغرب العربي.
لكن الظروف الداخلية لدولة المماليك حالت دون تقديم أي مساعدة، فاكتفوا بالجهود الدبلوماسية وإرسال السفراء والرسائل إلى الملوك الكاثوليك، أما الأسطول العثماني فقد نجح في التوغل في البحر المتوسط وشن غارات على صقلية، وسردينيا، وكورسيكا، وجزر البليار الحليفة لإسبانيا، كما توغل في المياه الإسبانية وقصف موانئ تابعة لمملكة أراجون، واستولى على ميناء ملقا.
لكن تلك العمليات التي تواصلت في البحر لم تكن من القوة بحيث تمنع سقوط مملكة غرناطة في النهاية عام 1492، إذ كان العثمانيون مشغولين بالسيطرة على الشرق ومواجهة الدولة الصفوية من جهة، وأخيرًا ضم دولة المماليك التي ظهر عجزها تمامًا، ورأى العثمانيون التوجه للسيطرة عليها.
لماذا أخفقت جهود العثمانيين في نصرة الأندلس؟
في كتابها «العصر المملوكي من تصفية الوجود الصليبي إلى بداية الهجمة الأوروبية الثانية» تفسر الدكتورة نادية مصطفى أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة، الموقف العثماني من الأندلس ولماذا بدت المساعدات إلى الأندلس عمومًا وإلى غرناطة قبل سقوطها ضئيلة، فتقول إن السقوط الفعلي للأندلس بدأ بسقوط إمارة طليطلة عام 487 هـ – 1085م قبل قيام الدولة العثمانية بنحو 200 عام، فحين كانت الإمارة العثمانية الناشئة تخوض غمار التحول نحو امبراطورية كبرى عبر فتوحاتها في البلقان كان سقوط الإمارات الأندلسية يتوالى، إلى أن بقيت إمارة غرناطة وحيدة.
وظلت غرناطة لسنوات إمارة قوية باقية على أطراف إسبانيا، تمثل تهديدًا لقشتالة بأن يعبر العثمانيون من خلالها إلى أوروبا كما حدث من قبل عند الفتح العربي، لكن الضعف التدريجي الذي شهدته الإمارة بسبب هجمات الإسبان من جهة وظروفها الداخلية والصراع على السلطة فيها من جهة أخرى، جعل من إنقاذها صعب، إذ كان على الدولة العثمانية إرسال جيوشها البرية لتخترق أوروبا، بينما الدول الأوروبية تتربص بها بعد إعادة فتح البلقان والتوسع فيه وسقوط القسطنطينية.
كان هناك سبب آخر لضعف الفاعلية في إنقاذ غرناطة فقد كانت علاقات العثمانيين في الشرق تشهد صدامات جديدة مع الدولة المملوكية، وتفاقمت الأوضاع بظهور الدولة الصفوية في إيران، ولم يكن العثمانيون يفضّلون فتح أكثر من جبهة للصراع، فبقيت عينهم على الشرق، فضلًا عن أن مساعدة الأندلس كانت تتطلب قوة بحرية لم تتوفر للعثمانيين إلا بعد نصف قرن من سقوط القسطنطينية أي في عام 1503م تقريبًا، أي بعد سقوط غرناطة بأكثر من عقد من الزمان.
وفي هذا الصدد أشار المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي إلى أن القوة البحرية العثمانية لو كانت قد بلغت أوج قوتها قبل ذلك بـ30 عامًا فقط، لتغير الكثير في مجريات الأحداث في تلك المنطقة، إذ كانت ستمكنها من إنقاذ غرناطة من السقوط، والسيطرة على البحر المتوسط ومنع الكشوفات البحرية الإسبانية فيه، لكن تنامي القوة البحرية العثمانية حدث بعد أن كانت الإسبان قد وضعوا قدمًا ثابتة في عدة مواقع في شمال أفريقيا وأسقطوا غرناطة بالفعل.
جهود السلاطين العثمانيين لاستعادة الأندلس
بعد سقوط غرناطة بذل العثمانيون جهودًا أخرى في حوض البحر المتوسط من أجل استعادة الأندلس، خاصة بعد أن تواصلت استغاثات مسلمي الأندلس الذين بدأت عمليات طردهم وتنصير المتبقين منهم، فساند العثمانيون «حركة الجهاد البحري» التي تزعمها الأخوان عروج وخير الدين بربروس.
خير الدين بربروس – المصدر :resalapost.com
كان الأخوان قد تمكنا من تكوين إمارة مستقلة في جزء من أرض المغرب اتخذا منها قاعدة للهجوم على السواحل الإسبانية ومساعدة الأندلسيين (الموريسكيين) الذي طُردوا من الأندلس، وبعد مقتل أخيه عروج عام 1518، انضوى خير الدين تحت لواء الدولة العثمانية ليستعين بأكبر دولة إسلامية في المنطقة على تحقيق أهدافه.
واستطاع خير الدين أن يبسط نفوذه على غرب البحر المتوسط، لمساعدة الفارين من الأندلس وإنقاذ سواحل المغرب العربي من هجمات الإسبان والبرتغاليين، ثم استدعاه السلطان سليمان القانوني إلى اسطنبول لتكليفه بالمهمة التي عزم عليها السلطان بعد أن أتم سيطرته على بلغراد عام 1521؛ وهي مهمة استعادة الأندلس.
وعاد خير الدين إلى المغرب ليبدأ حملات عسكرية على السواحل الإسبانية إلى جانب تطهير سواحل المغرب العربي من الوجود الإسباني، وتقوية الدفاعات العسكرية في الجزائر وزيادة عدد القلاع على سواحلها، وكان حسن بن خير الدين قد تولى في عام 1544 ولاية الجزائر في الوقت الذي بدأت فيه الدولة العثمانية جهودها لاستعادة الأندلس بعد أن وطدت وجودها في غرب البحر المتوسط، فعمل حسين على توحيد الجيش واستعادة المدن الجزائرية التي كانت لا تزال تحت النفوذ الإسباني مثل بجاية.
وسعيًا لتوحيد الجبهة الإسلامية اتصل حسن بن خير الدين بالسعديين – حكام المغرب – لإنجاز هذا التحالف، فيما أرسل السلطان العثماني للتحالف جيشًا من 20 ألف جندي انضم إليه كثير من الموريسكيين واتجهوا إلى المغرب ليكونوا تحت قيادة الملك السعدي محمد الشيخ.
استعان السعدي بهذا الجيش للقضاء على خصومه «الوطاسيين» (وهم فرع إحد القبائل الأمازيغية في المغرب، سيطروا على الحكم فيه وشكلوا خطرا على السعديين ونافسوهم على حكم المغرب) فأنهى حكمهم في فاس، ليفرغ للمهمة القادمة، وهي استعادة الأندلس، وفي هذه الأثناء كان حسن بن خير الدين يعدّ جيشًا آخر من 14 ألف جندي أرسله تحت قيادة حسن قورصو إلى مدينة «مستغانم» ليلتقي بجيش السعدي ويتوجها معًا للسيطرة على وهران التي كانت تحت سيطرة الإسبان.
لكن السعديين خشوا من تعاظم قوة العثمانيين في المنطقة، فاستبقوا جيش حسن قورصو واتجهوا إلى تلمسان ثم مستغانم واستولوا عليهما، فيما قرر حسن قورصو السيطرة على تلمسان عام 1551، ليتحول الأمر إلى مواجهة بين الجيشين بدلًا عن التعاون والتوجه نحو المدن التي تسيطر عليها إسبانيا.
استرضاء ثم عداء.. هذا حاول العثمانيون افتكاك المغرب من التحالف مع الإسبان
في عام 1552 وصلت إلى محمد الشيخ السعدي حاكم فاس رسالة من السلطان العثماني سليمان القانوني، بدت استرضاءً كافيًا له، في خطوة دبلوماسية اتخذها العثمانيون لوضع حدّ للخلاف مع المغرب، الذي بدا عقبة كبيرة في طريق العثمانيين نحو استعادة الأندلس.
وفي الرسالة نفسها قرر سليمان القانوني عزل واليه حسن بن خير الدين، إذ قال: «إن أمير الأمراء بولاية الجزائر سابقًا حسن باشا لم يحسن المجاورة مع جيرانه ومال إلى جانب العنف والاعتساف ونبذ وراء ظهره طرق الوفاق والائتلاف وسد باب الاتحاد مع المجاهدين حماة الدين، لذلك بدلناهم غيره، فأنعمنا بولاية الجزائر على صالح الريس دام إقباله لفرط شهامته وشجاعته وكمال دينه».
كان صالح الريس من القادة الذين عملوا مع خير الدين بربروس، وقد كلفه السلطان سليمان القانوني بإعلان النفير العام للسير نحو الأندلس، فبدأ الريس عمله بتوحيد صفوف الجزائر وكلفه السلطان سرًا بتوحيد الجهود الإسلامية وضم المغرب إلى الدولة العثمانية للتخلص من الدولة السعدية بعد تأكده من فشل التحالف معها كما حدث سابقًا، وفي إسطنبول عملت دار صناعة السفن على إعداد عشر سفن وتجهيزها بالسلاح والبارود لتبحر إلى شواطئ الجزائر.
وقد هدفت سياسة صالح ريس إلى استبعاد الإسبان من سواحل الشمال الأفريقي، ووضع حد لاعتداءات السلاطين السعديين على القوى العثمانية إذ كانوا يلجأون إلى القوى المسيحية لتحقيق مصالحهم مرةً بعد أخرى، ونجح صالح ريس في استعادة وهران وما حولها من يد إسبانيا، لكنه فوجئ بالسعديين يستولون على فاس مرة أخرى بعد أن كان قد أتم السيطرة عليها لشهور، إذ تعاون السعديون مع الإسبان لطرد العثمانيين من الجزائر، وتقسيم الممتلكات العثمانية هناك فيما بينهما.
وحين علم السلطان سليمان القانوني بذلك التعاون بين الإسبان والسعديين أرسل مددًا بحريًا من 40 سفينة وآلاف المجاهدين، لكن صالح الريس تُوفي أثناء زحف الجيوش نحو وهران، واضطر السلطان إلى إعادة حسن بن خير الدين واليا على الجزائر، لكن تحقيق أهداف العثمانيين في المنطقة كان يزداد صعوبة مع الوقت.
قلج علي.. الوالي العثماني الذي دعم ثورة الموريسيكيين ضد الإسبان
في عام 1568 عين السلطان سليم الثاني قلج علي واليًا على الجزائر، وكان الرجل أحد قادة الجهاد البحري الذين عُرفوا بالشجاعة والخبرة، وكان قبلها واليًا على تلمسان وحاول خلال فترة ولايته تلك تقديم الدعم لثورات الموريكسيين ضد الإسبان.
رأى قلج علي أن يبدأ محاولاته من تونس التي كان السلطان الحفصي قد استولى عليها بالتعاون مع الإسبان، وأثناء تلك المحاولات لتطهير المغرب العربي من جديد واستعادة نفوذ العثمانيين في المنطقة، كانت الأندلس تموج بثورة أعد لها الموريسكيون في وقتٍ كانوا يعانون فيه من أزمات اقتصادية، وازدياد التضييق عليهم، فحُرموا من الاتصال مع مسلمي المغرب العربي، ومُنعوا من التحدث بالعربية وأُجبرت النساء على عدم الخروج بالحجاب.
من ثورة الموريسيكيين- المصدر: marayana.com
ومن الداخل أرسل مسلمو الأندلس إلى السلطان الغالب بالله السعدي لإعانتهم بالسلاح والمؤن، لكنه خذلهم بسبب تعاونه مع الإسبان، لمواجهة «الخطر العثماني في المنطقة»، فلجأ الموريسيكون إلى قلج علي، وأخطروه بالنظام العسكري الدقيق الذي نظّموا به صفوفهم، وطلبوا منه المدد في الثورة التي بدأت ليلة عيد الميلاد عام 1568 من جبال البشرات.
في المقابل أرسل السلطان العثماني في عام 1569 رسالة إلى المويسكيين يطلب منهم عدم التراخي مع الإسبان ويعدهم بالمساعدة، ويوصيهم «فلتظهروا أنواع إقدامكم وأصناف اهتمامكم في الحرب والقتال، ولا تتوانوا عن إعلامنا باستمرار عن أحوال وأوضاع تلك الديار»
استطاع قلج علي إرسال 4 آلاف من جنود الجيش العثماني لمساندة الثوار، لكنه لم يتمكن من مواصلة تقديم المساعدات والأسلحة إذ علم الإسبان بالمناطق التي جرى الاتفاق على إنزال الجنود فيها على السواحل الإسبانية واستطاعوا منعهم، وتمكنت إسبانيا من القضاء على الثورة من الداخل.
الأندلس لن تعود.. آخر محاولات العثمانين لاستعادة «الفردوس المفقود»
كانت آخر محاولات الدولة العثمانية لتقديم العون لمسلمي الأندلس، واستعادتها، عام 1580 في عهد السلطان مراد الثالث، الذي طرق باب السعديين مرة أخرى للتعاون معهم، لكن تذبذب السلطان السعدي أحمد منصور دفعه لإصدار الأوامر إلى قائده قلج علي بأن يتوجه لضم المغرب إلى الدولة العثمانية.
لكن الدولة العثمانية انشغلت بعد ذلك بمواجهة الدولة الصفوية في إيران وحماية الأماكن المقدسة في الحجاز من البرتغاليين ومحاربة «آل هابسبرج» في وسط أوروبا، فتراجع العثمانيون عن ضم المغرب، وكان آخر ما تبقى من جهود العثمانيين هو محاولات قائدها قلج علي بالتعاون مع والي الجزائر حسن فنريانر لا لاستعادة الأندلس، وإنما لإنقاذ عدد كبير من مسلمي الداخل، ونقلهم من ثغر بلنسية إلى الجزائر.
وعند هذا الحد توقفت محاولات الدولة العثمانية لاسترداد الأندلس الذي بدا صعب المنال، واكتفت الدولة العثمانية بالحفاظ على ما ضمته أراضيها دون أن تسعى لضم المزيد، قبل أن تنشغل بعد ذلك بضعف داخلي بدأ يتسلل إلى الدولة الإسلامية الكبرى.
علامات
الأندلس, الجزائر, الدولة العثمانية, السواحل الإسبانية, المغرب, بايزيد الثاني, تونس, خير الدين بربروس, صالح ريس, غرناطة, قلج علي